تُؤذن الأزمة الأوكرانية، التي ظلت تختمر في قلب أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، وبصورة أكثر حدّة منذ عام 2004، بالتحوّل إلى نقطة انعطاف في تاريخ القارّة العجوز، خصوصا، والسياسة الدولية، عموما. تؤشّر تداعيات الأزمة، كما أخذت تتوالى فصولاً، إلى أنها ستلعب دور القادح في تغييرات بعيدة المدى في بنية النظام الدولي، كونها أول حرب كبيرة تندلع في أوروبا منذ عام 1945. صحيحٌ أنه كانت هناك حرب استقلال كرواتيا (1991- 1995) والبوسنة (1992 – 1995)، ثم كوسوفو (1999)، لكن كل تلك كانت حروبًا أهلية/ محلية، استدعت الأخيرة منها تدخلا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمنع تكرار المذابح التي ارتكبتها صربيا، خصوصا في البوسنة، في أثناء حروب البلقان التي أعقبت تفكّك يوغسلافيا السابقة. بهذا المعنى، تعد الأزمة الأوكرانية أول حرب أوروبية، منذ 75 عاما، تقوم فيها دولة بغزو أخرى، وتسعى إلى احتلالها وتغيير نظامها. حتى فجر 24 فبراير/ شباط 2022 كان الاعتقاد السائد أن هذا يحصل في الشرق الأوسط، وفي آسيا، ربما، وأفريقيا، لكن ليس في أوروبا. هذا الأمر تغير الآن، ويرجّح أن تكون له تداعيات كبرى على أوروبا والعالم.
شدّ عصب أوروبا
برزت أولى هذه التداعيات في شدّ عصب التحالف العسكري الأكبر في العالم (حلف الناتو) وتأكيد أهميته كغطاء أمني لا غنى عنه للديمقراطيات الأوروبية في مواجهة روسيا، بعد أن أخذت الشكوك تتعاظم بشأن مصيره ومستقبله في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي همّش الحلف، وحاول إضعافه، دافعاً الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى وصف “الناتو” عام 2019 بأنه “ميت دماغيا”. وعلى الرغم من أن الرئيس بايدن حاول، منذ وصوله إلى الحكم مطلع عام 2021، تأكيد التزام واشنطن بالحلف، إلا أن تجاهله مواقف حلفائه الأوروبيين، عندما اتخذ قرار الانسحاب من أفغانستان عزّز الاعتقاد، لدى الفرنسيين خصوصا، بشأن ضرورة إيجاد بديل دفاعي أوروبي، يستمر الحديث عنه من دون طائل منذ سنوات. وبالتوازي مع عودة اللحمة إلى “الناتو”، بفعل أزمة أوكرانيا، برز الاتحاد الأوروبي قوة سياسية وازنة على الساحة الدولية، بعد أن كادت تطيحه صدمة خروج بريطانيا، تلك التي اعتبرها بعضهم، خصوصا في موسكو، أولى حبّات السبحة الأوروبية التي يوشك عقدها أن ينفرط.
لقد أظهر الاتحاد الأوروبي، تحت قيادة الألمانية أورسولا فون ديرلاين، قوة سياسية غير مسبوقة عكستها القرارات التي اتخذها لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، سواء لجهة مد كييف بالسلاح والمال، ودعوة المتطوعين إلى نجدتها، أو إغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الطائرات الروسية، وطرد وسائل الإعلام الروسية من أوروبا، وفرض عقوباتٍ اقتصادية ومالية على موسكو، بما فيها إخراج بنوك روسية كبرى من نظام التحويلات المالية الدولي (سويفت) وصولا إلى العمل على تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، كان اهتمام ألمانيا متركزا على توسعة الاتحاد الأوروبي شرقا، فجرى استيعاب كل دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي
تسلّح ألمانيا
لكن التغيير الأكثر أهمية الذي تسبّبت به الأزمة الأوكرانية يبقى قرار ألمانيا إعادة التسلح، إذ أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتز، أمام البرلمان (البوندستاغ) يوم 27 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) عن تخصيص مائة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني (البوندسفير)، ورفع مستوى الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج الإجمالي القومي لألمانيا البالغ 4.2 تريليونات دولار. هذا يعني أن المانيا سوف تنفق اعتبارا من العام الجاري نحو 85 مليار دولار سنويا على الدفاع، ما يضعها في المرتبة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة (770 مليارا) والصين (254 مليارا) وقبل روسيا (61 مليارا). ويعدّ هذا القرار تحولا جذريا في السياسة الألمانية، والغربية، التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونصّت على تقييد تسليح ألمانيا التي أغرقت أوروبا في ثلاث حروب كبرى خلال أقل من قرن (حرب 1870 مع فرنسا، والحربين العالميتين، الأولى والثانية). وسيكون لهذا القرار تداعيات كبرى على أوروبا والعالم، إذ يغير موازين القوى في “القارّة العجوز”، ويهدّد بالعودة إلى سياسات القوة التي ميّزت تاريخها المعاصر.
بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها، وجد الحلفاء (الأميركيون تحديداً) أن السبيل الوحيد للحيلولة دون عودة ألمانيا إلى محاولة الهيمنة على أوروبا منعها من امتلاك استراتيجية قومية مستقلة، وربطها بدلا من ذلك، عسكريا واقتصاديا، بأوروبا الليبرالية، عبر حلف الناتو والمجموعة الاقتصادية الأوروبية، التي تحوّلت لاحقا إلى الاتحاد الأوروبي. وبين عامي 1992 و2008، مثل الاتحاد الأوروبي حجر الزاوية في سياسة برلين، وأحد أهم أسباب تمكّنها من هضم عملية إعادة توحيد ألمانيا عام 1990. وفيما كانت واشنطن مهتمةً بدمج دول شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق بحلف الناتو، بعد انتهاء الحرب الباردة، كان اهتمام ألمانيا متركزا على توسعة الاتحاد الأوروبي شرقا بالتوازي، فجرى استيعاب كل دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي في عمليات دمج متعدّدة، كان أكبرها عام 2004، حين جرى ضم عشر دول في وسط أوروبا وشرقها دفعة واحدة، وكان سبق ذلك ضم السويد وفنلندا والنمسا عام 1995. كان هدف ألمانيا ذا شقّين، سياسي واقتصادي، يتمثل الأول بتوسيع نادي الديمقراطيات في أوروبا، في حين ينشد الثاني تحويل الوافدين الجدد إلى أسواق إضافية للآلة الصناعية الألمانية الجبارة. ومع اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت السوق الأوروبية الموحدة تضم حوالي 500 مليون مستهلك، يشترون البضائع الألمانية من دون جمارك، أو إجراءات حمائية، ومن دون الحاجة إلى القلق بشأن أسعار صرف العملات، مع وجود العملة الأوروبية الموحدة.
وواقع الأمر أن ألمانيا تتحمل جزءا وازنًا من المسؤولية في نشوء الأزمة الأوكرانية الراهنة، فبسبب نهمها لمزيد من النفوذ الاقتصادي في أوروبا، وسعيها إلى توسيع الأسواق لإنتاجها السلعي المتنامي، حجماً وجودةً، قادت ألمانيا عملية توسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً، مثيرة حفيظة موسكو التي هالها وصول نادي الديمقراطيات الأوروبي إلى حدودها الغربية. وبلغ الأمر ذروته في قيام ألمانيا في فبراير/ شباط 2014 بدور محوري في إطاحة نظام الرئيس فيكتور يانكوفيتش، حليف موسكو، نتيجة رفضه التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (وهو أمر كان سيضيف إلى ألمانيا سوقاً حجمه 40 مليون نسمة). وقد دفع هذا الأمر روسيا إلى معاقبة ألمانيا على فعلتها هذه، عبر إغراق أوروبا بموجات من اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم القصف الروسي في العام التالي، ما ساهم في صعود اليمين الشعبوي الأوروبي، وتهديد الاتحاد الأوروبي بالتفكّك. وهكذا، وفيما كانت ألمانيا تعارض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو مراعاة لحساسيات موسكو الأمنية، وحفاظا على شراكتها معها في مجال الطاقة، كانت في المقابل تضغط بقوة لضم أوكرانيا إلى نادي الديمقراطيات الأوروبي، والسوق المشتركة.
يرجّح أن تتحوّل ألمانيا خلال سنوات قليلة إلى أكبر قوة عسكرية أوروبية، خصوصا مع خروج بريطانيا من الاتحاد، وستكون لذلك تداعيات كبرى على أمن أوروبا واستقرارها
وحتى وقت قريب، كانت ألمانيا المستفيد الأكبر من الترتيبات الاقتصادية والأمنية الأوروبية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، ففي حين كانت تجني الثمار الاقتصادية من تحويل أوروبا إلى سوق كبير لمنتجاتها، كانت تتمتع، في الوقت نفسه، نتيجة القيود المفروضة على تسلحها، بحمايةٍ شبه مجانية تقريبا من حلف الأطلسي. لكن الولايات المتحدة ما عادت، بعد أزمة 2008 المالية، في وارد القبول باستمرار هذا الوضع. لذلك بدأت منذ عهد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تضغط على حلفائها في “الناتو”، خصوصا ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، لتخصيص مزيد من المال لإنفاقها العسكري. وقد طلب أوباما، وبصورة أكبر ترامب، أن تضطلع ألمانيا بمسؤوليات أكبر في الدفاع عن نفسها من خلال تخصيص 2% من ناتجها القومي للإنفاق الدفاعي. لكن ألمانيا ظلت، حتى الأمس، تقاوم تلك الضغوط، مفضلة تخصيص ميزانياتها بالكامل تقريبا للصحة والتعليم والتنمية والتطوير والبحث العلمي، ما جعلها تتربع على قمة العالم في كل هذه المجالات. لكن الأزمة الأوكرانية غيرت ذلك جذريا. وعليه، يرجّح أن تتحول ألمانيا خلال سنوات قليلة إلى أكبر قوة عسكرية أوروبية، خصوصا مع خروج بريطانيا من الاتحاد، وستكون لذلك تداعيات كبرى على أمن أوروبا واستقرارها، وسيثير أيضا مخاوف ومواجع تاريخية ما زالت حاضرة في الذاكرة.
تقويض الشراكة الروسية – الألمانية
ومن التداعيات الكبرى التي خلفتها الأزمة الأوكرانية والغزو الروسي، توجيه ضربة قاصمة للشراكة الروسية – الألمانية التي انطلقت في عهد المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرويدر (1998 – 2005)، وتنامت في عهد أنجيلا ميركل (2005 -2021). ويسود اعتقاد واسع اليوم أن واشنطن من خلال رفضها مناقشة مطالب موسكو بشأن عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، لم تترك أمامها خيارا آخر إلا الغزو، والذي كانت تلك الشراكة إحدى أهم ضحاياه، وهي التي قامت على معادلة الطاقة مقابل التكنولوجيا. لقد حاولت واشنطن كسر هذه المعادلة التي تسمح بحصول تقارب روسي – أوروبي، تقوده موسكو وبرلين، على حساب العلاقة مع واشنطن، خلال السنوات الماضية، إنما من دون نجاح كبير. فحتى العام الماضي، كانت ألمانيا متجهة إلى تعزيز اعتمادها على الغاز الروسي، بعد أن قرّرت التخلي عن محطاتها النووية في إنتاج الطاقة، وكذلك عن الفحم الحجري في إطار التزامها باتفاقية باريس للمناخ عام 2015، وقاومت كل محاولات واشنطن لوقف إنشاء خط غاز نورد ستريم 2 الذي ينقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. لكن أزمة أوكرانيا غيرت كل المعطيات السابقة، ووجهت ضربة قاصمة ليس فقط لخط الغاز الذي أعلنت برلين تخليها عنه، على الرغم من الانتهاء من عمليات إنشائه التي تكلفت 12 مليار دولار، بل أيضا لمحور موسكو- برلين. وتتجه ألمانيا الآن التي وافقت على فرض أقصى العقوبات على روسيا، بعد غزوها أوكرانيا، إلى البحث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، الذي، وللمفارقة، سيكون الغاز الأميركي أحدها، حيث ازدادت مبيعاته في أوروبا بنسبة 15% في الشهرين الأخيرين. لقد حققت الولايات المتحدة من خلال أزمة أوكرانيا أحد أهم أهدافها الاستراتيجية على الساحة الأوروبية، وهو وضع ألمانيا في مواجهة روسيا، فيما تتفرّغ هي لمواجهة التهديد الآخر الأكثر أهمية في منطقة المحيطين الهندي – والباسيفيكي (الصين).
مأزق الصين
وبالحديث عنها، وضعت الحرب في أوكرانيا الصين في موقفٍ صعب، فهي إن تركت روسيا وحدها في مواجهة الغرب، فهذا يعني أنه سوف يجري الاستفراد بها لاحقا، وإن هي قرّرت دعم روسيا، فإنها تخاطر بفرض عقوبات قاسية عليها من أميركا وأوروبا (الشريكان التجاريان الأكبر للصين على الساحة الدولية بحجم تجارة يقترب من تريليون ونصف تريليون دولار سنويا، بواقع 670 مليار دولار مع الأولى، و710 مليارات مع الثانية وفق إحصاءات 2021). وتراقب الصين باهتمام بالغ ردود الأفعال الغربية على غزو أوكرانيا، ويسري اعتقاد واسع بأن واشنطن تحاول في التعامل مع روسيا توجيه رسالة إلى الصين، إن هذا ما ينتظركم إن حاولتم غزو تايوان. والواقع أن الكثير سوف يعتمد في تطور الأزمة الراهنة على موقف الصين، فإذا هي قرّرت دعم روسيا في مواجهتها الكبرى مع الغرب، فهذا سيؤدي إلى نتائج مختلفة تماما عنها في حال اتخذت الحياد في هذه الأزمة. في الحالة الأولى، سيكون تأثير العقوبات الغربية على روسيا أقل بكثير من المأمول، لأن الصين، بحجم اقتصادها الكبير ونهمها للطاقة، سوف توفر بديلا مهما لموسكو عن الأسواق الأوروبية، لكنها ستُظهر، في المقابل، مدى اعتماد موسكو على بكين وحاجتها لها، ما يحوّلها فعليا إلى شريك أصغر في علاقة غير ندّية. أما إذا قرّرت الصين الحياد فهذا يعني أن روسيا سوف تعاني بشدة، وقد تكون النتيجة انهيار نظام حكم فلاديمير بوتين. حتى الآن، تحاول الصين موازنة علاقاتها المتقدّمة بموسكو مع شراكاتها التجارية مع الغرب، لكنها سوف تضطر، في مرحلة ما، إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحا حيال معركة كسر عظم تدور رحاها بين موسكو وواشنطن، وهي ليست بعيدة عنها.
فرص ومخاطر للشرق الأوسط
في منطقتنا أيضا، تبرز تداعيات كبرى لهذه الأزمة، إذ تتطلع تركيا وإيران خصوصا إلى الاستفادة منها، على الرغم من أن انعكاسات سلبية قد تطاولهما أيضا، فقد استخدمت تركيا الأزمة لإعادة تعويم نفسها عضوا أساسيا في حلف الناتو، وتأمل من خلال تعاظم حاجة واشنطن والاتحاد الأوروبي إليها في سياق المواجهة مع روسيا، وبسبب موقعها الجيوسياسي الهام فيها، في تحقيق أعظم المكاسب. وتدرك تركيا أيضا أن العقوبات الغربية لن تنقذ أوكرانيا، لكنها سوف تضعف روسيا، وهي تتطلع إلى الاستفادة من ذلك في مناطق التنافس الرئيسة بينهما، ابتداءً من سورية وصولا إلى ليبيا والقوقاز. لكن من جهة أخرى، تتوجّس تركيا من الأضرار البالغة التي يمكن أن تطاولها جرّاء ارتفاع أسعار الطاقة، أو حتى ذهاب روسيا إلى استخدامها سلاحا ضدها، وهي التي تحصل على نحو 35% من احتياجاتها من الغاز من روسيا. وتتخوّف تركيا كذلك من عودة العلاقة بينها وبين موسكو إلى الحال الذي كانت عليه بعد إسقاط الطائرة الروسية فوق حدودها مع سورية عام 2015، إذا هي اضطرّت إلى تفعيل معاهدة مونترو لعام 1936، والتي تنص على تقييد حركة السفن الحربية في البحر الأسود في حال اندلاع حرب. وتخشى تركيا، فوق ذلك كله، من ردود فعل روسية ضدها في سورية، إذا هي استمرّت في إمداد أوكرانيا بالسلاح، خصوصا الطائرات بدون طيار.
فيما تميل بعض دول الخليج إلى روسيا التي تتشارك معها الموقف من الديمقراطية وحقوق الإنسان، تأمل دول أخرى في أن تساعد الأزمة في توسيع الفجوة بين موسكو وطهران
أما إيران، فقد سارعت، رغم “تحالفها المزعوم” مع موسكو، إلى استغلال أزمة أوكرانيا، وعرضت تعويض أي نقص في إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وكأنها تحاول الانتقام من موسكو التي عوّضت صادرات النفط الإيرانية التي خرجت من الأسواق بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وعودة العقوبات عليها. ويبدو أن طهران تحاول تقديم نفسها للغرب باعتبارها جزءا من الحل، ليس فقط بخصوص تعويض إمدادات الطاقة، بل أيضا تخفيض أسعارها، وهو مطلب جوهري للرئيس الأميركي بايدن، وعاملا قد يساعده في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني النصفية المقبلة. وتتطلع إيران إلى الاستفادة من الحاجة إلى عودة حصتها سريعا لأسواق النفط، ورغبة واشنطن في الانتهاء سريعا من مفاوضات الملف النووي في ضوء الأزمة الراهنة مع روسيا، إلى انتزاع تنازلاتٍ مهمة بخصوص التزاماتها النووية، ورفع العقوبات عنها. وتستفيد إيران أيضا من المواجهة الروسية – الأطلسية وانشغال موسكو بأوكرانيا لتعزيز مواقعها في سورية على حساب روسيا، حيث بلغ التنافس ذروته بين الطرفين بعد انتهاء المعارك الكبرى في الحرب السورية.
أما بخصوص دول الخليج النفطية، فعدا عن أنها تستفيد من الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، وأيضا من استعادة مكانتها على المدى البعيد باعتبارها “قوة مرجّحة” في المواجهة الدائرة بين الغرب ومحور موسكو – بكين، بعد أن بدا وكأن أهميتها تراجعت، أقله أميركيا، توفر الأزمة لها فرصا جمّة ومخاطر. إذ يتوقع أن يزداد التنافس مع روسيا على سوق الطاقة الصيني، إذا اضطرت موسكو إلى الخروج من السوق الأوروبية، أو تخفيض حصتها فيه، لكن دول الخليج ستكسب، في المقابل، موطئ قدم لها في أوروبا لتعويض حصة روسيا المتناقصة فيها. إضافة الى ذلك، يتوقع أن ترتفع فاتورة الغذاء بشكل كبير على دول الخليج التي تستورد، مثل باقي الدول العربية، الجزء الأكبر من احتياجاتها الغذائية، خصوصا القمح. وفيما تميل بعض دول الخليج بوضوح إلى روسيا التي تتشارك معها الموقف من الديمقراطية وحقوق الإنسان وتيارات الإسلام السياسي، فضلا عن وجود مصالح اقتصادية كبيرة واستثمارات مشتركة، تأمل دول أخرى في أن تساعد الأزمة الأوكرانية في توسيع الفجوة بين موسكو وطهران، وهذا يفسّر جزئيا امتناع الإمارات عن التصويت على مشروع قرار في مجلس الأمن، قدّمته واشنطن لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا يوم 25 فبراير/ شباط، في مقابل تصويت روسيا بعد ذلك بيومين لصالح مشروع قرار يصنف الحوثيين تنظيما إرهابيا، ويمدّد حظر السلاح ضدهم.
باختصار، تمثّل الأزمة الأوكرانية نقطة تحوّل في السياسة الدولية، وستكون تداعياتها أبعد مدىً وأعمق أثرًا مما تكشَّف. وفيما يبدو أن أوروبا ستكون الأكثر تأثرا بها، إلا أن بقية العالم لن تكون في مأمن من آثارها. بكلمة أخرى، إنها واحدة من الأزمات التي تحصل كل مائة عام وتغير وجه العالم.
عذراً التعليقات مغلقة