مع الحرب الأميركيّة في العراق عام 2003 ظهرت حجّة تناهض الحرب حرصاً على العراق وعلى الديمقراطيّة وعلى القانون الدوليّ. ذاك أنّ الديمقراطيّة لا تُفرض بالقوّة وعلى الضدّ من القانون. هذا إساءة للمفهومين معاً، فضلاً على إساءته للعراقيّين أنفسهم.
الحجّة كانت وجيهة، والسنوات والتجارب اللاحقة زادتها وجاهة. ضعفُها كان نابعاً من أنّ معظم مردّديها لا يهمّهم العراق ولا الديمقراطيّة ولا القانون الدوليّ. تخيّلوا نظاماً كالنظام السوريّ، مثلاً لا حصراً، يردّد هذه الحجّة فيما يرسل إلى العراق أدوات الموت.
اليوم، هناك في بيئة الممانعين حملة على المنظّمات الدوليّة وعلى جورج سورس بالتحديد: إنّ هؤلاء يدعمون قيماً غير قيمنا! إنّهم طابور خامس. حصان طروادة.
بالطبع سيكون مضحكاً لو تحدّث نقّاد الممانعة عن أنّ تلك المنظّمات تستخدم القوّة لفرض قيمها، أو أنّها تسيء للديمقراطيّة أو تتجاوز على القانون الدوليّ. مع هذا فالحدّة التي تُواجَه بها هي الحدّة إيّاها التي ووجهت بها الحرب الأميركيّة بجيشها وطائراتها ودبّاباتها.
أين تكمن المشكلة الفعليّة إذاً؟
أغلب الظنّ أنّ ما تكرهه بيئة الممانعين هو التدخّل الذي يغيّر أوضاعنا، أكان التدخّل عنفيّاً أم غير عنفيّ، قانونيّاً أو غير قانونيّ، وذلك بغضّ النظر عن مدى التغيير الذي ينجح في إحداثه. أمّا التدخّل الذي يثبّت أوضاعنا ويكرّسها فمرحّب به دائماً، بدليل الاحتفال الصاخب والمتواصل بالاحتلالين الفظّين الإيرانيّ والروسيّ في سوريّا لإسناد نظام تعود أصوله إلى 1963.
يندرج هذا السلوك في نظرة عريضة إلى العالم عنوانها: نريد أن تبقى الأشياء على ما هي عليه، وأن تُخنق الحرّيّة التي تتطاول عليها. ولأنّ تلك النظرة كونيّة، يكون المديح نصيب السياسة التي تمارسها روسيا في نطاقها الجغرافيّ المباشر، ومفادها سحق أيّة رغبة قد تراود الشعوب. كذلك تُمتدح الصين بسبب تهديدها إرادة التايوانيّين في الحفاظ على استقلالهم، وإرادة أهل التيبيت في أن يستقلّوا، بينما يلفّ الصمت إخضاع الصين، بقسوة وجلافة بالغتين، لسكّانها المسلمين.
هكذا يغدو تحصيلاً حاصلاً أن تُسمّى سياسات الممانعة سياسات رجعيّة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنّ همّها الأوحد الحفاظ على الأوضاع القائمة، ووقف التحوّل الذي أنتجته نهاية الحرب الباردة عند حدّه. وهي توجّهات تتجاوز الممانعين بطبيعة الحال، كما تطال أنظمة وجماعات أخرى، إلاّ أنّ الممانعين وحلفاءهم الدوليّين هم الذين يتولّون صياغتها الآيديولوجيّة وتبرير المواقف المنجرّة عنها. غير الممانعين من كارهي كلّ تدخّل مصابون بالحرج وأحياناً بالبُكم.
أمّا الأجندة الراديكاليّة الخالدة التي ينبغي أن لا تتغيّر فيمكن وصفها بثلاث حركات متلاحقة: حرب – هزيمة – حرب، أو مقاومة – احتلال – مقاومة… هكذا منذ أحمد عرابي في أواخر القرن التاسع عشر حتّى يوم الدين.
كلّ ما جدّ أنّ الطرف الذي بات يرعى تطبيق هذه الأجندة لم يعد هبّاتٍ شعبيّة وعفويّة تحذر الجديد، بل نظامٌ استبداديّ لا تُساءَل علاقته بشعبه ولا ينبغي إخضاعها للنقاش.
المشكلة أنّ هذا العالم الذي يدافع عنه الممانعون بالغ الهشاشة: تهدّده التجارة والسياحة وشقّ قناة أو بناء جسر. تهدّده الحياة في مجتمع ديمقراطيّ، والاطّلاع، من خلال وسائل التواصل أو التلفزيون، على ما يجري في العالم الخارجيّ. تهدّده المقارنة بالشعوب التي تعيش حياة أفضل نتلصّص عليها. تهدّده السينما والكتاب اللذان «ينبغي مراقبتهما بدقّة» و«عدم السماح بتسلّلهما إلينا»…
بالطبع، وللأسف، فإنّ هذه ليست الوجهة الوحيدة في العالم، وهي قد تتعايش مع وجهات رديئة شعبويّة وقوميّة وربّما عنصريّة. لكنّها، مع ذلك، قويّة بما يكفي لتثير المخاوف. فبلدان الانكفاء عن العالم تفرّ من عزلتها بوسائل شتّى. هذه مثلاً حال فيتنام التي تحاول لاوس تقليدها، وهي كانت لتكون حال كوبا لو لم يُعِد دونالد ترمب، في 2017، الكثير من القيود التي نزعها باراك أوباما عن التعامل معها. ولسوف تكون كوريا الشماليّة، في أغلب الظنّ، آخر البلدان مبارحةً للعزلة وللتعفّن الذي يصيب المعزول.
وهذا بعض ما يفسّر النبرة الجريح التي يعبّر عنها بعض كتّاب الممانعة وإعلاميّيها والتي تجاور النبرة الانتصاريّة المتورّمة التي يتراجع مُصدّقوها: تحسّرٌ دائم على زمن ولّى وعلى قادة رحلوا، وشكوى دائمة من زمن لم تعد فيه الشعارات القديمة «على الموضة»، فيما غدا الناس أكثر انشغالاً بهموم جديدة وأشدّ تعويلاً على طرائق أخرى في النظر والتفكير.
والحال أنّ الأزمنة تتغيّر، وتغيّرها هو بالضبط ما يجعل منها تاريخاً. أمّا عدم الإقرار بالتغيّر، والسير سير القطار الذي لا يلوي على شيء، والعيش على فكرة بسيطة واحدة تناهت إلينا عن آباء وأجداد لم يثبت أنّهم كانوا حكماء بما يكفي…، فهذا إنّما يخرج صاحبه تماماً من التاريخ.
اتركوا مجتمعاتنا راكدة ومغلقة كي نستطيع المضيّ في حكمها وفي إفقارها. هذه هي الحكمة الممانعة اليوم.
عاشت مجتمعاتنا راكدة مغلقة!
المصدر
الشرق الأوسط
عذراً التعليقات مغلقة