رمادية العلاقات الدولية.. علاقة “الصديق العدو” بين الوحدات الدولية

لجين مليحان26 أبريل 2022آخر تحديث :
رمادية العلاقات الدولية.. علاقة “الصديق العدو” بين الوحدات الدولية

يتساءل الباحثون في العلاقات الدولية عن حدود المساحات البيضاء أو السوداء بين أي دولتين أو مجموعة دول، فيلاحظون أن كلا المساحتين تختفي عند انتهاء أو بدء الأدوار والمصالح، ونجد أن اللون الرمادي يسود في أغلب علاقاتها، فوﺍﻗﻊ هذه ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ اليوم ﻳﺸﻬﺪ ﺣﺎﻟﺔ نادرة وقد ﺗﻜﻮﻥ ﻏﻴﺮ ﻣﺴﺒﻮﻗﺔ في ﺗﺎﺭﻳﺨﻬﺎ، ﻭهي ﻣﺎ يمكن أن نسميها علاقة “الصدﻳﻖ العدو” (العدو الحميم أو الصديق اللدود بتعبير أدق).

أهمية واقعية

إن مفهوم الصديق العدو مدخل مهم جداً في فهم العلاقات الدولية الملتبسة في واقع اليوم، حيث في السياسة لدينا علاقات واضحة كالتحالفات والعداوات وفي التاريخ الحديث والقديم أمثلة كثيرة على التحالفات كالتحالف بين أمريكا وإسرائيل وأمريكا وبريطانيا وهناك الكثير من الأمثلة على العداوات كالعلاقة بين السعودية وإيران أو ما بين الهند وباكستان وغيرها.
ويمكن تصنيف العلاقة بين “الصديق العدو” في خانة العلاقات المحيرة كون طرفي العلاقة يقومان بدور الصديق والعدو في نفس الوقت، فزعماء هذه الدول يتحاربون ليلاً ويتصافحون نهاراً وكأنهم رافعين لشعار نتعاون فيما اتفقنا عليه وليقاتل بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه.

أمثلة وتساؤلات

علاقة أمريكا بباكستان هي علاقة صداقة أم علاقة عداوة؟ من بعض الجوانب يمكننا اعتبارها علاقة تحالف ومن جوانب أخرى يمكن القول إنها علاقة عداوة، بل إن أكثر من ثلاث أرباع الباكستانيين -وفقًا لمؤسسات في استطلاعات الرأي- يعتبرون الأمريكان أعداء و 10% فقط من الأمريكان يثقون في باكستان..
يعني علاقة عداء واضحة، ويلخص التناقض بين البلدين في عبارات قليلة، الولايات المتحدة تدعم باكستان، لكن باكستان تدعم طالبان وطالبان تقتل الجنود الأمريكان على الأراضي الأفغانية منذ سنة 2001… وكأن باكستان الحليف الأمريكي يقتل الجنود الأمريكان.
هناك باحثون أمريكيون اهتموا بهذه الظاهرة العجيبة وكتبوا كتابا مهما بعنوان “Allies, Adversaries and Enemies” وفكرة الكتاب واضحة وبسيطة تقول إن العلاقات الدولية كانت مستقرة على مر قرون من الزمن منذ فجر التاريخ على أن الدول تأخذ الأشكال الثلاثة وهي إما حليف وإما خصم وإما عدو..
الحليف معروف: دولتان تتحالفان مع بعض من أجل تحقيق هدف مشترك كخوض مواجهة عسكرية مع طرف آخر.
نمط الخصم كذلك: دولتان بينهما تناقضات وتضارب في المصالح لكن هناك مساحة مشتركة للتفاوض وللحلول الوسط.
أما حالة العداء: فهي تتجسد في حالة دولتين بينهما تضارب كبير في المصالح لكن دون وجود مساحة للتفاوض أو الحلول الوسط وبالتالي كل دولة تسعى لتدمير الدولة الأخرى.
الكتاب المذكور يقول إن الجديد في السنوات الأخيرة أنه بات هناك دول كثيرة تجمع الثلاثة مع بعض يعني أن تكون حليفا وخصما وعدوا تجاه دولة أخرى وفي نفس الوقت.
لو طبقنا هذا المفهوم أو تصور الباحثين الامريكيين على العلاقة بين باكستان وأمريكا سنجدها واضحة جدًا، باكستان تصرفت كحليف مع الولايات المتحدة عندما تعاونت معها في حربها على القاعدة وعلى جماعات أخرى، وأتهمتها الولايات المتحدة بعدة أحداث استهدفتها أو تفجيرات استهدفت مصالحها كان أكبرها أحداث 11 سبتمبر..
وباكستان تتميز بموقع مهم جدا للولايات المتحدة باعتبارها ممرا ما بين المحيط الهندي وبحر العرب وهي أنسب مكان تدخل منه الولايات المتحدة إلى أفغانستان وقتها، وبالتالي تصرفت كحليف وتجلت قوة تحالفها أكثر حين أمدت أمريكا بمعلومات إستخباراتية مهمة في حربها على هذه الجماعات، لكنها أيضا تصرفت كخصم عندما آوت بعض قيادات هذه الجماعات على أرضها وعلى رأسهم أسامة بن لادن. (على افتراض معرفة المخابرات الباكستاني بتواجده أو وجود اختراق فيها).
وحين اغتالت أمريكا أسامة بن لادن عام 2011 كان ذلك على الأراضي الباكستانية ولم تخبر أمريكا باكستان عن عملية الاغتيال لأنها لا تثق بحليفتها باكستان.. وهذا الأمر أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين بشكل مؤقت، ثم تصرف البلدان كعدوين عندما دعمت باكستان طالبان في حربها ضد القوات الأمريكية.
لماذا هذا العداء والتحالف في الوقت ذاته؟
خلاصة ذلك يفسر بالمصالح؛ فباكستان محتاجة إلى الولايات المتحدة لكنها تحتاج أيضًا إلى طالبان وعملية التضارب في المصالح والأولويات هي التي تخلق هذه العلاقة المعقدة.

والأمر ليس مقتصرًا على باكستان وأمريكا بل الأمثلة كثيرة على ذلك وربما هذا النوع من العلاقات أصبح قاعدة تسير عليها الدول، رغم أن هذا النوع من العلاقة كان فيما مضى حالات معزولة قليلة يتوقف عندها دارسو التاريخ أو العلاقات الدولية ويدرسوها كأمثلة، أما الآن فقد أصبحت هذه العلاقة “الصديق العدو” هي السائد في العلاقات الدولية، ولو وضعنا أمامنا خريطة العلاقات الدولية لوجدنا معظم العلاقات بين الدول هي علاقة “الصديق العدو” ومن أمثلة ذلك الصين وروسيا، بلدان متحالفان في كثير من الملفات ومتوافقان في مجلس الأمن والأمم المتحدة ومجال الطاقة والسلاح وغير ذلك الكثير، ولكن نجد أن روسيا تحتاط طوال الوقت لمواجهة محتملة مع الصين بحكم التاريخ بينهما، فتجدها تدعم الصين في مطالبها ببحر الصين الجنوبي وفي ذات الوقت تبيع السلاح إلى فيتنام التي تشتريه استعداداً لمواجهة محتملة مع الصين.

أبعاد وتفسيرات

بالبحث في الأسباب التي جعلت من هذه الظاهرة تتعاظم في السنوات الأخيرة، يظهر لنا أن المصالح موجودة منذ القدم ولكن الجديد في الأمر -وبظل وجود العولمة والإنفتاح الواسع للعالم على بعضه- جعلت الدول في حالة اعتماد متبادل وكبير جداً بينها، بحيث كل دولة تحتاج إلى الأخرى أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي عندما يحصل خلاف بين هذه الدول تسعى للحفاظ على مصالحها وتفضل حصر الخلاف في ملف ما وتتعاون في الملفات الأخرى.
نجد هنا العلاقة بين الصين وأمريكا، كلاهما تتمنى إزالة الأخرى من صدارة العالم وتتصرفان كخصوم وأعداء وأيضا كحلفاء، فحجم التبادل التجاري بينهما كبير جدا، فلقد بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات الأمريكية مع الصين731 مليار دولار عام 2018 كما بلغت صادرات أمريكا للصين 179 مليار مقابل واردات بقيمة557مليار دولار، لكن في ذات الوقت تتصرفان كأعداء وتتنافسان على النفوذ في الأرض والفضاء والبحار والسباق في السيطرة على الطرق التجارية وهذا التنافس يصل إلى حد العداء في جبهات محددة كبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.
ويوجد مثال أشهر بين دولتين تنشطان في المنطقة العربية الآن، هما روسيا وتركيا فتاريخيًا البلدان كانا دائما إما خصومًا أو أعداءًا بحكم الجغرافية والثقافة ولم يكونوا متوافقين أبدا.. فتركيا تسيطر على أهم المعابر المائية في المنطقة التي كانت تتمناها روسيا وتسعى للحصول عليها، وثقافيا تركيا كانت زعيمة العالم الإسلامي سابقا أيام الدولة العثمانية، في حين كانت روسيا زعيمة العالم المسيحي الأرثوذوكسي.. والتاريخ عبّر عن هذا الخلاف وشهد البلدان الكثير من الحروب.
وفي التاريخ الحديث بقيت الدولتان في تصنيف الخصم، لكن في السنوات الأخيرة استطاعا أن يكونا نوعًا من علاقة الحلفاء، فالأتراك اشتروا منظومة صواريخ إس 400 من روسيا وطلبت أنقرة من الروس محطة طاقة نووية بالإضافة لأنابيب الغاز الروسية التي تمر من تركيا إلى أوروبا.. كما تسعى تركيا إلى شراء سيخوي35 مقاتلة روسية متقدمة.
لدينا حالة تعاون ولكن يوجد أيضًا حالة خصومة وتنافس على أكثر من ملف أشهرها ملف جماعات الإسلام السياسي الذي ظهر في دعم الروس لكل من السيسي وبشار الأسد وحفتر، لكن دعم الأتراك مرسي وجماعته والمعارضة السورية وحكومة الوفاق الليبية، هذه الخصومة تتحول إلى ساحات ساخنة من العداء كما يحدث في إدلب حيث يحارب جيش بشار الأسد مدعوماً من سلاح الجو الروسي ضد المعارضة السورية، وفي ليبيا تحارب الدولتان بالوكالة على أرض ليبيا.
ختامًا، يتبين لنا أهمية مفهوم “الصديق العدو” الذي نستطيع من خلاله فهم ملفات كثيرة، كـ ملف العلاقات الخليجية الإيرانية والخليجية ونظام بشار الأسد والخليجية إسرائيلية وأيضا بين العلاقات السعودية الإسرائيلية والكثير من العلاقات بين الدول.
هذه الفكرة أي العلاقة ليست بجديدة فلقد عبر عنها “Lord Palmerston” أحد رؤساء وزراء بريطانيا عندما قال” ليس لدينا حلفاء أو أعداء دائمون لدينا فقط مصالح دائمة” وهي ذات الفكرة التي رددها تشرشل وكيسنجر فيما يدل على أنها فكرة أساسية ومتأصلة في السياسة البريطانية والأمريكية وفي علاقات كثيرة في العالم.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل