حين تهجّرت من حلب، لم تحمل إلا متاعاً قليلاً، لكن حملت مشروعاً كبيراً في وجدانها، واستمرت فيه حتى وفاتها، وها هي ذا اليوم بعد الرحيل تقطف ثمار مشروع نضج، وتنحب على من حولها أن يستمر ليكون جائزتها الأبدية.
“أم اليتامى وأم المساكين وأم الغلابة وأم وسيم”، تعددت التسميات في حضرة رحيل الناشطة في المجال الإنساني، نور الهدى حفّار، أمس الجمعة، عن عمر يناهز 73 عاماً، في إثر نوبة قلبية، بعد مسيرة عمل إنساني وتربوية طويلتين مع الأجيال وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال اليتامى، بدءاً من مدينتها حلب إلى مكان تهجيرها.
ولاقى رحيل “أم وسيم” طيفاً واسعاً من التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل سوريين وجمعيات خيرية وإنسانية وفرق تطوعية وفعاليات مدنيّة، يدلل على يدٍ بيضاء ناصعة للراحلة في مجال العمل الإنساني المتخصص في فئة الأطفال وتحديداً المعوّقين وذوي الاحتياجات الخاصة، علاوةً على ذكرٍ طيب خلّفته السيدة السبعينية في رحاب العمل الإنساني الشائك في سوريا.
من تكون أم وسيم؟
عرفها السوريون خلال السنوات القليلة الماضية، في إثر التغطية الإعلامية التي حظي بها مشروع رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة الذي أطلقته من مدينة حلب، إلى محطّ تهجيرها في بلدة الجينة بريف حلب الغربي، أما طموحها وشغفها فهو معروف لدى الدائرة القريبة والضيقة حول الراحلة منذ سنين طويلة.
نور الهدى “أم وسيم” من مواليد حي “التلل” في مدينة حلب عام 1948، درست كلية التربية في جامعة حلب وتخرّجت فيها، وبدأت العمل في السلك التعليمي وبعد عامين فقط من بدئها كمدرّسة، تعينت مديرةً على اعتبارها من القلائل في ذلك الحين الحاصلة على شهادةٍ جامعية، فضلاً عن كونها حازمةً وملتزمة ومثابرة في عملها، وفقاً لشهادات مقربين منها.
تنقلت خلال عملها في السلك التعليمي بين عدة مدارس منها “أحمد مجدمي وجبل الشيخ والقنيطرة” في مدينة حلب، ومدرسة باتبو التابعة لمنطقة الأتارب بريف حلب الغربيّ.
رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة
كان مشروع رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، محورياً في حياة الراحلة “أم وسيم”، تنقّل في أبرز محطّات حياتها، والذي تفتقت بذوره من وقع معاناةٍ شخصية لــ”نور الهدى”، جراء إصابة طفليها بمرض “التلاسيميا”، الأمر الذي دفعها إلى تحويل الهاجس الشخصي إلى مشروع عامٍ يرعى أطفالاً ومصابين من ذوي الاحتياجات الخاصة.
يعلّق نجل الراحلة وسيم ستوت، وهو مدرب رياضي ومساعد الراحلة في تنفيذ العديد من المشاريع، يقول: “كانت حالة إخوتي أشبه بالطبيعية، إلا أن أمي رحمها الله بدأت تفكّر بغيرهم ومعاناتهم، وكانت مؤمنة أنها قادرة أن تفعل شيئاً من أجلهم”.
حين انطلاق الثورة السورية ومشاركة “أم وسيم” في صفوفها منذ الصيحات الأولى، لم تفقد الأمل بولادة المشروع، وأبصر النور حقاً عام 2013 من حيّ المشهد، أحد أحياء حلب الشرقية التي خرجت عن سيطرة قوات النظام آنذاك، ضمن سلسلة مشروع مدارس “الجسر الذهبي” وبدأت باستقطاب أطفال معوّقين ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافةً إلى أطفال أيتام فقدوا آباءهم خلال سنوات الحرب في سوريا.
بقي المشروع مكان تأسيسه قائماً في مدينة حلب، وسط فيض من القتل والتدمير في إثر حرب النظام وروسيا على أحياء المدينة، إلى أن حانت لحظة التهجير أواخر عام 2016، وغادرت “أم وسيم” المدينة وفي جعبتها مشروع حيّ، لا يعرف الضيم أو الفناء.
بعد وصولها ريف مدينة حلب الغربيّ، تنقلت في عدة بلدات بدءاً من “كفركرمين” إلى مدينة الأتارب، انتهاءً ببلدة “الجينة” حيث أكملت مشروعها وأعادت افتتاح مدرسة “الجسر الذهبي” لكن بإمكانات خجولة جداً، إذ توقف الدعم عن المدرسة على اعتبارها قريبة من خطّ التماس وهو ما ينافي معايير الدعم.
ضمت المدرسة التي كانت ضمن منزل عربي قديم تدفع “أم وسيم” أجره شهرياً، نحو 60 طالباً وطالبة من “ذوي الهمم” كما تحبّ الراحلة أن تسميهم، في وقتٍ كانت تعاني فيه من عدة معوّقات رئيسية، أبرزها غياب الدعم المالي عن كادر المدرسة، وتوفر بناء تعليمي متخصص لاستقبال الأطفال، إضافةً إلى غياب وسيلة لنقل الأطفال والمصابين من منازلهم إلى المدرسة مياومةً، ما رتّب عليها هموماً ومتاعب إضافية، حاولت أن تتخطاها مع مجموعة من المتطوعات إلى جانبها.
قدم المركز مشروعاً تعليمياً وتدريبياً للأطفال ينمّي مواهبهم ويستوعب مقدراتهم العقلية والجسدية، إذ عملت من خلال خبرتها الطويلة في مجال التربية والتعليم أن تقوّم سلوكهم وتحولهم من فئة على هامش المجتمع إلى فئة فاعلة وأقرب للطبيعية.
ينقل “وسيم” ما كانت تردده الراحلة ضمن حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”: “هذه الشريحة مهمشة من قبل الأهالي والمنظمات ما لازم نتركهم وحدهم”.
ويشير إلى أنّ المركز بالنسبة لديها كان “مشروع العمر” ووصيتها أن يستمر، لأنّ نتائج عملها فيه باتت ملموسة من تعليم واحتواء هذه الفئة، ولا يمكن أن تتخلى عنه، كما أنها تطمح باستمراره أن يكون صدقةً جارية بعد وفاتها.
أحلام لم تتحقق
يكشف محدثنا “وسيم” أنّ والدته عملت خلال الفترة الماضية، على بناء مدرسة مستقلة لرعاية الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، واشترت أرضاً في بلدة الجينة على نفقتها الشخصية من أجل ذلك، إلا أنّها توفت ولم تجد جهةً تكمل المشروع وتموّل عملية البناء.
ويضيف لموقع تلفزيون سوريا، أنّ الأرض موجودة وهي موهوبة للمشروع بحال أرادت أية جهة تبني المشروع وبناء المدرسة عليها.
ويؤكد في ختام حديثه أنّ “مشروع المدرسة مستمر في بلدة الجينة وسيتم تحويل اسم المدرسة من “الجسر الذهبي” إلى مدرسة “نور الهدى حفّار، أم الغلابة” بنفس الكادر التطوعي وعلى ذات النهج والمسيرة العطرة، على أمل أن يتحقق حلمها بعد رحيلها بافتتاح صرح علمي لتدريب واحتواء هذه الشريحة المهمّشة”.
أثر لا ينسى
لا يخفى على أحد، حالة التفاعل على مواقع التواصل مع وفاة السيدة نور الهدى، والحزن الذي خيم على كثير ممن عرفها أو كان له تجربة عمل أو نشاط تطوعي معها، وهو ما حاولنا الوقوف عليه من خلال استطلاع عدة آراء لأشخاص عرفوا الراحلة وتشاركوا معها ذات يوم عملاً تطوعياً مشتركاً.
أحمد حمادة وهو متطوع في صفوف فريق “إيفّكت” وهو فريق تطوعي نفذ نشاطاً ترفيهاً في المدرسة التي كانت تديرها “أم وسيم”، يقول إن “الابتسامة والهمّة العالية التي لاحظناها خلال تنفيذ النشاط رغم تقدمها في العمر كانت لافتة جداً”.
ويضيف لموقع “تلفزيون سوريا”: “كل همّها أن تحصل على دعم إضافي حتى تستوعب في مشروعها أكبر قدر ممكن من الأطفال”.
ويشير إلى أن “صدمة قوية تعرضت لها حين وصول خبر وفاتها، وامتنعت حتى عن الكتابة لأني عجزت عن الوصف والتعليق، كانت نشيطة وصاحبة همة قوية ومعطاءة لا نقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل”.
مصطفى هاشم، صحفي، أعد تقريراً سابقاً عنها، يقول لموقع “تلفزيون سوريا”: “لا يمكن أن تميز هؤلاء الأطفال فيما لو كانوا أطفالها الحقيقيين أم مجرد أطفال ترعاهم بهذا العمر المتقدم، لا تسمح لأحد بإزعاجهم أو حتى مضايقتهم لأي سبب كان، لا تفكر إلا براحتهم”.
أما “سليمان أبو البهاء” والذي أجرى تقريراً مصوراً معها لوسيلة إعلام أجنبية، يتحدث عن طيبة وحنان بالغين من الراحلة لاحظها خلال زيارته المركز، رغم تقدمها في العمر، يقول: “كان إسعادهم وراحتهم هاجساً بالنسبة لها، سيدة يعجز الكلام عن وصفها، تقبلها الله”.
Sorry Comments are closed