تعامل بعضٌ من السوريين خصوصاً والعرب عموماً في الأسابيع الأخيرة مع ظاهرة اللجوء الأوكراني إلى أوروبا بعد بدء الغزو العسكري الروسي بقليل من التضامن وكثير من التفاعل السلبي والإسقاطات المنحرفة والمقارنات النقدية. وعلى الرغم من السقطات العنصرية والمتوقعة التي خرجت بها بعض الصحف أو بعض التعليقات المصوّرة في دول الغرب من كون الأوكرانيين “يشبهوننا، مسيحيين، حضاريين.. الخ”، إلا أن عنصرية البعض، وخصوصاً في مرحلة تاريخية تشهد صعوداً يمينياً متطرفاً مقلقاً، لا ينبغي أن تحرّض على عنصرية الآخر بالمقابل. ويصحّ القول هنا إنه من منكم كان بلا “موقف عنصري” في لحظة ما من تفاعله مع حدث ما، فليرمي الآخرين بالحجر.
لنتذكر مشاهد وصول المئات من اللاجئين السوريين إلى محطات القطار في النمسا وفي ألمانيا سنة 2015 وتعاضد المجتمعات المحلية في تنظيم عمليات استقبالهم والاعتناء بهم
إن التوقف النقدي عند بعض العبارات الصادمة التي خرج بها إعلامٌ غربي عاكساً مواقف بعض السياسيين من اليمين المتطرف ضروري، كما البحث بهدوء عن عناصر منطقية في تبرير بعض المواقف التميزية ضروري أيضاً. أما الترويج الذي يكاد يكون احتفالياً لتعزيز موقفٍ إقصائي من حضارة الآخرين لمقولات عنصرية وكأنها إثباتات على اللفظ التلقائي للحضارة الغربية واعتبار أنها حضارة عنصرية معادية للإسلام بالمطلق وتخاف الأجنبي المسلم والعربي بالتحديد، فهو هروب متسارع من مواجهة مشكلات تكوينية تعصف بالذهنية التحليلية للأوضاع العامة، وبالتالي، فهي لا تساعد البتة في فهم الظاهرة ومحاولة تجاوزها أو التعامل معها.
ولتكرار ما لا يجب مبدئياً أن يُكرّر، ولكن الحالة العامة تدفع لتكراره للأسف، فلنتوقف لحظات ولنتذكر مشاهد وصول المئات من اللاجئين السوريين إلى محطات القطار في النمسا وفي ألمانيا سنة 2015 وتعاضد المجتمعات المحلية في تنظيم عمليات استقبالهم والاعتناء بهم. كما لنتذكّر موقف بعض المهاجرين السوريين القدماء من وصول اللاجئين الجدد والذي كان من العنصرية ومن الإقصاء لدرجة أصابت “الأجانب” بالإعياء وبالغثيان. وإن نسيت فلن أنسى ما ذكرته لي مسؤولة كندية تُعنى بملف الهجرة حينما أبدت استغرابها وعبرت عن استهجانها لرفض العدد الأكبر من السوريين المهاجرين في كندا منذ عقود والذين ينعمون في غالبيتهم العظمى بأوضاع اقتصادية ملائمة، القيام باستقبال اللاجئين الجدد “الفقراء”، بل وحتى رفضهم المساعدة المحدودة في الأعمال الإدارية وفي الترجمة وفي تسهيل المبيت وفي الإكساء. وقد كررت هذه المسؤولة على مسمعي عبارة حفظتها بالعربية وبألم شديد تقول إن القادمين الجدد هم “أهل شحاطة” ومن الريف الذي لم “نخالطهم” في حياتنا السورية.
كل ما سبق للوصول بالمنطق إلى ضرورة التمييز بين العنصرية الفارغة من الإنسانية والتي نجدها في الكثير من المجتمعات وربما قد عانى البعض من أترابنا من نتائجها، وبين ضرورة التضامن الإنساني مع من يتعرضون للقتل والتشريد والتهجير بمعزلٍ عن أصلهم وفصلهم. ولربما يجدر بنا أن نتوقف عن طرح الأسئلة والتعبير عن الاستغراب لتضامن العالم مع لاجئين “عيونهم زرق” ومقارنة هذا التضامن الذي يحاول بعضنا أن يجده مبالغاً، بضعف ما تلقاه “أصحاب البشرات السمراء” من أترابنا ومن في حكمهم عند وصولهم الى بلدان اللجوء. إن اللجوء إلى هذه المقارنة غير المحبّذة لهو جزء ربما من العناصر الكامنة والتي تؤثر سلباً في “التسويق” لآلامنا ولمطالبنا الشرعية والعادلة. وتكرار الخوض في هذه المقارنات يحمل أذى نوعياً لا يجب أن يسعى إليه من يسعى في مناكبها للحد من الآثار السلبية لواقع اللجوء. والدعوة إلى البحث عن الأسباب الذاتية الكامنة في تعزيز عزلنا عن مسارات ومسيرات التضامن الذي تم التعبير عنه لصالح الشعب الأوكراني تكون أجدى من التعبير عن الحسرة والاكتفاء باتهام الآخر بالعنصرية الحقيقية أو المُتخيّلة. وفي هذه الاتجاه، يجدر بالمتمكنين من أدوات التحليل الخوض في أساليب وطرائق الأداء التوعوي بمآسينا بعيداً عن لغة جرائد الحائط المدرسية وعن خطابات الاستعطاف المسرحية.
الموقف المبدئي من كل عدوان ومن كل عنف ومن كل استبداد وغطرسة دموية لا يختلف من بقعة جغرافية إلى أخرى ولا يجب عليه أن يكون انتقائياً ونسبياً
ولربما يسعى البعض من “الرماديين” من أترابنا إلى التركيز على المقارنات الشكلية والسطحية بين أنواع اللاجئين ليُعزّز بذلك امتناعه الأسبق عن تحديد موقفه وبالتالي حياده السلبي الذي لا يمكن أن يُترجم إلا بالدعم المستتر للمستبد. فالموقف المبدئي من كل عدوان ومن كل عنف ومن كل استبداد وغطرسة دموية لا يختلف من بقعة جغرافية إلى أخرى ولا يجب عليه أن يكون انتقائياً ونسبياً.
في لقاء جمعني مع بعض العاملين في المجتمع المدني الأوكراني في مدينة كييف منذ سنوات، تبيّن لي اهتمامهم البالغ بتوثيق أسماء من ارتكب جرائم حرب من المرتزقة الروس أثناء حرب موسكو على أوكرانيا في 2014 لضم شبه جزيرة القرم ولدعم الإقليمين الانفصاليين في الشرق الأوكراني. وفي توثيقهم هذا، كانوا أيضا يسعون إلى معرفة إمكانية أن يكون نفس المجرمين الروس هم من ارتكب جرائم وفظائع مشابهة في المشهد السوري منذ تدخلهم الفعلي فيها سنة 2015. عملٌ دقيق ومرهق ويحتاج إلى مقاطعة معلومات وعدة وثائق. وأعتقد بأنه يمكن التأكيد يا للأسف على عدم وجود أي تعاون مع الطرف السوري، والذي إن وُجد فسيكون له دور أساسي في عملية محاسبة الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين في كلا البلدين.
عذراً التعليقات مغلقة