أثارت قافلة المساعدات الإنسانية الثانية التي دخلت إدلب شمال غربي سوريا، قادمة من مناطق سيطرة النظام، في 9 من كانون الأول الجاري، حفيظة الجهاديين المناهضين لهيئة تحرير الشام، إذ اعتبروا أن دخول القافلة بهذه السلاسة تؤشر لتوجه خطير تقوده تحرير الشام للتطبيع مع نظام الأسد واستعدادها لتقديم مزيد من التنازلات لتحافظ على بقائها كسلطة أمر واقع في منطقة يعيش فيها ملايين السوريين المفتقرين للحد الأدنى من مقومات الحياة والأمن.
ويبدو أن الجدل المستجد بين الجهاديين قد أسس لمرحلة جديدة في إدلب ستشد فيها تحرير الشام قبضتها الأمنية على رقاب المناهضين والمعارضين لسياساتها، وبالأخص الجهاديين المنشقين والمستقلين وفلول الجماعات الجهادية المنحلة، كما قد تعمل خلال الفترة القادمة على استحواذ أكبر على الإعلام المحلي بشقيه الرسمي والرديف، بحيث لن يكون هناك صوت يعلو فوق صوت مادحي تحرير الشام وذراعها المدنية “الإنقاذ”.
وهذا ما بدا على الأقل في خطاب تحرير الشام الإعلامي غير الرسمي، إذ قال الجهادي العراقي في مجلس شورى تحرير الشام، أبو ماريا القحطاني في تلغرام: “إدلب لن تكون لأهل الأهواء مرتعاً فمن قطع قرن الدواعش والغلاة لن يسمح لمن يحرض الليل والنهار على المجاهدين ويشوه صورتهم بأن يكون لهم وجود في إدلب العز”.
جدل الجهاديين
حذر الجهاديون المنشقون عن “الهيئة” في وقت مبكر من شهر كانون الأول من افتتاح المعبر مع نظام الأسد غربي سراقب، وتوقعوا خطوات إضافية قد تقوم بها لزيادة التطبيع مع النظام، ويبدو أن عيون المنشقين داخل صفوف “الهيئة” قد نقلت معلومات تؤكد وجود تحضيرات لافتتاح المعبر بشكل دائم، وليس فقط ليوم واحد لاستقبال قافلة المساعدات.
وعلى هذا الأساس بدأت القوى والشخصيات الجهادية المناهضة حملة انتقادات عنيفة ضد “الهيئة” وقائدها أبو محمد الجولاني.
الجهادي الكويتي علي العرجاني المنشق عن “الهيئة” قال في تلغرام: “القول بالتعايش والقبول بالظلم والطغيان هي فتوى شيطانية المصدر، وبيان هذا أنّ الشيطان والطغيان والشر والظلم أمر واقع ولكن ما هو الواجب الشرعي معه، والواجب هو المدافعة والجهاد بمراتبه، وهؤلاء الخونة سيستخدمونها مع كل شر حتى يقال لكم مستقبلاً نظام الأسد أمر واقع”.
من جانبه يرى العضو البارز في “حزب التحرير- ولاية سوريا”، ناصر عبد الحي، أن السماح بدخول المساعدات من مناطق النظام هي محاولة لكسر إرادة الناس وقتل نفسهم الثوري وجعلهم يألفون التعامل بشكل طبيعي مع النظام الذي أمعن فيهم قتلاً وبطشاً وتدميراً وتهجيراً، على حد تعبيره.
وأضاف عبد الحي في تلغرام: “وهي محاولة تطبيع خطيرة مع النظام لإعادة تعويمه وهي رغبة أميركية قبل كل شيء، كما تأتي هذه الخطوة مترافقة مع جرائم خطف وترويع وتضييق اقتصادي تنتهجه تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها لإخضاع الناس وإيصالهم إلى حد اليأس للقبول بجريمة الحل السياسي الذي يثبت أركان النظام وينسف تضحيات الثائرين”.
في سياق متصل، قال أحمد عبد الوهاب رئيس المكتب الإعلامي “لحزب التحرير- ولاية سوريا” في المعرفات الرسمية للحزب على مواقع التواصل: “إذا لم يتم اعتبار فتح معابر مع نظام الأسد اعترافا بشرعيته وتطبيعا معه فما هو التطبيع إذاً وما هي الشرعية”.
وأضاف: “إن فتح معابر مع طاغية الشام لا يصب إلا في مصلحته وفي صالح قيادات الفصائل المرتبطة التي لم يعد إسقاط النظام ضمن أجندتها بل جل همها جمع الأموال وبناء الثروات”.
أبو حمزة الكردي، قيادي سابق في تحرير الشام، قال في تلغرام: “الجولاني حامي الدوريات وفاتح المعابر ومقتحم بيوت المجاهدين وكاشف عوراتهم ومروع نسائهم ومرعب المدنيين والآمنين وسارق أرزاقهم وأقواتهم سمح بمرور القافلة بسلاسة ونجاح”.
وتابع: “أرسل لي شخص من المعبر قائلا، تم تأمين مرور القافلة ولم تتعرض أي شاحنة للاستهداف بعبوة أو قذيفة على الطريق من قبل أي مجموعة معروفة أو مجهولة، ولم يتم تفتيش أي شاحنة في القافلة لمعرفة إذا كانت تحوي ملوخية أو فليفلة أو بطاطا، ولم يتم قياس خزان المازوت لأي شاحنة خمسة أو عشرة ليتر، ولم يتم طلب هوية أي سائق أو مرافق ضمن القافلة لمعرفة إذا كان ضابطا أو شبيحا أو جاسوسا لأنهم مرسلون من قبل جهة موثوقة، ولم يتم أخذ ضريبة 30 دولاراً عن أي سيارة دخلت مع القافلة لأنها ضمن المساعدات لتجميل وجه النظام والتطبيع معه”.
هجوم الجهاديين على تحرير الشام دفع محمد البشير، مدير العلاقات العامة في وزارة التنمية والشؤون الإنسانية في “حكومة الإنقاذ”، إلى عقد مؤتمر صحفي في إدلب. قال البشير: “في بداية العام الجاري بدأ المحتل الروسي يمارس أساليب ضغطه من أجل حصر دخول المساعدات من خلال منفذ واحد عبر خطوط التماس، ولصعوبة الأحوال المعيشية حينذاك رفضنا أساليب البلطجة واستغلال معاناة أهلنا لأنها تتعلق بإرادة الشعب واختياره، واشترطنا أن لا تناقش مسألة المنفذ عبر خطوط التماس إلا بعد تجديد قرار إدخال المساعدات الأممية من خلال المعبر الحدودي باب الهوى”.
وأضاف: “رفضنا مشاركة أذرع النظام الإنسانية بأي عملية ولم نقبل أن يكون للهلال الأحمر السوري أي دور وحرصنا على أن تكون المساعدات عبر خطوط التماس حصة إضافية على المساعدات التي تدخل من باب الهوى، فكمية المساعدات القادمة عبر خطوط التماس تقدر بـ 14 شاحنة، بينما يدخل قرابة 1000 شاحنة شهرياً من باب الهوى”.
واعتبر أن “من شأن هذه القافلة أن تدفع تجاه تجديد قرار إدخال المساعدات عبر باب الهوى، لن نسمح بمساومة الشعب على قوت يومه، لذلك سنحرص دائما كي لا تكون قوافل المساعدات عبر الخطوط بديلاً عن المعبر”.
بالمقابل، يرى الجهاديون أن تصريحات “البشير” متناقضة و”مليئة بالكذب”، وبالتحديد فيما يخص تصريحاته حول تطور عملية دخول المساعدات وعن “التشبيح” العسكري والسياسي الذي يمارسه النظام ضد المدنيين، وهذا الوصف برأيهم ينطبق على تحرير الشام التي لم تكتف “بالتشبيح” العسكري والسياسي، والتي لطالما استغلت الدين للتبرير لتجاوزاتها المصلحية.
ويرى الجهاديون بأن خضوع تحرير الشام للإملاءات الروسية، وعملها على إخضاع المناهضين والمنافسين لها بالتبرير الكاذب والبلطجة والعنف، يدحض تصريحات “البشير”.
من جانبه قال القيادي السابق في تحرير الشام، أبو يحيى الشامي، في تلغرام: “ألا يعلم المخدوع بتبريرات تحرير الشام بأن الركون إلى الاستقرار المؤقت المزيف، وبناء مؤسسات صورية وهمية، والسيطرة على أملاك زائلة، يؤدي إلى الخوف عليها والتنازل في سبيل الحفاظ عليها، سراب في سراب، وستعلمون أن هذه الخطوة تتبعها خطوات وهرولة باتجاه إنهاء الثورة والجهاد، ولات حين مندم”.
جبهة مضادة
وكان أنصار وقادة ومنظرون في “الهيئة” قد شكّلوا ما يشبه “جيش دفاع إلكتروني” للتسويق للقرارات والإجراءات التي تُتخذ في الإدارتين المدنية والعسكرية في إدلب شمال غربي سوريا، إضافة إلى شن هجمات معاكسة ضد الجهاديين المنتقدين والمناهضين لسياسة “الهيئة” وأداء حكومتها “الإنقاذ”. وهذا ما حصل مؤخراً في الدفاع عن دخول قافلة المساعدات القادمة من مناطق النظام.
بدأ “جيش الدفاع الإلكتروني” المفترض مرتاحاً للغاية مؤخراً بعد أن أوقف الجهاز الأمني التابع لتحرير الشام عدداً من أعضاء فريق إعلامي يتبع لتنظيم “حراس الدين” كان يدير عدة مجموعات إعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص في تلغرام، والفريق كان يرصد تحركات تحرير الشام وينقل تسريبات من داخل بيتها الداخلي.
وشكل نشاط الفريق المتصاعد (يتبع لحراس الدين) منذ بداية العام 2021 خطراً على تحرير الشام وأحرجها في كثير من الأحيان، وهو ما دفع أمنييها لبذل جهود كبيرة في تعقب الفريق، وقد نجحوا بالفعل بالوصول إلى بعضهم، وأجبروهم على وقف نشاطهم بشكل كلي.
بعد تسلمه مهامه في رئاسة “الإنقاذ”، كرّم مدير المديرية العامة للإعلام علي كده، نجيب محمد الخليل، ونائبه أحمد العبود، وقالت “الإنقاذ” إن التكريم جاء “تقديراً لجهودهما المبذولة في تطوير العمل الإعلامي في المناطق المحررة”.
Sorry Comments are closed