حرية برس – داريا – عائشة صبري:
“كنت أسأل نفسي.. ليش كل هاد؟ ليش الحكم بالقتل؟ ليش هالناس تموت؟ شو ذنبنا الصغار.. ليش تنقتل أحلام بسيطة؟ ليش تنقتل أشخاص تعبت وتعلّمت لتترك أثر بالمجتمع، وللأسف في منهم ما بقي إلهم أثر.. ما بعرف كيف كنت أتطلع وشوف الجثث يمين ويسار أو بالأحرى فوق بعضها.. ما بعرف كيف وأنا طفل كنت اتحمّل أسمع أمّ عم تبكي على ابنها”.
بهذه الكلمات يروي الناشط حسن هدله (مواليد داريا عام 1999)، لـ”حرية برس” حكاية “القبو” خلال مجزرة مدينة داريا الواقعة غرب العاصمة دمشق بحوالي 8 كيلومترات، والقريبة من حي المزة الدمشقي ومدينة معضمية الشام، كما أنّها تُعد أكبر مدن الغوطة الغربية.
شهد الحدث عندما كان في الثالثة عشر من عمره، وحينها كانت أكبر أحلامه دراجة هوائية أو نزهة مع الأهل بعد شراء ملابس جديدة بمناسبة عيد الفطر والحصول على عيدية، ورؤية عيون الصغار متلهفين لفرحة العيد.
يقول هدله: “في ثاني أيام عيد الفطر الواقع في 20 / 08 / 2012 تتفاجأ داريا بقطع الكهرباء وتتحاصر المدينة من قبل جيش النظام والفرقة الرابعة والشبيحة، ليبدأوا القصف بقذائف مدفعية، قصف بشكل غريب ومريب وعشوائي، أنا الذي جمعت (فتيش) حتى ألعب به بصوته العالي.. لم يعد صوت (الفتيش) له معنى بعد هذا القصف!”.
ويضيف: “بعد التمهيد المدفعي بدأت الطائرات الجوية تقصف وقتلت العشرات، بلحظات أسمع بمقتل 70 شخصاً بالحي، بعد ها بأيام سمعت بأنّ الشباب المرابطين على أطراف المدينة لم يعد لديهم أيّ ذخيرة، وضجّ الخبر بين الناس، إلى أن انسحبوا من الجبهات لأنّهم لم يعد بإمكانهم أن يفعلوا أي شيء”.
ويردف: “دخل جيش النظام من الجهة الشرقية للمدينة وكان جمع من الناس يختبئون في جامع عمر، هرباً من القصف، فدخل إليهم عدد كبير من الشبيحة وقتلوهم بالرصاص المباشر، كان عدد الضحايا نحو مئة شخص، وللعلم لا أعتقد أنّ مجزرة جامع عمر موثقة”.
يتابع: “بعد يوم اتصلت بنا جارتنا وهي من الطائفة المسيحية أخبرتنا بأنّهم يوزعون الخبز في الكينسة، (ما بحكيلكن قدي كانت الناس جوعانة ومو لاقية شي تاكله)، المهم ذهبت وأنا خائف كثيراً، لكن توجب عليّ الذهاب لسد الجوع، وقبل أن أصل إلى الكنيسة رأيتُ عدداً من العساكر وهم يجمعون الأهالي لأجل خيار واحد هو قتلهم، أنا فوراً سحبت رجليي بثقل فظيع وركضت بشكل أعمى وأنا ألتفت بكل الاتجاهات وسط دقات قلب سريعة.. لا أعرف وصف المشهد، حتى وصلت إلى البيت لاحظ أهلي بأنّي خائف ومرعوب، وأخبرتهم بالذي صار معي”.
في الساعة الحادية عشر ليلاً، اشتد القصف، مضيفاً: “أمي اتصلت بأهلها لم يستجب أحد، وبعد عدة محاولات ردّت خالتي من هاتف خالي المحمول وقالت: خذوا كل الرجال والشباب بالحارة لأن خوالي وجدي شلحوهم وضربوهم… وسكرت الخط!، بعدها خرجت إلى الحارة برفقة عمي وأبي بعد هدوء نسبي للقصف.. كنا نُفكّر ماذا نعمل وأين نذهب وأين نتخبئ..”.
يتابع هدله: “وفجأة رأينا أناس هاربين من النظام وتحدثوا إلينا عن كيفية قتل الجيش للناس وخاصة قتل الأطفال الذين قتلوهم عبر دهس رؤوسهم برجليهم بلا ذرة إحساس أو رحمة.. ويضربون الأمهات اللواتي حاولن الدفاع عن أولادهن، وكانوا يخيّرون الأم أي ولد من أولادها تريد أن يبقى على قيد الحياة (كيف لأم تستطيع أن تختار أصلاً! وحتى إذا رفضت تختار يقتلون الكل وكأن شيئاً لم يكن”.
“بالطبع أنا أسمع وأتخيّل بنفس اللحظة أنّ ما حصل مع تلك الأمهات سيحصل مع أمي أيضاً.. بعد ساعات اتصلت أمي برقم بيت جدي عند الساعة الثانية ظهراً، فجاءها الخبر بأن كلّهم استشهدوا (أخوالي وجدي وأعمام أمي وأولاد عمّها وجيرانهم)”. حسبما روى حسن هدله.
في هذه اللحظات بدأ “حسن” يتيّقن أنَّه سيموت؟، وتساءل كيف؟ أتحت التعذيب أم برصاصة أو نحراً بالسكين، وحينها بماذا سيشعر!، وتساءل من سيُقتل أولاً؟ مجيباً نفسه: “أنا أمي أيّ أخ من إخوتي ستختار، أو سيقتلون الكلّ ويتركوني أتعذّب برؤيتهم، هناك الخوف وحده قاتل”.
عندما أصبحت الساعة الرابعة عصراً.. “سمعنا إطلاق نار بشكل كثيف جانب بينتا قرب بساتين داريا الفاصلة بيننا وبين مدينة صحنايا، صعدت إلى السطح فرأيت مجموعة عناصر من الفرقة الرابعة والميليشيات الشيعية تشاجروا ببعضهم وقتلوا وجرحوا بعض.. وحدثت المشاجرة بينهم بعد تصفيتهم رمياً بالرصاص لعدد من الأهالي احتجزوهم في معمل لصنع البلوك”.
بالتأكيد هذه الأهوال يراها “حسن” بعينيه ولم يعد يحتمل، فبدأ يُفكّر للحظات ليركض بعدها، ويُخبر عائلته بما شاهده من مجازر، وهنا اتخذ أهله قرار الهروب من داريا إلى أيّ مكان آمن.
يقول حسن هدله: “مشينا بين زرع الملوخية والذرة، وجلسنا ما يقارب الساعة بعدها سمعنا صراخ النساء والأطفال بشكل كثيف من جهة بيوت أقارب أبي، فركضنا إلى بيت ابن عم أبي لأنّه يطلّ على شارعين، ومن أجل أن نخرج من الباب المطلّ على الشارع الرئيسي”.
يتابع: “عندما وصلنا هناك دققنا الباب.. خرجت زوجة ابن عمي وهي ترتجف قالت لنا إنّ الجيش عندها يبحث عن شباب كي يقتلهم، فهربنا على الفور ركضاً باتجاه كرمنا واختبأنا بين الزرع، رأيتُ دبابة واقفة على طريق ترابي ومجموعة من الشباب جاثية على الأرض، بعد قليل تحرّكت الدبابة وصارت تدهسهم أمام أعين أهاليهم وعلا صوت الصراخ والبكاء من كل مكان.. بعدها عدنا إلى البيت ننتظر آخر ضيف وهو الموت!”.
عند الساعة السادسة مساءً، توقف القتل وبدأ التراجع لجيش الأسد وهو يُحاصر داريا من كلّ مكان، حينها كان الأهالي لا يعرفون سوى الموت والسجن الكبير المحاط بهم.
يروي حسن هدله عندما قرّر عمّه المحاولة للنجاة من الموت المحتم، وقال عمّه: “يجب أن نزحف داخل البساتين حتى ننقذ حياتنا”، وهو بنفس اللحظة يُحاول أن يجد أيّ منفذ يوصله إلى صحنايا، لكنّه لم يستطع فالقناص سبقه وأطلق عليه النار، فتراجع عن قراره، وحكى لنا كيف كانت الجثث ممتلئة على الأرض، وصراخ المصابين يضج بكلّ مكان لكن كان عاجزاً عن إنقاذ أي جريح..”.
أيضاً يضيف هدله: قرّر خالي قراراً ليس بأفضل من قرار عمي، بأنّه “سيخاطر ويمرّ من بين عناصر الجيش علماً أنّ ساتر الجيش على الجانبين والجو ليلي وظلام داكن، واستطاع المرور وأخرج أولاده خارج الحي، وبعدها عاد إلينا وحكى لنا بأنّ الطريق ليس سهلاً لكنّه استطاع أن يتخطاه.. مشى خالي أمامنا ونحن وراؤه بالسيارة وكانت الأجواء بداية مطلع الفجر”.
يتابع: “رأيت العساكر من بعيد كيف واقفين لكنّهم لم يشاهدونا، فقدرة رب العالمين أعمت أبصارهم، وكان الطريق الذي قطعناه مليئاً بالجثث، فذهبنا إلى بيت شخص قريب من مسجد أبو سليمان، ودخلنا إلى بيت جدي رأينا كيف كانت سفرة الطعام موجودة، وقُتلوا قبل أن يتناولونها للأسف..”.
بعدها نزل “هدله” وعائلته إلى القبو الذي وقعت فيه المجزرة، كانت الدماء تُغطي كلّ مكان، الجدران والأرض وملابس الضحايا، هنا لم يحتملوا المشهد والرائحة، فذهبوا لمنزل عمهم فوجدوه محروقاً، وفي المطبخ بقايا جثث!، ثم دخلوا إلى مسجد “أبو سليمان” الذي وضعت فيه جثامين الشهداء من بينهم جد “حسن” وأخواله، فكانت النظرة الأخيرة إليهم.
“أبو صياح” يصرخ بقوله: “اجا الجيش.. اطلعوا.. اجا الجيش..”، فخرجنا من المسجد إلى بيت جدي جنب جامع المصطفى، وكان لديهم جيران (من طائفة ما) موالية للنظام، دخلنا إليهم وانصدمنا عندما أخبرونا: “الجيش ما حكّى حدا ونحن نتعامل مع الجيش وناكل ونشرب معهم”، غير آبهين بأنّه على بعد أمتار احترقت ناس وقُتلت وانقصفت المباني والمساجد!.
هنا ذهبت أمي إلى منزل أهلها واتصلت بنا وقالت: “جارتنا ابنها مخبر وتسبّب بموت الكثير من الشباب ويجب أن تخرجوا من عندها بسرعة”، وعندما رأتنا سنغادر حاولت تلهينا بتناول الفطور كي تسلّمنا للجيش، فهربنا مسرعين من المدخل الثاني من الحارة، وتنقلنا من حي لحي حتى قطعنا طريق “الدحاديل” ووصلنا “لوان” وكان خروجنا من داريا عند الساعة 12 ظهراً يوم 26/ 08 / 2012 وكان آخر يوم من المجزرة التي استمرت سبعة أيام متواصلة. حسب قول حسن هدله.
الجدير بالذكر بأنّ مجزرة داريا المذكورة راح ضحيتها أكثر من 700 مدني بينهم 522 شخصاً وُثقوا بالاسم، بحسب المجلس المحلي لداريا، لكنّها لم تكن كافية لإنهاء معاناة المدينة التي فرض عليها نظام الأسد حصاراً خانقاً دام أربع سنوات قبل أن يُهجّر أهلها في 26 /08 / 2016.
بالطبع لم تمر أهوال مجزرة داريا على ابن الثلاثة عشر ربيعاً بسهولة، بل جعلت منه رجلاً ثائراً يهتف ضد الأسد في مظاهرات داريا، ودخل المجال الإعلامي مبكراً لينقل الحدث مباشرة للقنوات الفضائية، وأصيب بشظية في عينه عام 2015، وبعد التهجير من داريا أصيب بانفجار لغم أثناء تواجده في ريف حلب عام 2017، أدت لتهشم جزء كبير من قدمه، وبعد رحلة علاج شاقة في تركيا خضع خلالها للعديد من العمليات الجراحية وعمل في مجالي الخياطة والتصوير، يحاول حسن هدله اليوم الاستمرار في نشاطه الثوري ما استطاع إليه سبيلاً.
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=2166308156873152&set=pb.100004819664018.-2207520000&type=3
عذراً التعليقات مغلقة