انحسرت سريعاً الضجة التي أثارها الكشف عن صور التلسكوب العملاق “جيمس ويب”، وصار في وسعنا القول أن عالم ما بعد جيمس ويب لا يختلف عن عالم ما قبل جيمس ويب. جو بايدن مثلاً، الذي كشف عن أول الصور التي قدمتها وكالة ناسا، ليس من المحتمل أن يكون قد حمل حكمة مما رأى ليستخدمها في زيارته الأخيرة إلى المنطقة، كأن يطالب يائير لبيد بالاتعاظ من صغر كوكبنا وتقديم تنازلات لأخيه في الإنسانية محمود عباس.
أيضاً، لن يتعظ بوتين وأردوغان ورئيسي في قمتهم المقبلة في طهران، ولن يفكروا في أن مناطق النفوذ التي يتنازعون عليها في سوريا هي تماماً لاشيء طالما أن الأرض برمتها تساوي حبة رمل صغيرة في الكون الواسع. كذلك، سيكون من المبالغة ردّ قرار الرياض فتح أجوائها أمام جميع الطائرات المدنية، بما فيها الإسرائيلية، إلى نزعة كونية استجدت بفضل صور ناسا الجديدة!
بالطبع كان من حق البشرية الاحتفال بإنجاز تقني نوعي أتت بحصيلته الصور، من دون التعويل على نتائج أخرى مباشرة أو سريعة خارج حقل علم الفضاء. المشكلة في ديارنا، وقد لا تكون في ديارنا فقط، هي في فورة الحماس لتلك الصور، والنظر إليها كعلامة فارقة ستغيّر الكثير من القناعات. والمشكلة بدرجة أقل في ذلك الانبهار بصور ناسا جمالياً، الصور التي تقدّم لنا ما يشبه الفن التجريدي الذي يفتقر كثيراً إلى المعجبين في بلداننا.
مما شهدته فورة الحماس، ذلك الافتراق بين مؤمنين وملحدين حول تفسيرها، فضلاً عن الافتراق ضمن المؤمنين أنفسهم بين مصدّق للصور ومَن يراها مزيّفة أصلاً. الطريف، الذي لا تفسير له حقاً، أن الملحدين رأوا في صور ناسا “التي تقترب من اللحظة المفترضة للانفجار العظيم” سنداً لدحض فكرة الإيمان، وكذلك وجود آلاف المجرات المجهولة، والتي ربما يعيش على البعض منها حضارات أخرى.
الرهان في الفكرة السابقة هو أن العقل الذي بقي على إيمانه اللاهوتي لمّا كانت الاكتشافات العلمية عند حدود مئتي مجرة، هذا العقل سيعيد النظر في إيمانه بعد ارتفاع العدد إلى الآلاف. أصحاب هذه الحجة ينظرون، بسذاجة شديدة، إلى العلم بوصفه مضاداً للإيمان، رغم أن بعض المؤمنين “على الأقل” يرون في المكتشفات ذاتها دليلاً على عظمة الخلق والخالق. فضلاً عن ذلك، هناك أمثلة عديدة على علماء كبار مؤمنين، ولا يُستبعد أن يكون هناك العديد منهم بين حوالى العشرة آلاف عالم الذين ساهموا في إنجاز تلسكوب جيمس ويب.
والحق أن عموم البشر لا يغيّرون في طرائق تفكيرهم إذا كان عدد المجرات المعروفة بالآلاف أو الملايين أو ملايين الملايين، فالكم لا يبدّل من المبدأ، وعلى نحو خاص ليس له من انعكاسات على واقع البشر، بما فيه واقع القوانين العلمية الخاصة بكوكب الأرض. لذا سيكون من غير الواقعي التطلع إلى انعكاس ذلك على العلوم الإنسانية، في الاجتماع والسياسة على نحو خاص. لقد وصف أرمسترونغ هبوطه على سطح القمر قبل أكثر من نصف قرن بالخطوة العملاقة للبشرية، وقد عرفت الأخيرة لاحقاً الكثير عن تضاريس القمر، لكن أناسها وآدابها وعشّاقها بقوا أمينين لصورته التي يرونها من الأرض.
إذا كان هذا هو حال البشرية مع مثال مبسَّط هو القمر فسيكون من السطحية والابتذال انتظار تغير في العقل، في منطقتنا، بناءً على ما هو مجرّد ويتعذّر لمسه أو الاقتراب منه. هذه السطحية تغفل عن مؤثرات متكاملة، من الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولو لم يكن الأمر كذلك لتكفلت ثورة التكنولوجيا ذات الاستخدام الشخصي بإحداث تغيير جذري. بل إن إبراز الجانب التكنولوجي للعلم، كما يفعل الذين يجعلون العلم ديناً، يحجب أسئلة لا تقل أولوية، من قبيل السؤال عن حصة أبناء المنطقة من الكتب والمسارح والسينما والموسيقا والرياضات بأنواعها. مع التنويه بأن توفير ذلك كله هو من متطلبات إثراء الفرد والمجتمع، وهي في الأصل ليست أسلحة تكتيكية في معركة ضد الإيمان.
بهذا الوهم الذي أحيطت به تبدو صور ناسا مزيفة، من قبل متلقّيها لا صانعيها كما تروّج قلة يعزّ عليها سبر الكون. ونحن، بالمعنى العميق للإنسانية، لم نحظَ بجديد سوى رؤية تلك الأضواء الدالة على وجود الأجرام السماوية، ولا نعلم ما يحتويه أيّ من حبات الرمل تلك. ذلك يشبه أن نفترض وجود حضارات في مكان آخر، يصوّر علماؤها من بعيد كوكب الأرض الذي يظهر كنقطة ربما يرونها جميلة، من دون معرفة عنا، نحن سكان وكائنات ذلك الكوكب. هكذا، لن تظهر لهم حروبنا وجشعنا ووحشيتنا، وقد لا تظهر الأسلحة التي فاضت عن الأرض إلى خارجها. هذا مع افتراض أناني ملازم لنا كبشر، حيث نتخيل حضارات أخرى كأنها تفكر على منوال عقلنا ذاته، وحتى وفق أحكامنا الجمالية نفسها.
لقد وصل تلسكوب جيمس ويب لرصد أبعد نقطة حتى الآن، والبعد المقصود زماني ومكاني كما بات معروفاً. لكن، من جهتنا نحن أيضاً، يبدو التلسكوب بعيداً جداً أيضاً عن الواقع. فلو أتى هذا الإنجاز قبل عقود، عندما كانت الآمال مرتفعة مع صعود النزوع إلى العالمية لكان من الصواب أكثر النظرُ إليه كإنجاز للبشرية ككل. وهذا يصح أيضاً حتى مع التبشير بالعولمة خلال تلك العقود، رغم كل الانتقادات التي وُجهت للأخيرة.
إذا سايرنا أشدّ السيناريوهات تفاؤلاً، نحن إزاء بشرية تقترب من التعرف على كيفية وجودها، ما لم تطرأ “وهذا احتمال وجيه” اكتشافات جديدة يكون الفرق بينها وبين القديمة كالفرق بين تلسكوب جيمس ويب وسلفه هابل. لكن، من دون أن يكون كلامنا هذا اشتراطاً على التقدم التكنولوجي، يمكن النظر إلى التخريب الذي لحق بحبة الرمل المسماة كوكب الأرض خلال مدة بناء جيمس ويب كي نرى فشل البشرية بجدارة في إدارة وجودها على الكوكب، الفشل الذي يتحمل قسطه الأكبر أولئك الذين يتنافسون في الفضاء. المؤسف في أخذ هذين المسارين المتناقضين إلى أقصاهما أن حل لغز الوجود قد يأتي مع انتهائه، وكأن البشرية عن وعي وتصميم تجعل الثمرة محرّمة وتقطفها!
عذراً التعليقات مغلقة