في واحد علَوي!

عمر قدور12 يونيو 2022Last Update :
في واحد علَوي!

تطرّقنا في مقالات سابقة إلى المسألة الطائفية في سوريا، بدءاً من كونها طائفية منبوذة على المستوى المعلن من الجميع، بحيث جاز لنا القول: “لا طائفية في سوريا.. فقط هناك طائفيون”! وعدم وجود وعي طائفي معترف به، وعدم طرح مشاريع طائفية سياسية واضحة، تركا الساحة لطائفية ضحلة شعبوية، لا تكلّف أصحابها أدنى جهد بما أن رأسمالها هو الردح للآخر وشتمه. ومع التنويه بأننا لا نطالب بوجود ذلك الوعي، ما يجدر التفكير فيه: هل التخفّي الطائفي تعبير عن رغبة مشتركة في نبذ الطائفية؟ أم تعبير عن ميزان ديموغرافي مختل بشدة لصالح الأكثرية السُنية؟

في الدلالات ذات المغزى أن ذاكرة الجماعات السورية عن التاريخ ليست مشتركة، أو هي متناقضة أحياناً لجهة علاقتها بالخارج، وإذا أخذنا مجموع رواياتها فستكون الجماعات موصومة بكونها “طوائف سورية عميلة للاستعمار”. الحديث هنا عن الروايات الشفوية، والتي توضح لنا أن تاريخ الطائفية السورية هو تاريخ من التخفي لا الإشهار. التجربة الحزبية خلال القرن الماضي لم تكن في منأى عن ذلك كله، فتم اختراقها بالانقسامات الأهلية، بدل أن تكون اختراقاً حداثياً للانقسامات القديمة.

من الطائفية المنبوذة سابقاً إلى إباحية المسألة الطائفية بعد اندلاع الثورة، نادرة هي المحاولات الرصينة لفهم الظاهرة بأبعادها، خارج منطق الإثبات أو الإنكار، وخارج الاستثمار بمختلف أنواعه، بما فيه التكسب المعنوي السريع أو المؤقت. في المقالات المنشورة من قبل، وفي هذه الملاحظات الأخيرة، لا نزعم امتلاك الحقيقة أو القول الفصل، بل “على العكس تماماً” دافعنا إلى النقاش هو ظن الكثيرين أن تكرار بعض الكليشيهات يجعل منها القولَ الفصل.

في حديثنا عن التبرؤ من الطائفية، حيث الطائفي دائماً هو الآخر لا نحن، لم يكن المقصود قطعاً اتخاذ الجانب المقابل وتبرئة الآخر. إلا أن تبرئة الذات “نحن” من شبهة الطائفية فيها تضييع لفرصة معرفة الذات على نحو أفضل، ما دامت الأبصار مصوبة فقط وفقط إلى الآخر الطائفي. تبدو المشكلة هنا موجودة لدى الآخر فحسب، وما أن يتخلص من طائفيته حتى يجدنا فاتحي الأذرع لملاقاته وقد تاب عن خطيئته. هذا سيناريو يصلح لفيلم مصري قديم من بطولة محود ياسين ونجلاء فتحي، لا للنقاش في السياسة.

ثمة من يرفض المقارنة بين طائفية أصلية “هي الفعل”، وأخرى تالية عليها كردّ فعل لا أكثر. هذا التصور، رغم أنه قد يصلح لتحليل أحداث راهنة وساخنة، ينقصه الانتباه إلى أن كافة الاصطفافات الطائفية تطرح نفسها كنتيجة “رد فعل” على ممارسات طائفية للآخر. أي أن تقصّي الجذور التاريخية للمسألة لا ينفع، لأن التاريخ في الأساس مثار اختلاف وتفسيره حمّال أوجه، خاصة عندما يُقرأ بهدف إثبات صواب طائفية مجموعة ما بناءً على مظلومية سابقة.

هناك من يقول بعدم جواز المقارنة بين طائفية عزلاء أو مُستضعفة وأخرى مسلحة، وهذا صحيح بالتأكيد، إذ من المؤكد أن امتلاك القدرة على إبادة الآخر ينقل الفعل الطائفي إلى مستوى لا يعود فيه مضاداً لطائفة أخرى، بل يصبح فيه مرتكباً لجرائم كبرى ضد الإنسانية. هذا المآل غير مكتوب في الجينات، لذا يجب استخلاص الدرس تحسباً مما تفعله الطائفية المسلحة، لا واحدة منها فقط على التعيين، بل أية طائفية مسلحة عندما تتمكن من السلطة.

الطائفية في الحقل السياسي هي أساساً مشروع استحواذ على السلطة، أو على سلطة موازية لأخرى قائمة. لذا، من الضروري التمييز بين الطائفي ومن يستثمر في الطائفية، فالثاني منهما قد لا يكون طائفياً حقاً على المستوى الشخصي. مثلاً، لا أهمية لأن يكون بشار الأسد وأبوه من قبل طائفيين، والتأكيد على أنهما كذلك يشبه الجزم بأن تجار المخدرات مدمنون عليها، مع معرفتنا بأنهم على الأغلب لا يتعاطونها، وإذا كانت الغاية هي التجريم فلا شك في أن التجار بتدرج مستوياتهم لهم الأولوية المطلقة.

النبذ العلني للطائفية أدى إلى بقائها في طور العصبية، لا في طور السياسة، فلا مؤسسات تمثّلها على الطريقة اللبنانية ثم العراقية. هذا يفتح على تأثير العصبيات عموماً وعلاقتها بالسلطة، ولدينا أمثلة على عصبيات مناطقية وعشائرية لها حضور ضمن السلطة، والبعض منها كان حاضراً ضمن هياكل الثورة، وأوضح حضوراً ضمن الفصائل العسكرية التي تدّعي تمثيلها، والتي خاضت فيما بينها معارك أكثر من أن تحصى! لعل مفهوم العصبية، مع تقصي مصدره، هو ما يشرح لنا وجود نسبة ضخمة من أبناء منطقة ما ضمن سلك الشرطة، وانتماء صغار الجلادين في سجن تدمر إلى منطقة أخرى بعينها.. إلخ.

مثال نورده لتعدد دلالاته: ازداد مع الوقت عدد الموظفات والموظفين من الحزب الشيوعي في دوائر الاتصالات، لأن الوزارة المختصة أسندها الأسد إلى الحزب. قبل ذلك، كان الحصول على استثناء من الدور بعد الاكتتاب على تلفون ثابت يتطلب دفع رشوة قيمتها خمسة آلاف ليرة، ذلك للانتقال إلى طابور طويل جداً من أصحاب الاستثناءات وليس للحصول فوراً على الخط الهاتفي عزيز المنال. مع استلام الحزب الوزارة، الحزب الذي يمثّل الفقراء والكادحين، بقيت الرشوة ذاتها موجودة كما من قبل، مع إعلام دافعها بأن مبلغ الخمسة آلاف هو تبرع منه للحزب.

حتى ضمن مثال ازدياد عدد الموظفين من الحزب، علينا عدم استبعاد نظام الولاء، وجزء منه على الأقل كان قائماً على عصبيات قومية أو مناطقية. فالنظام القائم على الولاء يتوسع طائفياً، وتضيق حلقاته الأصغر لتكون نواته الصلبة عائلية، أو عبارة عن تحالف عائلي. ما هو تقليد راسخ أن الحلقة الأوسع يتم استقطابها عبر بيعها وهْمَ تقديم الحماية لها، بينما الحلقات الأضيق “الوسيطة” تُشترى بما يُقدّم لها من مغانم.

تقول واحدة من أقصر النكات السورية: في “بمعنى: ثمة” واحد حمصي. ومن المحتمل أنها اختصار لنكتة أخرى قصيرة: في واحد حمصي وواحد طبيعي. الفكرة أن المستمع لمجرد أن يسمع بوجود واحد حمصي ينبغي أن يقهقه، مكتفياً بما يعرفه عن الحمصي الذي لا بد أن يكون مثيراً للضحك، لذا هو بغنى عن أية إضافة. شيء من قبيل النكتة السابقة حدث فيما آل إليه “الانفجار الطائفي” بعد انطلاق الثورة، إذ انتهى مجازاً إلى ما يشبه الاكتفاء بالقول: في واحد علَوي. ثم على المتلقي إكمال الجملة بمعرفته الجاهزة سلفاً.

الواقع أن قولنا “كان في واحد حمصي” ليس نكتة، وقولنا “في واحد علوي” ليس فيه أية معرفة سوى ما نتوهم أننا نعرفه ولا نحتاج إلى جديد فوقه. بدورها، كانت بلا تأثير كافة المحاولات الساذجة لكسر الصورة النمطية، من قبيل الإشارة إلى وجود معارضين علويين، أو إلى وجود فقراء غير مستفيدين من مغانم السلطة. في الأساس، هذه المحاولات لا تقدّم معرفة يُعتد بها، ونصيبها ليس أفضل حالاً من تذكير المتحاربين بآيات مثل “لا تزر وازرة وزر أخرى”.

في مقالات سابقة، وفيما نختم به، لسنا بصدد البحث عن الإنصاف، ففي حالتنا جزء معتبر من ذلك مكانه يجب أن يكون المحاكم. لسنا أيضاً دعاة وئام وطني، مع القناعة بأن أفضل ما يحكم العلاقات ضمن المجتمع هي القوانين، لا النوايا ولا المشاعر. ما حاولنا الإضاءة سريعاً عليه هي أبعاد للمسألة الطائفية لا تأخذ حقها من النقاش، وذلك يحدث تحت الظن بامتلاك المعرفة النهائية والكافية عن الطائفية. دائماً، إن أسوأ ما يحدث لا قلة المعرفة أو سطحيتها بل وهم امتلاكها كاملة، وقد يُضاف إليه ذلك الاعتقاد بأن معرفتنا بأنفسنا فيها شيء من التصدّق على الآخر الطائفي الذي لا يستحق، لذا ينبغي ألا نُقدِم عليها.

Source المدن
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل