منذ اليوم الأول لثورة السوريين، برزت أسماء إعلاميين وإعلاميات، سياسيين وسياسيات، محللين ومحللات.. تصدّوا في أغلبهم للنقاش في المسألة السورية في أبعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية بالطبع، كما قاموا بتناول مختلف المعطيات المحلية والإقليمية والدولية المتعلقة بها. أما بين القلّة من الباحثين والباحثات المحليين، فقد اكتفى الجادّون منهم بأن يحاولوا اتباع مناهج علمية تعتمد على تسخير مدروس لمجموعة من العلوم الإنسانية خصوصاً منها علوم السياسة والتاريخ والعلاقات الدولية، لمحاولة تبيّن الواقع والسعي إلى وضع سيناريوهات قابلة دائماً للنقد وللنقض، للمسارات التي يمكن أن تسلكها مآلات الوضع السوري.
جرى إذاً التمييز الواضح بين جموع المعلّقين من جهة ومجموعات الباحثين من جهة أخرى، لمحاولة الاستقراء وتقاسم الرأي بما يحصل مع أوسع شريحة ممكنة من المتابعين. وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين الفئتين فيما يتعلق بالبحث عن توسيع رقعة التأثير إلى أقصى حد، فالمعلق محللاً كان أو صحافياً أو سياسياً، يسعى إلى التأثير في أوسع شريحة ممكنة، وهذا طبيعي للغاية. أما الباحث الجاد، فهو يرتضي بأن يقع تحليله بين أيدي أصحاب القرار أولاً، أو من ماثلهم، ليحاول أن يؤثّر عليهم نسبياً. كما لا يُرضيه أن يقرأ مخرجاته من هم بالأمر المبحوث متبحرين، من زملاء أو من قارئين، سعياً لبناء سمعة علمية تتناسب مع الجهد المبذول في إنتاج العمل. ولا يسوؤه أخيراً، أن تلقى مخرجاته صدى لدى أوسع شريحة من المهتمين العاديين أو المتخصصين.
ما فتئ المحللون ومن ماثلهم في اجتراح الحلول التي اعتقدوا أن معرفتهم العمومية تساعدهم للوصول إلى مصادرها الرئيسية والاستعلام عن تفاصيلها
وفي حين انصرف العاملون في المجال البحثي طوال السنوات الماضية إلى التعمّق في دراسة الجوانب المتعددة للمسألة السورية مستخلصين بعض النتائج مع التشدد في النسبية، كما وضعوا بعض الاستقراءات الحذرة وصولاً إلى استنباط عدد ضئيل مما يمكن اعتباره استشرافاً لما ستؤول إليه الأوضاع بلغة تبتعد عن اليقين وتدعو دائماً إلى التساؤل والشك، ما فتئ المحللون ومن ماثلهم في اجتراح الحلول التي اعتقدوا أن معرفتهم العمومية تساعدهم في الوصول إلى مصادرها الرئيسية والاستعلام عن تفاصيلها من خلال لقاء جمعهم فعلاً أو قيل عن قال بهذا المسؤول الدولي أو ذاك المسؤول الإقليمي. وكانت رواياتهم تحمل دائماً، إلى جانب الحوار المبالغ به، حسماً وجزماً ونفياً لأي رأي مخالف.
بعد مرور عشر سنوات على انطلاق ومسار الحالة السورية المستعصية، وبعد الانتقال من الاحتجاجات السلمية إلى المقتلة الشاملة بحق الإنسان، بدأت تفوح في الأجواء، بنوعيها الملوُّث والنقي، سيناريوهات عدة تَنظُر وتُنظّر لمستقبل ما. وفي الأشهر القليلة الماضية، أبدعت الأقلام الملوّنة والمتلوّنة بخط السيناريوهات المستقبلية وطرح التصوّرات المستندة إلى معلومات يؤكّد أصحابها أنها دقيقة ولا لبس فيها ولا يمكن التشكيك في أي من تفاصيلها. وفي حمئة التحليلات الصحفية وسواها، من قبل مهنيين إعلاميين وسياسيين، انكفأ الباحثون وجلاً معتبرين بأن المشهد لم يعد يتسع لما يهرفوا به والذي هو أساساً مبنيٌ على العلم والمعرفة. وبالتالي، فقد صار المشهد مفتوحاً أمام الضرب بالمندل أو قراءة الغيب أو تفكيك إشارات الكرة الزجاجية، كما استطرد الكثيرون في تطوير قصص لقاءات مهمة مع أشخاص مفتاحيون في المسائل كافة. فصار الحديث عن تبعض الحلول بتفاصيل مملة تكاد تدفع إلى البال الظنون بأن راويها قد خرج لتوّه من الكرملين أو من البيت الأبيض أو من الإليزيه، بعد أن تناول طعام الفطار المنزلي لرؤساء تلكم القصور.
ويغلب على هذه المخرجات سابقة التوصيف في جزء كبير منها، التفكير الرغبوي. فإن كنت أمني النفس بحل عسكري، سأخترع رواية مسؤول أوروبي كبير لي في لقاء جمعنا خلال الإجازة، وفيه حدثني عن خطة لغزو بحري على نمط إنزال النورماندي في نهاية الحرب العالمية الثانية. وإن كنت أقل كاريكاتورية من ذلك وأكثر احتراماً لذكاء المتلقي، سأطرح سيناريو المجلس العسكري الجامع بأسماء أعضائه الثلاثية حتى. وإن اشتد تواضعي وسعيت لأن يكون طرحي مقبولاً حتى ممن لا ينقصهم الذكاء، فسأخوض في سيناريوهات متشابكة لا يمكن فهم رأسها من ذنبها مستعملاً أسماء علم لكل من خُيّل لي بأنني التقيتهم وأفادوني بزبدة الأمور والحلول. خلال هذا الأسلوب، أستطيع إثارة إعجاب محاوري والمتلقين عموماً بحيث يظنون، وإن بعد الظن خيبة، بأنني أتواصل يومياً مع قادة هذا العالم ولا يُخفى عني شيء.
الأشد مرارة للباحثين المطلعين على تجارب تاريخية سبقت المقتلة السورية، والتي كشفت لهم ابتعاد الأخلاق الحميدة عن إدارة المسائل السياسية في الكثير من الحالات
اليوم، مع العودة الواضحة لبعض العرب وبعض الغرب إلى أحضان دمشق، يكثر النفي بحدة. ويُطوّر النافون سرديات مليئة بالتفاصيل الشيطانية التي تجعل من أمامهم فاغر الفاه. والأشد مرارة للباحثين المطلعين على تجارب تاريخية سبقت المقتلة السورية، والتي كشفت لهم ابتعاد الأخلاق الحميدة عن إدارة المسائل السياسية في الكثير من الحالات، يخرج القول بأن الغرب “الديمقراطي” لا يمكن له ـ مع التشديد على النفي ـ أن يعود إلى دمشق دون تغيير في النظام لأن “أخلاقه” لا تسمح له بذلك. ويتذكر الباحث الورع سيرة الجنرال فرانكو الذي قتل مئات الآلاف من الإسبان بدعم نازي وفاشي، والذي عاد إليه الغرب بعد انهزام داعميه لمجرد أنه قدّم نفسه أداة مواجهة للشيوعية واستضافت أراضيه قواعد عسكرية غربية. ظل حاكماً شرساً ومستبداً حتى مماته. لكن، من يسمع الباحث؟
Sorry Comments are closed