أثارت الكلمة التي ألقاها عمر الشغري في جلسة لمجلس الأمن مؤخراً، كالعادة، جملة من ردود الفعل بين من هاجم الناشط السوري الشاب الناجي من جحيم معتقلات النظام الأسدي، ومن دافع عنه. كلمة «كالعادة» تحيل هنا إلى ظهورات سابقة للشغري أثارت بدورها سجالات مشابهة، كما إلى سجالات أخرى شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بين سوريي الشتات الذين يفترض أنهم، من حيث المبدأ، معارضون لنظام الأسد. فقد انتهى منذ وقت طويل السجال الحاد بين ضفتي الموالاة والمعارضة، وأصبح السجال يدور داخل الضفة المعارضة بصورة رئيسية.
قد يشير ذلك إلى القطيعة التامة بين الضفتين، فلم يعد ما يحدث «هناك» يهم الواقفين «هنا» والعكس بالعكس. لكن القطيعة نفسها تنطوي على دلالة إضافية هي انتهاء حلم الثورة على ضفة المعارضة والتسليم بالهزيمة، فالنظام باق «هناك» ولا جدوى من أي سجال مع مواليه الذين حددوا خيارهم بصورة نهائية ولا سبيل لتغيير ذلك، ناهيكم عن رموزه وأركانه وأدواته.
غير أن ثمة قسماً من المعارضة في الشتات أو في «المناطق المحررة» يختلف مزاجه عن ذلك الموصوف أعلاه، ما زال يؤمن أن الثورة مستمرة ولم تهزم، وما زال بالتالي يساجل أفعال النظام وأقواله من منطلق الكشف عن حقيقته الإجرامية وضرورة سقوطه، وإن كان يتقاسم التشاؤم مع المجموعة الأولى التي سلمت بهزيمة الثورة. ولكن هنا أيضاً نلاحظ صعود صراع بين المجموعة الأولى التي يغلب عليها الميل العلماني مقابل الميل الإسلامي لدى المجموعة الثانية. بكلمات أخرى: إسلاميو الشتات و«المناطق المحررة» يؤمنون باستمرارية الثورة، مقابل تسليم العلمانيين بهزيمتها. وهذا مفهوم بالنظر إلى اختلاف مفهوم الثورة نفسه بين المجموعتين، إضافة إلى اختلافات عميقة بينهما في مواضيع أخرى. هذه تصنيفات اختزالية طبعاً لا تعكس غنى وتنوع المواقف والأمزجة بين السوريين، ولكن لا بد من الاختزال لمحاولة فهم السجالات ودوافعها وخلفياتها.
لعل أكثر ما أثار انتقادات في كلمة الشغري هو لغة الشكوى والاستياء العميق من المجتمع الدولي التي سادتها، وتكثفت في كلمة (F. You) التي وجهها إلى أعضاء مجلس الأمن الدائمين. شتيمة تعبر عن قهر السوريين ووجعهم بلا أي تزويق أو دبلوماسية. فاعتبر البعض أن هذه اللغة «غير لائقة» في مكان رسمي كمجلس الأمن، في حين اعتبرها آخرون أنسب كلمة يمكن أن تقال هناك تعبيراً عن المأساة السورية الرهيبة وفي وجه اللامبالاة الدولية بها.
الواقع أن الشغري ليس سياسياً أو دبلوماسياً تتطلب منه صفته لغة منضبطة، ومن الصعب إطلاق تكهنات بشأن الجدوى السياسية من لغة الشغري بالقياس إلى لغة أكثر انضباطاً بقواعد الأتيكيت في المحافل الدولية.
شتيمة تعبر عن قهر السوريين ووجعهم بلا أي تزويق أو دبلوماسية. فاعتبر البعض أن هذه اللغة «غير لائقة» في مكان رسمي كمجلس الأمن، في حين اعتبرها آخرون أنسب كلمة يمكن أن تقال هناك تعبيراً عن المأساة السورية الرهيبة
فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكلام المكرر الذي يدور منذ سنوات في اجتماعات مجلس الأمن المتعلقة بالمسألة السورية ربما فقد بمرور الزمن أي إثارة، فمن المحتمل أن اللغة الكاوية التي استخدمها الشغري قد أيقظت المتثائبين في الاجتماع وأعادتهم إلى لب المشكلة السورية، من غير أن يتعلق المرء بأوهام حول احتمال حدوث تغييرات في سياسات الدول الفاعلة في الصراع السوري بفعل كلمة الشغري، سواء كانت بلغة بذيئة أو لائقة. فالاعتراض إذن على «بذاءة» لغة الشغري غير ذي موضوع، خاصة إذا قارناها بـ«بذاءة» الواقع السوري وبذاءة اللامبالاة الدولية.
الاعتراض الآخر الذي عبر عنه البعض يتعلق بما اعتبروه اختلاق الشغري وقائع غير حقيقية فيما خص تجربته الشخصية في الاعتقال، وهذا اعتراض غريب حين يصدر عمن يعتبرون أنفسهم معارضين لنظام الأسد. ولا أقصد أن الاختلاق ـ إذا صح ـ هو أمر مبرر حين يتعلق الأمر بفضح جرائم النظام. فجرائمه المحققة كافية وتزيد لإدانته والمطالبة بإزالته، ولا يحتاج الأمر لأي اتهامات مفبركة. بل العكس هو الصحيح: أي اتهامات مختلقة ستبقى باهتة بالمقارنة مع الجرائم المهولة التي ارتكبها النظام طوال الأعوام الأحد عشر الماضية وتعرفها جميع الدول، كاستخدامه للسلاح الكيماوي مرات ومرات، واستخدامه للبراميل المتفجرة، وحصار المدن والبلدات طوال سنوات، والتجريف الديموغرافي وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية. لقد مضى منذ زمن طويل عهد مجابهة الروايات وتكذيبها بصورة متبادلة بين النظام والمعارضة، ولم تعد هناك قيمة لتفصيلات صغيرة وحالات فردية مهما بلغ هولها وفظاعتها أمام الفظاعات المطلقة التي ارتكبها النظام. الغريب إذن هو «تنقيب» سوريين معارضين عن أخطاء مفترضة في رواية الأحداث عند هذا الناشط المعارض أو ذاك. النظام نفسه وأبواقه الإعلامية كفوا عن تتبع «أكاذيب» مفترضة للمعارضين على وسائل الإعلام، بعدما غرق في هموم جديدة تتعلق مثلاً بعجزه عن استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرته، أو عن تأمين الوقود والمواد الحيوية للسكان الخاضعين لحكمه، أو في مواجهة الاستحقاقات السياسية وغيرها…
بالمقابل لن يهتم أعضاء مجلس الأمن أيضاً، بما في ذلك روسيا والصين، بالتدقيق في صحة روايات ناشطين أو ناجين، لمعرفتهم، مثلنا، أن النظام «لبّيس» لأي فظاعات قد يتهم بارتكابها، فإذا كانت هناك بعض «الأكاذيب» في بعض روايات المعارضين، فلا قيمة لها أمام ما يعرفونه على سبيل اليقين من فظاعات تفوق تلك التي قد تكون مختلقة. حتى الجرائم الكبرى الموثقة التي اتهم بها النظام، يستمر وزير الخارجية الروسي لافروف في تكذيبها (الهجمات الكيماوية مثلاً) ولكن سائر العالم لا يلتفت إلى تكذيباته، فهل نتوقع منه أن يهتم بتكذيب تفاصيل في شهادة الشغري الشخصية؟
يبقى السؤال معلقاً عن غاية متهمي الشغري باختلاق أكاذيب مزعومة تخص شهادته عن تجربته الشخصية. هل هو الشعور بالتنافس لأن الشغري حصل على فرص استثنائية يرونها من حقهم؟ هذا ما لا يصرح به أحد، بل يدافعون عن «المصداقية» التي تهدد تصريحات الشغري بفقدانها كما يقولون. الغريب أكثر أن تلك المصداقية المزعومة لم تتقوض إلى اليوم على رغم «كشف» هؤلاء المنقبين عن «أكاذيب» معارضين المرة بعد المرة، فيعودون للدفاع عنها كلما جد جديد في إطار اهتمامهم.
عذراً التعليقات مغلقة