يذكرني ما حصل في جنيف من مسرحية هزلية تسمى مسار اللجنة الدستورية التي كان قد كتبت فصولها روسيا وأخرجها المبعوث الدولي السابق ستيفان دي مستورا، بقصة رواها لي أحد الأصدقاء الحقوقيين الذي خدم في سلك القضاء العسكري في تسعينيات القرن الماضي.
تقول القصة إن رجلاً ابتلاه الله بلعب القمار وكان دائم الخسارة لدرجة أنه لم يعد يملك شيئاً يراهن عليه، وفي إحدى الجولات طلب مقامروه الرهان على زوجته مقابل عشرة آلاف ليرة فلم يتردد ولم يفكر، ووافق فوراً وبدأ اللعب بشرط أن تكون (البرتية) عشر جولات، كل جولة مقابل ألف ليرة.
خسر الرجل الجولة الأولى فصاح أحد الحضور “راحت المرأة”، فرد عليه الزوج بالقول: صلي على النبي لسّا في أمل. وفي الجولة الثانية خسر أيضا وصاح الحضور كله: “راحت المرأة” فرد عليهم: صلوا على النبي يا جماعة..
أشفق عليه أحد الحاضرين وقال له أنا أقرضك ألفي ليرة بشرط أن تنهي اللعبة وتغادر المقمرة وتحافظ على شرف زوجتك، فغضب منه صاحبنا وحلف بالطلاق أنه لن يغادر حتى يربح أو يخسر زوجته.
وبالفعل انتهت اللعبة بخسارته، فركب خلف الرابح إلى البيت وأخبر زوجته أنه خسرها بالقمار مقابل عشرة آلاف ليرة، فأردفها الرابح خلفه على الدراجة النارية طالباً ساحل البحر الهادئ والجو اللطيف، ولما علم أهلها بالأمر هجموا على زوجها فخرج عليهم قائلاً: “صلوا على النبي يا جماعة، بكرا بلعب وبرجعها وفوقها حبة مسك”!! .. راحت المرأة وبقي الزوج المقامر لديه الأمل باسترجاع زوجته.
والحال أن اللجنة الدستورية التي مضى على بدء أعمالها أكثر من سنتين واستغرق تشكليها ما يقارب السنة والنصف سنة، ورغم المعارضة الجارفة التي تواجه بها بسبب المآخذ المبدئية والتقنية والسياسية والقانونية عليها، ورغم كل المؤشرات التي تؤكد خطر استمرارها، إلا أن وفد المعارضة ما زال مستمراً في هذه المقامرة، بل إن أعضاءه مصرون على اللعب وخسارة المزيد من الجولات عل حساب دماء السوريين ومعاناتهم التي فاقت كل الحدود، رغم أن الجولات الست كانت نتائجها، ولحسن حظ السوريين صفر مكعب.
الحكاية ظهرت بوادرها في شباط 2017 أثناء مفاوضات جنيف-4، عندما طرح دي مستورا فكرة السلال الأربعة (هيئة الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، الإرهاب) لتفتيت مضمون القرار الدولي 2254 وقبلت بها آنذاك الهيئة العليا للمفاوضات، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو اختراق روسيا للقرارات الأممية والالتفاف عليها.
وقد انطلت تلك الحيلة على وفد المعارضة المفاوض فصدّق أنه سيتم العمل على هذه السلال الأربعة، حسب التسلسل الوارد في القرار الأممي 2254، ورفع أعضاء الوفد شعار (لن يتم الاتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء)، وصدعوا رؤوس السوريين بهذا الشعار، علماً أنهم لم يتلقوا أي وعداً مكتوباً بتنفيذه، سوى وعداً شفهياً من ديمستورا.
وما يثير الاستغراب كيف لوفد مفاوض أن يقبل بتنازل بهذا الحجم بضمانة وعد شفهي ؟! رغم أنه كان واضحاً منذ ذلك الحين أنه يتم العمل على تجزئة الحل السياسي واختزاله بما يتوافق مع وجهة النظر الروسية، الرامية الى تعديل الدستور الحالي وإجراء انتخابات صورية تفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تحت مظلة قاتل السوريين.
روسيا وبعد أن ضمنت موافقة كل أطراف المعارضة السورية على فكرة السلال الأربع، انتقلت إلى الخطوة اللاحقة، وهي اختزال جميع هذه السلال بسلة واحدة هي سلة الدستور، ونجحت في تحقيق أهدافها منذ بداية مسار أستانا وحتى مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في سوتشي في شهر كانون الثاني/يناير 2018، من خلال مسألتين:
الأولى: احتواء القوى العسكرية المعارضة، سواء من خلال جلبها إلى التفاوض عبر مسار أستانا، أو من خلال استهدافها عسكرياً.
المسألة الثانية: تعزيز القناعة لدى المجتمع الدولي بأن أستانا هي المسار الذي سيفضي إلى الحل السياسي، وبالتالي تحييد مسار جنيف كلياً، وأصبحت اللجنة الدستورية التي تم إقرارها في هذا المؤتمر بعد تشكيلها بتوافق إقليمي ودولي، بعيداً عن إرادة السوريين، أمراً واقعاً.
المشكلة في مسار اللجنة الدستورية ليست كيف يُكتب الدستور، ولكن متى يُكتب الدستور. فالدستور في الدول التي تمر بصراعات وحروب وحالات مشابهة، يُكتب في نهاية المرحلة الانتقالية التي تقودها في الحالة السورية هيئة الحكم الانتقالي (التي تم القفز عليها وتجاوزها) بعد تهيئة الظروف (البيئة الآمنة والمحايدة) لعودة المهجرين، وإطلاق سراح المعتقلين، وكشف مصير المفقودين، وإقامة برنامج للعدالة الانتقالية يفضي من حيث النتيجة للمصالحة الوطنية الشاملة، بالإضافة إلى إصدار القوانين اللازمة لانطلاق الحياة السياسية.
كل هذا يتم في المرحلة الانتقالية التي يجري في نهايتها انتخابات حرة ونزيهة لجمعية تأسيسية تقوم بكتابة دستور للبلاد في أجواء طبيعية تمكن كل المواطنين من المشاركة في صياغة عقدهم الاجتماعي، وبالتالي يكون الدستور تتويجاً للمرحلة الانتقالية.
لكن حتى إجرائياً فإن كل ما حدث حتى الآن يؤكد تحقيق أهداف النظام في تضييع الوقت وتمييع المسار وإفراغ كل نقاش من مضمونه، سواء بالجدل أو بالمقترحات البائسة أو المستفزة.
وعلى سبيل المثال، فإن ما حصل في الجولة السادسة من مفاوضات اللجنة الدستورية أن النظام استطاع أن يوهم المجتمع الدولي بأنه يشارك فعلياً في العملية الدستورية، ونجح مرة أخرى في اختيار البداية التي تخدم مسعاه، وأعني الانطلاق من المبادئ الدستورية، وكان متوقعاً أن يبدأ بالحديث عن مضامين دستورية هي موضع خلاف ضمن وفد المعارضة مثل (اسم الدولة، اللغة الرسمية، اللامركزية: إدارية كانت أم سياسية، وضع الشريعة الإسلامية في الدستور .. الخ).
بدأ وفد النظام الذي كان له الأولوية دائماً في طرح مقترحاته على مدار كل الجولات السابقة، بالحديث في الجولة الأخيرة التي انتهت الجمعة، عن (السيادة الوطنية وسيادة الدولة السورية)، وهو من خلال اختياره لهذين الموضوعين أراد أن يحشر وفد المعارضة في زاوية ضيقة، ويقول لهم: أنتم عملاء للخارج الأجنبي.
ولم تكن أبداً مصادفة تزامن تفجير حافلة المبيت العسكري في وسط دمشق قبل يوم فقط من طرح وفد النظام موضوع الإرهاب، ليوحي للجميع أنه يحارب الإرهاب، في محاولة لإحراج وفد المعارضة، رغم أن بصمات استخبارات النظام واضحة في هذا العمل وضوح الشمس.
لم يتوقف النظام عند ذلك الحد، بل وفي تحدٍ للعالم وكعادته أثناء كل استحقاق سياسي، وفي نفس توقيت تفجير الحافلة، ارتكب مجزرة مروعة بقصف مدينة أريحا ليرتقي ثلاثة عشر شهيداً من تلاميذ المدارس والمدرسين، غير آبه بمن يجلس معه ويفاوضه على (صياغة إصلاحات دستورية) وليس كتابة دستور جديد، كما صرح بذلك المبعوث الدولي غير بيدرسن الذي أكد أن رئيسي وفدي النظام والمعارضة قد اتفقا على ذلك، ما يعني إصلاح ما هو قائم وإجراء بعض التعديلات على دستور 2012 فقط، رغم تفسير هادي البحرة بأن صياغة إصلاح دستوري هو أوسع من كتابة دستور جديد، في تبرير لم يكن مقنعاً لاحد.
من الواضح أن ما قام به النظام كان اختباراً لمدى تمسك وفد المعارضة بمسار اللجنة الدستورية، وأنهم لن يتخذوا أي فعل سياسي (تعليق مشاركة، انسحاب، تجميد عضوية، مقاطعة) أو حتى على أقل تقدير الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء، بذريعة أنه ليس بيدنا أوراق قوة، والنظام كسب المعركة عسكرياً، غير مدركين أن مفهوم السياسة عند من يتنطعون لتمثيل الثورات، وخاصة عندما تكون بحجم الثورة السورية وتضحياتها، هو ليس فن الممكن، بل هو فن تحقيق المستحيل.
الوفد المعارض مصرّ على الاستمرار في الذهاب إلى جنيف والمشاركة في هذه العملية العبثية حتى لو أُبيد الشعب السوري بأكمله، وما يدل على ذلك جواب السيد هادي البحرة على سؤال أحد الصحافيين حين سأله أنه “في حال استمر قصف قوات النظام على السوريين هل ستقاطعون الجلسات”؟ فأجابه “إن المقاطعة لن توقف القتل، إننا مستمرون”.
والسؤال الذي يطرح نفسه ويتحاشى وفد المعارضة سماعه هو: إذا كان الانسحاب أو تعليق عمل اللجنة الدستورية لا يوقف قتل السوريين، فهل استمرارهم فيها يوقف هذا القتل؟! وهل المشاركون في هذه المفاوضات من مختلف الأطراف مقتنعون حقاً أن النظام الذي يشن منذ أكثر من عشر سنوات حرب إبادة على السوريين للحفاظ على السلطة وكرسي الحكم، سوف يقبل بكتابة دستور يطيح به ؟!! يقول المثل الشعبي: (مجنون يحكي وعاقل يسمع).
ربما من حسن حظ السوريين أن النظام أفشل أعمال اللجنة الدستورية، التي رغم تصريحات المبعوث الدولي بفشلها على يد النظام، وهي تصريحات كررها مع نهاية الجولة الحالية (السادسة) وكذلك بنهاية الجولة الخامسة التي سبقتها، لكن مع ذلك فإن رئيس وفد المعارضة مصر أن هذه الجولات إيجابية وحققت أهدافها!.
عذراً التعليقات مغلقة