الربيع السوري الأكثر إشراقا وزهوا في تاريخ سوريا الحديث كانت بدايته الحقيقية في مارس/آذار 2011، عندما أسقط السوريون -باحتجاجات نقابية وحقوقية في دمشق، وبمظاهرات شعبية حاشدة انطلقت من درعا البلد “بلد النشامى” وتوسعت لتشمل معظم الجغرافيا السورية- أسطورة الرعب الأمني، التي سكنت قلوب وعقول ملايين السوريين لأكثر من 50 عاما. ورفعوا شعارات ثورية غريبة عن القاموس الاصطلاحي الشعبي، وصعبة على فهم كثيرين من ذوي العقول المقفلة عن التفكير حتى الآن.
فكانت الثورة بداية حقبة جديدة، شكلت رعبا لنظام الأسد وأنصاره وطائفته السياسية، وداعميه الإقليميين والدوليين، وللأنظمة العربية الخائفة، غَيَّرت الواقع السياسي والديمغرافي والاقتصادي والثقافي السوري والإقليمي إلى الأبد.
بدأت التساؤلات في شرق العالم وغربه على مستوى الحكومات والشعوب:
أتحدثُ ثورة في البلد الذي كان الأب يخاف أن يُعبّر عن رأيه ضد الغلاء والمحسوبيات والرشاوى أو عن سخطه من سلطة النظام الأمني القائم أمام زوجته أو أخيه أو جاره أو أعز أصدقائه؟ وكيف يحتج شعب لا تزال أحداث حماة الدموية في ثمانينيات القرن الماضي تعشعش في ذاكرته الجمعية؟ وكيف يحتج مواطنون كانوا في وقت قريب يستنكرون ما يقوله الفنان ياسر العظمة في سلسة مرايا “الساخرة على الواقع” ويعتبرونه متواطئا أو مقربا من السلطة الأسدية؟ وكيف يثور بلد حوَّله آل الأسد وعصاباتهم من التجار المدينيين وضباط المخابرات الطائفيين إلى مزرعة ومن فيها إلى عبيد!؟
نعم يا أهل الأرض، إنها الثورة السورية الشعبية الوطنية العظمى التي اشتعلت كالنار في الهشيم، وكشفت الخبايا والأسرار التي كان من المستحيل كشفها على مستوى الأفراد والدول، وهددت منظومة البطش والسلطة الشمولية، التي نَظَّر لها وكَتب عنها المفكر الأميركي باتريك سيل والأسكتلندي رايموند هينبوش والفرنسي ميشيل سورا، وعشرات الكُتاب والروائيين في روايات أدب السجون والمهجر، فهؤلاء جميعا كانوا يرون بأن النار ستشتعل في يوم من الأيام، وبأن الشعب لن يصمت طويلا، ولكنهم استشرفوا مستقبلا غامضا لهذا الحراك الشعبي، وأدركوا يقينا بأن النتيجة ستكون حمامات من الدم البريء النازف وأنهارا من الدموع التي لا تجف.
هكذا، وفي موكب الربيع العربي، كانت الاحتجاجات الشعبية السورية شعلة وضاءة شعارها “السِلمية” وسلاحها “أغصان الزيتون”، ولكن النظام الاستبدادي الذي تعوَّد على كسر إرادة الإنسان وسلب كرامته أبى إلا اعتماد منهجية البطش والحل الأمني، فَسلَّط الأسد جيشه وشبيحته لقمعها، وبدأت حمامات الدم السوري تُلون الأحياء والشوارع والساحات في المدن والأرياف، وامتلأت سجون المخابرات بالمعارضين والمحتجين السلميين، وأعلنها أنصار الأسد شعارات دموية صريحة: “الأسد أو نحرق البلد”، وهذه العبارات كتبوها على جدران جميع مدننا وبلداتنا الثائرة وعلى جدران منزلنا القديم المحروق عند مرور أرتالهم العسكرية، وحرقهم وتدميرهم لمراكز الاحتجاج في الأرياف والمدن الثائرة، وهو تصميم واضح على إخماد ثورة الكرامة ولو على حساب تدمير وإحراق البلد، وتلك السياسة الانتقامية خلَّفت مجازر فظيعة، وأودت بحياة مئات الآلاف من القتلى والمعتقلين والمفقودين والمعاقين والأرامل واليتامى، وملايين المهجرين في المخيمات الداخلية ودول الجوار والشتات، بمؤازرة وإسناد إيراني وروسي، وسط صمت عربي وعالمي.
بعد 11 ربيعا، تحولت سورية لمأساة لا مثيل لها بعد الحرب العالمية الثانية؛ دولةٌ مقسمة، ومستباحة، ومدمّرة في إنسانها وبنيانها واقتصادها، ومصنّفة في أدنى درجات السلم العالمي على مستوى الأمن الغذائي والفوضى الأمنية وانخفاض مستوى التعليم والصحة والحريات، وتلك هي الترجمة الحقيقية لنظام “فاشي” احتل البلد، وفَضَّل بيع السوريين وقتلهم وتقسيم بلدهم، وتسليمه للمحتل الإيراني والروسي على إحداث تغيير طالب به الثائرون، ولعل الخبير في الشأن السوري والمبعوث الأممي والأميركي للملف السوري جيمس جيفري وضح ذلك -في مقابلته مع صحيفة الشرق الأوسط- بالقول:
جراح السوريين النازفة والمأساة -التي تملأ بيوت ومخيمات الأحرار- أهون عليهم من العودة لوطن فيه الأسد والإيرانيون والروس أسيادا، فهم في مخيماتهم ومهاجرهم يؤكدون أن الحل الحقيقي هو بناء نظام حكم ديمقراطي قائم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة عبر الاقتراع، يحق لكل المواطنين فيه التمتع بحقوق الإنسان من دون تمييز من أي نوع. وقالها الأستاذ هادي البحرة: “11 عاما وما زال السوريون يبحثون عن حل سياسي سلمي آمن وعادل لقضيتهم.. وتعاطوا بمسؤولية مع كل المبادرات لتحقيق السلام في وطنهم، ولم يرفضوا أي محاولة جادّة تسهم في الوصول إلى الحل السياسي العادل”.
ولكن المؤسف أن يكون بعد كل تلك التضحيات هذا التواطؤ العربي والأممي لتأهيل نظام الأسد، فالمقايضة الأميركية مع الروس والإيرانيين لبقاء الأسد -حسب جيفري- باعتماد مقاربة “خطوة مقابل خطوة” أدت لفتح باب التطبيع العربي مع نظام الأسد رسميا، وفتح عدد من السفارات العربية في دمشق، وآخر الأمر كانت زيارة الأسد إلى أبو ظبي بمباركة أميركية لا جدال حولها، وهو ما لا يتوافق مع الوعود الأميركية والغربية لتحقيق الانتقال السلمي، وبناء نظام سياسي جديد، يحمي السوريين ويؤمن لهم كرامتهم وحقوقهم وينهي حالة الصراع والفوضى الأمنية.
خاض السوريون مواجهة مباشرة مع نظام الأسد، سلميا وعسكريا ودبلوماسيا وكان النصر حليفهم، حتى تدخل الإيرانيون والروس والتنظيمات اللاوطنية (القاعدة وأخواتها)، فتحولت المعركة إلى انتكاسات متلاحقة وسقوط الجغرافيا بمفاوضات ومصالحات مناطقية، ولكن المعركة الدبلوماسية التي نجح فيها السوريون هي إبقاء الحل السياسي وأهدافه كما جاءت في نصوص بيان جنيف 2012، الذي وافقت عليه الدول الكبرى بالإجماع، بمن فيهم روسيا حليفة النظام، وفي القرارين الأمميين 2118 (2013) و2254 (2015)، اللذين صدرا بالإجماع أيضا، كدليل على أنهما الطريق الأساسي والوحيد، للحل السياسي القابل للحياة في سورية.
إن الترجمة العملية لاستمرار النهج الثوري القويم والتأكيد على الالتزام الثوري في ذكرى الثورة الحادية عشرة، يكون فيما قاله الدكتور محمد خير موسى:
فالعقل والحكمة والرشد الثوري يجعلنا مسؤولين عن تصحيح الأخطاء الكارثية على مستوى تنظيم المناطق الخارجة عن سلطة الأسد، وإجراء مراجعات سياسية وفكرية وأخلاقية وسياسية شاملة في أعماق واقعنا الاجتماعي والمؤسسي المعارض، وتمتين الروابط بين الثائرين المدنيين والعسكريين، والتصالح النخبوي مع القواعد الشعبية، وتحمّل المسؤوليّة عن الهزيمة بجرأة وصرامة وشجاعة. فالثورة السورية أفرزت مجتمعا ثوريا “شماليا” فيه الملايين من المواطنين السوريين، فلا بد من إصلاح البنى الثورية، واعتماد العلاقة الندية مع الحلفاء والأعداء في آن واحد، فإما أن نتدارك ما بقي من ثورتنا ونصون كرامة الأحرار، ونكون نحن الثوار الجدد، وإما تقسيم وتمزق واستمرار للصراع، والقتل بالوكالة، والتبعية لهذه الدولة أو تلك، وهذا سيكون خيارنا الأكثر سوءا.
عذراً التعليقات مغلقة