منذ أربع سنوات اعتاد الشاب السوري عماد الحاج المقيم في مدينة إسطنبول التركية على “سلوك شهري” يراه بأنه “نعمة منحها الله” لعائلته التي تركها في عام 2014 في مدينة حماة الواقعة ضمن مناطق سيطرة النظام السوري.
ويقول في حديث لموقع “الحرة” إن “اللاجئ في الخارج نعمة ونقمة في آن واحد. النقمة أنني مضطر للعمل 12 ساعة من أجل 3300 ليرة تركية في الشهر. بينما النعمة فهي أن نصف هذا المبلغ يذهب لعائلي كإيجار للمنزل ولتسديد المصروفات الأخرى من مازوت وكهرباء وغيرها. ليس لهم أحد سواي”.
ولا يقتصر هذا السلوك على الحاج دون غيره من السوريين المقيمين في الخارج، سواء في تركيا أو غيرها، فهو شخص من بين ملايين الشبان، الذين يعملون على مدار الشهر، لتلبية احتياجاتهم الشخصية من جهة، ولكي “يرسلوا راتبا شهريا لعوائلهم كالسندة”، بحسب الشاب عماد.
ويوضح أن والده الخمسيني يعمل موظفا في مكتب يتبع لـ”الشؤون الاجتماعية والعمل” في حماة، لكنه عاجز عن تلبية مصروف يومين فقط، حيث “يتلقى راتبا شهريا بقيمة 55 ألف ليرة سورية”.
“وهذا الرقم لا يكفي لتسديد ربع إيجار المنزل الذي يقيمون فيه”، بحسب الشاب، الذي يعمل في مصنع لإنتاج الأحذية الرياضية في حي أفجلر الشهير بإسطنبول الأوروبية.
“من قلة الموت!”
من الصورة ذاتها لكن إلى الوجه الآخر من حياة السوريين داخل البلاد، وخاصة المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري يسود “واقع مأساوي” و”حالة جوع مكتملة الأركان”. “هناك عائلات على حافة الهاوية، وقسم كبير منها من أصبح في الهاوية بالأصل”، بحسب ما يقول عبد الغفار (طلب عدم ذكر اسمه كاملا لاعتبارات أمنية) وهو موظف سوري في مديرية التربية بمدينة حمص وسط البلاد.
ويضيف عبد الغفار في حديث لموقع “الحرة” أن “العائلات التي تعتمد على مصادر دخل معيشتها من الراتب السوري هي على قيد الحياة من قلة الموت!”، بحسب تعبيره، مشيرا إلى أن أكثر من 70 بالمئة من السوريين في البلاد يعتمدون بشكل أساسي على “ما يأتيهم من ذويهم من أوروبا وتركيا وغيرها. عندما يقول الحكومة السورية إنها تريد إعادة اللاجئين فإنها تكذب على الجميع”.
يتلقى عبد الغفار مبلغا ماليا قدره 200 دولار أميركي كل شهرين من أخيه المقيم في ولاية هسن الألمانية، موضحا: “لا أتخيل كيف يمكن أن أعيش لولا هذه المساعدة”.
ولا توجد إحصائيات دقيقة عن حجم الحوالات التي تدخل إلى مناطق سيطرة النظام السوري أو باقي مناطق البلاد في العام الواحد فقط.
لكن صحيفة “الوطن” شبه الرسمية كانت قد نقلت عن رئيس قسم المصارف في كلية الاقتصاد بدمشق، علي كنعان، في أبريل 2021 قوله إن “معدل حوالات الأشخاص بالقطع الأجنبي بنحو 3-4 ملايين دولار يوميا”.
وأضاف أن “هذا الرقم عادة ما يرتفع في رمضان لأكثر من 10 ملايين دولار”.
بدورها وصفت الباحثة الاقتصادية، رشا سيروب هذه الأرقام بأنها “طوق نجاة” لحكومة النظام السوري، ومصدرا لتعزيز قطع الدولار محليا، على الرغم من أنها تشكل مصدر دخل للكثير من العائلات في ظل الحالة الاقتصادية المأساوية التي يعيشونها منذ سنوات طويلة.
“أنواع للحوالات”
في آخر البيانات التي أصدرها كشف برنامج الأغذية العالمية (WAF) أن عدد الأشخاص الذي حصلوا على الغذاء المغذي في سوريا خلال العام الماضي (2021) كان أقل من أي وقت مضى خلال عقد من الحرب.
وقال البرنامج الأممي في تقريره السنوي الذي نشر الثلاثاء إن “الارتفاعات الجديدة للأسعار في جميع أنحاء سوريا جعلت ثلاثة من كل خمسة سوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي”.
وجاء في التقرير: “أثّرت الزيادة الكبيرة في أسعار المواد الغذائية إلى جانب فقدان فرص كسب العيش، وركود مستويات الدخل عمليا على القوة الشرائية للسكان، وهو ما شكّل الأسباب الرئيسية لانعدام الأمن الغذائي في جميع المحافظات السورية”.
ويرى سوريون أنه لا يوجد “أي بصيص أمل” للخروج من الحالة الاقتصادية السائدة، والتي تزداد حدتها سلبا يوما بعد يوم، في ظل غياب أي إجراءات حكومية قد تخفف ولو بجزء بسيط ما يحصل.
وفي أغسطس 2021 قدّر الباحث الاقتصادي السوري، عمار يوسف، عدد السوريين الذين يعيشون على الحوالات الخارجية بنسبة 70 بالمئة.
وأوضح يوسف أن هذه الحوالات ليست بمبالغ ضخمة، إذ أن متوسط قيمة الحوالة الواحدة لا يتجاوز مئتي يورو بالحد الأقصى. وقال إن غالبيتها تصل بطرق غير نظامية عن “طريق المعارف”.
و”طريقة المعارف” ترتبط بأن الفرق بين سعر صرف الدولار الحكومي وسعره بالسوق السوداء يصل إلى حوالي 20 بالمئة، وذلك ما يعتبره مواطنون سوريون بأنه “من حقهم”.
ويوضح الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم أن الحوالات التي تصل إلى سوريا من الخارج تختلف بين منطقة وأخرى، من مناطق سيطرة النظام إلى فصائل المعارضة ومن ثم إلى مناطق سيطرة القوات الكردية.
ويقول الكريم لموقع “الحرة” إن “مناطق غرب الفرات تعتبر الحوالات جزءا أساسي من الحياة، وتأتي من ثلاث جهات: منظمات إنسانية، أشخاص، وشركات وتجار بهدف الاستثمار”.
أما في شرق الفرات فتشابه طرق الحوالات الخاصة بها تلك المعمول بها في شمال غربي سوريا، من شركات ومنظمات إنسانية وأفراد عاديين، بهدف مساعدة عائلاتهم.
ويضيف الاستشاري الاقتصادي: “في مناطق النظام السوري هناك حوالات للأفراد العاديين فقط. لا يوجد شركات ولا تجار ترسل الأموال بهدف الاستثمار، كون النظام يتشدد وضع شروطا كالموافقة الأمنية”.
“تشديد أمني”
في غضون ذلك وفي الوقت الذي ازداد فيه الحديث عن تزايد قيمة الحوالات الخارجية الداخلة إلى سوريا كان النظام السوري قد اتجه لتشديد التعامل الأمني مع مكاتب الحوالات، “لتأثيرهم على أسعار الصرف في سوريا”، بحسب روايته.
وتحدث رئيس محكمة الجنايات المالية والاقتصادية في دمشق، نظام دحدل، في أغسطس 2020 عن “استرجاع” المليارات إلى خزينة الدولة من شركات صرافة سُحب الترخيص منها، لكنها ما زالت تزاول مهنة الصيرفة بطريقة “غير مشروعة”، ومن شركات وهمية.
وقال دحدل في تصريحات صحيفة، حينها، إن معظم الحوالات المالية “غير المشروعة” تأتي من دول الخليج وتركيا، ويتم التواصل عبر أرقام دولية خاصة تُفعّل عبر الإنترنت، وتُوزع الأموال تبعا للأرقام المرسلة إليهم.
وأضاف أن حكومة النظام سمحت وفق قوانين واضحة لشركات الصرافة المرخصة بالسماح بتحويل الأموال بالتنسيق مع المصرف المركزي، وبالتالي فإن أي تحويل للأموال خارج هذه الشركات المرخصة يعتبر الحوالة غير مشروعة، سواء كانت من أشخاص أم شركات وهمية.
ويشير الاستشاري يونس الكريم إلى أن النظام السوري كان مستفيدا على نحو كبير خلال السنوات الماضية من الحوالات الخارجية، لكنه لم يركّز عليها أخيرا لصالح الضباط المقربين منه، و”الإتاوات” المتعلقة بهم.
ويوضح ذلك بالقول: “هؤلاء الضباط يتبعون في غالبيتهم لفرع أمن الدولة، ويستفيدون من بوابة ما يسمى بمكتب الدور. هذا المكتب يتم دفع رشاوى تتراوح بين 5 إلى 10 آلاف دولار من أجل تسريع الوصول للمحاكمة المرتبطة بالتداول بغير العملة السورية”.
“هل هي المنجا الوحيد”؟
بينما يؤكد الشاب عماد ومثله عبد الغفار المقيم في مناطق سيطرة النظام السوري أن “الحوالات الخارجية” باتت جزءا لا يمكنه فصله عن حياة السوريين الوقت الحالي، يرى الاستشاري الاقتصادي، الكريم أن الكثير من المواطنين كانوا قد اتجهوا إلى خيارات أخرى “مساندة”.
ومن بين هذه الخيارات بيع الأملاك والعقارات بأسعار بخسة، لصالح “أمراء حرب” وتجار كبار طفوا على الساحة الاقتصادية، خلال السنوات الماضية من عمر الحرب.
ويقول الكريم: “مستوى المعيشة داخل سوريا يحتاج من مليون ونصف إلى 2 مليون ليرة سورية لتأمين 2500 حريرة للفرد الواحد. نحن نتكلم عن وضع منهار”.
Sorry Comments are closed