* عمر إدلبي
لم يعد مجدياً القفز على حقيقة أن الصراع في سوريا بات صراعاً دولياً متعدد الأقطاب والمحاور والأطراف، ولم يعد مجدياً بالتالي طرح مشاريع تسويات تتغافل عن هذه الحقيقة المرة، خاصة أن التدخل “الأجنبي” في هذا الصراع بات مكشوفاً ومصرحاً به من قبل عدة دول، ومسكوتاً عنه من دول أخرى، يرى بعضها أن تأزيم هذا الصراع لا يضر مصالحها الحيوية، إن لم يكن مساعداً لها على تحقيق هذه المصالح بلا تكلفة ولا تضحيات.
القضية السورية أصبحت مسألة داخلية في روسيا، وتناقش المسألة السورية اليوم في الأوساط الروسية على مختلف المستويات على أنها قضية أمن قومي، وقلة قليلة للغاية في موسكو من السياسيين والنخب يتساءلون: لماذا نذهب للحرب دعماً لديكتاتور ثار عليه شعبه، وتنبذه معظم شعوب وقادة العالم، فضلاً عن كونه مجرم حرب في نظر كل هؤلاء، وفي نظر معظم شعبه أيضاً؟
وحتى نكون صادقين مع أنفسنا، علينا الإعتراف أن الروس تدخلوا عسكرياً في سوريا، مدعومين بأسلحة متنوعة الفعالية، شديدة التأثير في مجريات الصراع، وفي مقدمة هذه الأسلحة حصيلة خبرات تدخلهم السابق في أفغانستان، وجورجيا، وأوكرايينا، وحربهم في الشيشان، ويبدو جلياً أن القرار الروسي يقضي بعدم السماح مطلقاً بتكرار هزيمة أفغانستان.
وبالمقابل، يبدو جلياً أيضاً أن الروس درسوا خطواتهم جيداً قبل مغامرتهم العسكرية في سوريا، وتفحصوا بعناية الأوضاع الدولية، والإقليمية، ويحققون بثبات نجاحات واضحة، بطيئة وصغيرة، لكنها تتراكم لتحدث مع الوقت تحولات جادة في مشهد الصراع الدامي في سوريا، وفي التوازنات الدولية، مستفيدين من الضعف الأوروبي الجلي، والانكفاء الأميركي الأكثر جلاء، والتخوف التركي والعربي من صدام غير محمود العواقب مع الاندفاعة الروسية الشرسة.
إيران بدورها تحارب في سوريا بقواتها ومليشياتها الطائفية وأسلحتها، ومالها، بلا هوادة، لأنها تدرك جيداً أن كل ما حققته خلال العقد الأخير من نجاحات في مد نفوذها في المنطقة، مهددٌ بالزوال، فيما لو خسرت أقوى حلفاء مشروعها في المنطقة، وهو نظام الأسد، واسطة عقد مشروعها الذي يسميه البعض “الهلال الشيعي”، وهو مشروع لم تضطر للدفاع عنه عسكرياً بنفسها وبكل هذه الشراسة والوضوح إلا عندما ثار الشعب السوري في وجه نظام الأسد، وبدا أن الثوار على وشك الإطاحة به في قلب العاصمة دمشق في بداية العام 2013.
ومن السذاجة التعويل على انعطافة إيرانية نحو حل سياسي في سوريا لا يضمن لها استمرار هيمنتها، إن لم نقل احتلالها، وسيطرتها على توجهات أي نظام حكم قادم في سوريا.
تركيا لم تطق صبراً بعد 5 سنين ونصف السنة من الصراع في سوريا على الوقوف متفرجة فيما يشيد الانفصاليون الكرد أسس دولتهم المزعومة على حدودها الجنوبية، فاندفعت عسكرياً لتقطيع أوصال هذا الكيان الكردي الوليد، والانقضاض على ما بدا أنه تحالف أميركي، بموافقة روسية، مع الفصائل المسلحة الكردية الإنفصالية، في ظل وهن الإدارة الأميركية الحالية وانشغالها بترتيب ساحة الإنتخابات الرئاسية، وحرصها على عدم خسارة الحليف التركي، بعدما قرر هذا الحليف “التاريخي” إعادة تنظيم علاقته بروسيا على قاعدة الممكن في السياسة.
ويبدو والحال كذلك أن ما سمي في وقت ما “التحالف الدولي ضد الإهاب في سوريا والعراق” صار مجرد هيكل فارغ من مضمونه الذي ادعاه مؤسسوه فيما مضى، وأن الدول صاحبة المصالح الواضحة في سوريا انطلقت للتصرف بإراداتها المنفردة، دون أن تقيم وزناً لتعهدات وضمانات قدمتها لبعضها وهي تصيغ أو توافق على وثائق وبيانات وإعلانات جنيف وفيينا وغيرها من توافقات قررتها في وقت سابق كأسس بنيت عليها تسويات ومقترحات للحل السوري.
وإذا كانت روسيا جاءت بعسكرها وأسلحتها إلى سوريا لتبقى، وهذا ليس تشاؤماً بمقدار ما هو إقرار بواقع حال سياسة كرملين بوتين، وإذا كانت إيران تحارب بلا تردد ولا خوف من أجل مشروعها ووجودها كقوة إقليمية نافذة، وكذلك تركيا تقاتل للحفاظ على وجودها، ووحدتها، والسوريون “الثوار منهم” يقاتلون وسط هذا الواقع المرير من أجل وجودهم ووحدة بلادهم، وجلاء محتلي أرضهم وقرارهم الوطني، ولا يبدو أن بأيديهم حالياً ما يضمن حسم صراعهم حالياً لمصلحة هذه الأهداف، فإن فحص هذا الواقع يفيد بأن صراعاً “صفرياً” سيستمر في سوريا إلى أمد طويل، ما دامت مصالح الأطراف الدولية والإقليمية متضاربة حتى حدود استحالة التوافق على مشتركات أولية، وما دامت هذه الأطراف لا تجد أي رادع لطموحاتها، أو وسيلة “غير عسكرية” تحفظ لها مصالحها، وما دام الثوار السوريون تتنازعهم أهواؤهم غير عابئين أو غير مدركين لمخاطر هذا النزاع والتشتت.
الصراع “صفري” كما نزعم لأن كل أطرافه تخوضه دون أن تبدي أي رغبة في تفهم مصلحة السوريين قبل كل شيء، ولا في مصالح الأطراف الأخرى، ويمارس العناد بدل السياسة، مدفوعاً بأوهام عن حدود قوته وقدراته على فرض مصالحه على الأطراف الأخرى، حتى فصائل الثورة السورية والقوى الإسلامية المحسوبة عليها تبدو كما لو أنها تخوض صراعاً من أجل وجودها كفصائل ومن أجل راياتها لا راية الثورة، لا من أجل وطن مستباح من كل حدب وصوب.
ولا يفكر أحد بمصير شعب قتل منه مئات الآلاف، وهجر بالملايين، ودمرت مؤسسات دولته ومقدراته وأجياله القادمة، وسيجد الكثيرون من أبنائه أنفسهم أمام حائط مستقبل مسدود، قد يدفعهم اليأس منه إلى حيث ينتظر التطرف والإرهاب أمثالهم.
ماذا عن نظام الأسد في هذا الصراع الصفري؟
تقول قاعدةٌ فقهية معتبرة: “الساقط لا يعود”، وهذا صحيح منطقياً، ونظام الأسد يخوض حرباً يحاول التعامي عن نتيجتها الحتمية، وهي خروجه صفر اليدين، إلا من دم السوريين، مهما حاول وفعل وقتل وشرد وتحالف مع أطراف خارجية ستلفظها الأرض السورية مهما طال وتعقد الصراع، والساقط لا يعول عليه أحد، حتى من يدعمه الآن.
الأرض السورية ستلفظ جميع “الآخرين” من قتلة أبنائها، عاجلاً أم آجلاً، من غير السوريين، أم سوريين حتى، فهم في المحصلة “آخرين” لأن من يقتل شعبه أيضاً لا يستحق أن ينسب له.
وكم سيكون حسناً لو تنادى أبناؤها الأحرار الآن وقبل مزيد من دماء السوريين النازفة لفعل كل ما يلزم، ولا سيما وحدة كلمتهم وقواهم المشتتة، من أجل سوريا، وطناً لكل السوريين، لا إقصاء فيه ولا تمييز، يقيم المحاسبة لتردع القاتل وتحقق العدالة، ومن المخجل أن بعض أبنائها يعرفون هذه الحقيقة ولا يعملون لأجلها.
* نقلاً عن: “مدونات الجزيرة”
عذراً التعليقات مغلقة