إذا طالع المرء تاريخ السياسة العربية بشقّيها، الخارجي والداخلي، منذ حصول أكثر الدول العربية على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، يلاحظ أن السمة العامة لها هي الفشل في الحكم والإدارة ومعالجة الأزمات. ولا يحتاج المرء كثير عناء لإقامة الحجّة على ادّعاء بهذا الحجم، إذ تكفي نظرة سريعة إلى أحوال أكثر الدول العربية اليوم ومقارنتها بما كانت عليه قبل عقود، ليتبين مدى التدهور الذي أصاب أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الهزائم التي لحقت بها على صعيد علاقاتها الدولية. فدول عربية، مثل العراق، وسورية ولبنان، كانت تتقدّم على تركيا وماليزيا وكوريا الجنوبية في مؤشّرات التنمية الرئيسة، باتت اليوم في حكم الدول الفاشلة، وأخرى مثل مصر، وقد كانت من حواضر الفكر والسياسة في العالم العربي، وقوة كبرى في نظامها الإقليمي، باتت اليوم مهدّدة بالفشل، في حين تكتنف الهشاشة دولا مثل السودان والجزائر، دع جانبا اليمن وليبيا. أما دول الخليج العربية فتساعدها فوائضها المالية الكبيرة على ستر كثير من عوراتها وتأخير بلوغ النقطة التي سبقتها إليها شقيقاتها التي لا تملك ثروات نفطية.
ورغم أن الدول العربية لا تمثل استثناء في هذا المجال، اذ تتشارك معها دول عديدة في المنطقة وحول العالم تتشابه معها في أنماط الحكم والإدارة وتحدّيات البيئة الخارجية (لاحظ مثلًا تصاعد مؤشرات الجوع والفقر في إيران، وانهيار النظام العام في فنزويلا وغيرها من دول أميركا اللاتينية) إلا أن الدول العربية، خصوصا التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الغرب منذ أيام الحرب الباردة، كانت تمتلك، على المستوى الوطني، فرصةً حقيقية لبلوغ مستويات من التطوّر بلغتها دول أخرى كانت تحيق بها تهديدات ومخاطر لا تقل أهمية، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورا وغيرها.
لا يجوز التقليل من أهمية التحدّيات البنيوية التي واجهتها الدول العربية على امتداد تاريخها المعاصر، وأسهمت في فشل مشروعها النهضوي وتعطيل سياساتها التنموية، مثل الاستعمار والتجزئة، وقيام إسرائيل في قلب العالم العربي وظروف الحرب الباردة، فضلا عن الموروثات الاجتماعية السلبية التي تعانيها المجتمعات العربية، لكن التحدّيات الخارجية كان يمكن تحويلها إلى فرص لو توفرت لدى الدول العربية القيادات والنخب السياسية الواعية للاضطلاع بهذه المهمة، فالصراع والتنافس هما من الروافع الرئيسة للتنمية والتطور، وكلما زادت التحدّيات زادت إرادة المجتمعات البشرية في التغلب عليها.
وعلى الرغم من توفر النية الحسنة لدى قيادات عربية، بعضها كان لديه بالتأكيد طموحات كبرى في تحويل بلدانهم الى قوىً معتبرة على الساحة الإقليمية، إلا أن ميولها الاستبدادية، ونرجسيتها، ومحدودية أفقها، وتواضع مستواها التعليمي والثقافي، وقلة خبرتها في السياسة الدولية، دفعتها إلى ارتكاب أخطاء تسبّبت بويلاتٍ لحقت بدولها ومجتمعاتها. ويمكن للمرء أن يطرح هنا أمثلة عديدة، ابتداء بالسياسة “الكيدية” التي انتهجها نظام البعث في سورية في علاقته بجمال عبد الناصر، مرورًا بسوء تقدير الأخير للظروف الإقليمية والدولية والتي أدّت الى هزيمة 1967، وصولا إلى قرار صدّام حسين غزو الكويت عام 1990، إلى مقاربة النظام السوري في التعامل مع أزمة 2011، وما أدّت إليه من ضياع بلد عربي بحجم سورية، إلى الطريقة التي حكم بها القذافي ليبيا وأدار شؤونها. قد يقول قائل إن كل هذه الأمثلة تخصّ أنظمة يسارية “ثورية” قفزت إلى الحكم فيها، بغفلةٍ من التاريخ، مجموعة من الضباط محدودي التفكير والتجربة والثقافة، وأن الوضع في الدول العربية الأكثر ليبرالية كان مختلفا. ماذا نقول إذا في لبنان الليبرالي التعدّدي الذي دعا رئيس وزرائه الأسبق، سعد الحريري، إلى مقاطعة انتخابات الأحد الماضي، في حين أنه كان يجب أن يقودها نحو تغيير موازين القوى في هذا البلد.
يوفّر الحريري هنا نموذجا يعدّ الأوضح للسياسي الفاشل، يُقدِم حين يجب أن يحجم (صفقة 2016 التي جاءت بميشال عون رئيسا) ويُحجم حين يجب أن يقدِم (الانتخابات أخيرا حيث بات المجتمع اللبناني مستعدّا للتغيير بعد احتجاجات تشرين 2019، وانهيار النظام المصرفي وانفجار المرفأ) وليصير قول “أفشل من الحريري” مثلًا يسير بين الناس، وتعبيرا سافرًا عن بؤس السياسة التي يتصدّى لها سياسيون، فقراء، محدودون، تؤثر خياراتهم في مصير ملايين البشر.
عذراً التعليقات مغلقة