ملف.. المبدعات السوريّات والكتابة في مواجهة العنف

فريق التحرير30 يونيو 2021Last Update :

ضفاف متجدّدة في زمن الفجائع

  • – ابتسام الصمادي: المؤمنون بآخر الأشجار
  • – أمل فارس: الكتابة دفاعًا عن كياني وذاكرتي
  • – زهراء عبد الله: الكلمة تحوّل العجز إلى قوّة
  • – سوزان خواتمي: الثورة أحدثت انفراجًا لتجاوز الممنوع
  • – سوسن جميل حسن: اجتراح ثقافة بديلة
  • – شادية الأتاسي: في هجاء الحرب والقتل والاستبداد
  • – فاتن حمودي: سؤال الوجود والأنا والهويّة
  • – لبنى ياسين: الكتابة راهنًا فعل تأريخ لما حصل
  • – نغم حيدر: الكتابة ضدّ الفناء
  • – نور حريري: الكتابة أداة مقاومة للنجاة
  • – هيفاء بيطار: نساء سوريّات بلا حدود
  • – هيڤا نبي: النبش في المسكوت عنه
  • – وجيهة عبد الرحمن: الكتابة فعل حياة

بعد مرور عشر سنوات من عمر ثورة الحرّيّة والكرامة، التي دفعت خلالها المرأة السوريّة أثمانًا باهظةً، تشريدًا وتنكيلًا ويُتمًا وثكلًا واعتقالًا وترمّلًا وشهادة، يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة ملفًا خاصًّا عن نضالات النساء السوريّات، في سبيل النهوض بمستقبل سورية الديمقراطي، وانعتاق المرأة السوريّة وتحرّرها من قيود الاستبدادين السياسي والديني ومن تقاليد المجتمع وأعرافه البالية، زد على ذلك سلطة الذكر الهدّامة، وذلك من خلال شهادات سجلناها ضمن مبحث مهمّ هو (الكتابة النسائية الإبداعيّة في مواجهة العنف)، العنف المكوّن الأصيل والهائل الحضور في (سورية الأسد)، وقد توقّفنا مع 13 مبدعة سورية، ليحدّثننا عن كيفية مواجهتهنّ -بالكلمة والفكر والإبداع- لثالوث الاستبداد السياسي الأسدي/ البعثي، والديني المتعصّب الذي رفع لواءَه أصحابُ الرايات السوداء، والتبعيّة الاجتماعيّة لسلطة ذكوريّة مقيتة…

فتيات ونساء سورية اللواتي عرفْنَ العنف، بكل أشكاله وألوانه ودرجاته، في العقود الخمسة الماضية من حكم آل الأسد الشمولي، خرجْنَ جنبًا إلى جنب مع الشباب والرجال من أبناء بلدهنّ، ليدافعْنَ عن كرامتهنّ وحريتهنّ ومستقبلهنّ، مناديات بالتغيير والإصلاح وإسقاط النظام، وقد صدحَ صوتهنّ في الساحات والميادين، في كل القرى والمدن السوريّة، بأن لا عودة إلى زمن الدكتاتوريّة والاستبداد؛ فكانت المواجهة مفتوحة مع نظام إجرامي لا يرحم، تحالَفَ مع قوى ظلاميّة راديكاليّة ترتدي عباءة الإسلام وذات نهج عنفي جعلَ من أحرار وحرائر سورية العدو رقم واحد! لتجد نساء سورية، من كلّ الأعمار والشرائح الاجتماعيّة والمذاهب والطوائف والأديان والإثنيّات والأعراق، في العقد السوري الدامي في قلب المنعطف العسير الذي تمرُّ به اليوم القضيّة السورية برمّتها، أنه ما من خيار أمامَهن إلّا مواصلة الثورة ضدّ النظام السياسي المستبدّ، وضدّ المفاهيم الرجعيّة في مجتمع ذكوري ظالم، من أجل الحريّة والكرامة الإنسانيّة وبزوغ فجر سوري جديد.

وانطلاقًا من ذلك، وجّهنا الأسئلة التالية إلى عدد من الكاتبات المبدعات، من روائيّات وقاصّات ومترجمات وناقدات أكاديميّات سوريّات، ممّن أخذنا قضيّتهنّ بأيديهنّ مدافعات عن حقوقهنّ: “إزاء ما تتعرّض له المرأة السوريّة من موجات عنف متنوّعة ومتعدّدة المشارب، على اختلاف الثقافات وتعدّدها، وإن بدرجات متفاوتة؛ نسأل: ما جدوى الكتابة؟ وكيف يمكن للكتابة الإبداعيّة أن تغيّر هذا الواقع الكارثي المؤلم، الذي تدفع فيه المرأة في بلادنا أثمانًا باهظةً، وهي في مواجهة مفتوحة ومستمرّة مع الاستبداد والجهل والتخلّف والتحريم، وبحر الخزعبلات الرجاليّة المخاتلة، المهيمنة، والعادات والتقاليد البالية التي يريد لها البعض أن ترتدي عباءة الإسلام، ومع الراكد السلطوي ذي الفعل الرجعي المقيت، في زمنٍ يتمدّد فيه الاستبداد الديني، ويتحالف مع ألوان الاستبداد السياسي ومع كل أشكال الطغيان الوطني؟”؛ فكان هذا الملفّ:

  • الشاعرة والأكاديميّة ابتسام الصمادي (قطر): المؤمنون بآخر الأشجار

ربّما لم تعد تُسعدني الكتابة، كما كانت في السابق، لا بل إنها باتت تؤلمني وتأخذ من روحي نتفًا تذروها الرياح. شيء وحيد آنسُ به هو أنّ القادم سيُنصف روحي من التشتت، عندما يحاولون جمعي. نعم، أحمل أرَقَ النساء وتاريخهنّ المثقل بالأحطاب والأوجاع، ككلّ سوريّةٍ اقتُلعت من تربتها، وشهدت على حقبة تاريخيّة فيها عنفٌ أكبر مما تعرّضت له نساء الكون مجتمعات، لكنّني لست محمولة عليها فقط، بل على ثورة وطن بأكمله. دومًا تتساوى النساء مع الرجال في الأزمات الكبرى فقط، لا أريد أن أفقد هذه اللحظة التاريخيّة. لذلك أكتب.

 في وقت الرخاء، تُصادَر حقوقهنّ، لكنهنّ يتصدرنَ المشهد بالعطاء والمبادرة والمشاركة والانغماس المرّ في الثورات والنكبات. بعضهم يربطون كرامتهم بعفة المرأة وجسدها، وينسونَ أنّ كرامتهم الحقيقيّة في وطن حرّ، تضيرهم النساء بملبوسهنّ، ولا تضيرهم الأوطان باحتلالها وتدنيسها! كرامتكم ليستْ عندنا… كرامتُنا جميعًا عند وطن يُغتصب بكلّ ما فيه، من نساء ورجال وأطفال وثروات وتاريخ. وليتهم يفقهون.

الكتابة توثيق للإنسان بكلّ حالاته، وثورات الشعوب جزءٌ من تجاربه، ومن المعروف أنّ التاريخ يكتبُه المنتصر، لكنّ الإبداع يتحدّث بأفواه الجميع، إنّه فم الحقّ الذي يحتاج دومًا إلى شربة ماء صافية، يغبُّ قسطًا منها ويرشق الباقي على وجه الزمان. إنّ موقف أيّ إنسان من الثورة السوريّة إنّما يدلّ على أخلاقه وثقافته، وهو المؤشر على مستوى الوعي، والإنسانيّة، والنظرة إلى الحياة والعيش المشترك، والحرّيّة…

لا أحد غيرنا -السوريّين- يستطيع أن يكتب عن الموت أو عن ضحاياه.. لا أحد، نحن المتفردون بالموت وبواجهات ألعابه وبكلّ الهدايا من الأمّهات الحنونات إلى الصبايا والشباب والشيوخ، لا النيل يسبقه بأجمل الفتيات، ولا أيّ تسونامي ولا حتّى يوم القيامة، نحن البرزخ المشتهى لهذا الدمار، والإطلالة الأعلى على صنوبر الأوجاع وثلوج الهضاب العالية. ما عندنا ليس موتًا اعتياديًّا يُدركك.. إنه موت أنتَ تلاحقه أنّى اتّجهت، لتخرج من عذاب انتظاره، ومع ذلك لا تجده. لا أحد غيرنا أبدًا عاش في التاريخ هذا الاعتياد، فلا أنت قريب لتبعد، ولا أنت بعيد لتقرب، ولست حزينًا لتفرح ولست فرحًا لتحزن، أنت فوق الاثنين معًا. فرِحٌ بثورتك، وبخروجك من علّة القهر والخوف، وحزينٌ بترقّب انتصارك وصمودك وصبرك؛ لكنّك متيقّن من انتصار له مرارة الفرح… لنا علاقة مع حجارة هذه الأرض، وكلّ حصاة تقول إنّا لمنتصرون.

من المؤكّد أنّ الطغاة لا يتأثّرون بالشعر أو الأدب أو بأيّ صنف من أصناف الفنون، وإلّا ما كانوا طغاة، لكنّ الإبداع حتمًا يؤثّر في حالة الحراك الشعبي وفي توجيه الرأي المجتمعي العامّ، لأنّه ينضح من الوجدان الشعبي. لكن ما يُسيئني “أديب” لا ينظر في مرحلتنا الحاليّة إلا بعين واحدة وقاصرة، ليقول لك مثلًا: تبيّن أنّ ما يُسمى بالربيع العربي ليس سوى خدعة ومؤامرة.. إلخ. كيف لهذا “الأديب” الساذج أن يُقنعني بمادّته المكتوبة، وهو لا يمتلك خاصّيّة الرؤية التي يجب أن يُسقطها داخل نصوصه الإبداعيّة، أيًّا كانت؟ متى كانت أمّتنا ليست عرضة لكلّ أنواع التآمر حتّى من قِبل بعضنا البعض؟! متى كنّا بعيدين عن الاستهداف في كلّ تاريخنا القديم والحديث؟!

إنّ المؤامرات موجودة منذ الخليقة، علينا وعلى غيرنا، لكنّ الفرق أن هناك من يفسح لها مجالًا بالدخول، من يفتح لها ثغرة العبور، من يعطيها فرصة التمدّد والتطاول، من يمنحها إجازة الاختراق ويفتح لها الأبواب والمعابر والموانئ والمطارات، من يشجّعها على المضيّ ويدفع بها عميقًا في النسيج الوطني والشعبي، من يُشوّه الوعي ويصدعه ويُبيّن أنّ الأشياء والمصاير ليست بأيدينا، بل بأيدي من هم أكبر منّا ومن هم أصحاب القرار… وأنا أتساءل هنا: من هم هؤلاء الأكبر والأكفأ والألعن والأدهى؟! أليس غريبًا أن يكون هذا الفكر هو السائد والمطروح بكلّ صفاقته وسوقيته، والأدهى أن يُعمّم بهذه الطريقة الرخيصة وبأيدي (بعض المثقّفين والمبدعين)؟! وكأنّنا لسنا بنكبة تفوق نكبة 48، التي حفرت عميقًا في مخزون وإبداع تلك المرحلة بل بالأجيال التي تلت، والتي أسّست لمخاض شديد الثراء لمجمل الإبداع الذي تربينا عليه نحن الجيل المخضرم، ولا أقول الشاب! وكأنّنا بأزمة عابرة ولسنا بنكسة جديدة تفوق نكسة (حزيران/ يونيو 67) التي أرّقت جيلًا بأكمله من الأدباء والكتّاب والصحفيين والمُتلقّين، ممّن انكسر كلّ زجاج رهيف بأعماقهم. وكأنّنا لسنا تحت احتلال وانتداب جديدين، لا بدّ من مكافحته قبل أن يمتدّ وينتشر سرطانه أكثر من ذلك.

وهنا يطلع السؤال الموجع؛ لماذا بقي بعض “الكُتّاب السوريّين على باب القاتل، يتسولون دون اهتمام بكلّ هذا القتل والدمار؟”. حقيقةً هذا السؤال هو الأكثر إيلامًا. لأنّ النظام خلال عقوده الخمسة اشتغل تمامًا على تفريغ الإنسان بالعموم، واستلابه وجعلة أداة من أدواته وفي خدمته، ثمّ أظهر إلى السطح مجموعة بل عصابة، لتشويه الوعي باسم الثقافة، كبّرهم ونشرهم إعلاميًّا وعلفَهم جيدًا. وهذا ديدن النظام العربي الرسمي برمّته الذي رُكّب لنا واشتغل بنفس الآليّة.

إنّ المثقّف الحقيقي هو من يؤمن بالتحوّل والتغيّر في صيرورة الأشياء والحياة والتاريخ نحو الحرّيّة والإنسانيّة، ومثقّفو السلطة هؤلاء خارج أيّ فعل أو حراك ثقافي… لم يستطع أحدهم النزول من عربة السلطان، لرعب متأصّل في جذره المعرفي وقصور في منظوره الحضاري، وعندما صعقه الربيع العربي، ثارت ثائرته، إذ كيف يحصل هذا من خلف ظهره!! لذلك سيبقى مثقّف السلطة بيد أولي أمره الذين يستخدمونه، كالبقرة التي كان يذبحها الإنكليز ويرمونها بين السيخ والمسلمين في الهند. يجب أن نعترف أيضًا أنّ معظمنا خارج الوعي المعرفي والحضاري، بسبب ما راكمته التربية الأيديولوجية الراسخة من التقديس الوهمي، سواء للمفاهيم الجاهزة، أو لأولي الأمر، وهبوط الأكفاء والحقيقيّين إلى ما تحت خط الخبز، فهبطت معهم منظومة المثل والمفاهيم الكبرى، وارتفعت منظومة الاستهلاك وإدارة (اللعبة).

أمّا دورهم، فلم يكن سابقًا للثورة، بل لاحقًا لها وبها. ما أدخلهم في حالة من الذهول، ووضعهم في خيارات محدودة جدًا لا مكان فيها لنصف منتمٍ أو نصف مواطن أو نصف ثائر، لذلك أتت النتائج أقلّ وضوحًا والخسائر أكثر مرارة، لقد كان نضوجًا للقهر قبل الفكر. لم يكن لدينا منظّرون ثوريّون، كما حال الثورات العالميّة. أمّا القادة الأحرار فقد تمّ القضاء عليهم من بداية استهلال الثورة مباشرة، فأدّى ذلك إلى أن تأتي قيادات وتنظيمات مُبرمجة ومرتبطة ومُهيأة مسبقًا لدورها (داعش وحالش ونصرة وغيرها)، لكنّها تتناسب طردًا مع المستوى الشعبي البسيط، وتُقدّم ذريعة يستخدمها النظام أمام العالم. وعالم اليوم هو عالم مرعب يسيطر عليه -كما يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو، في كتابه «نظام التفاهة»، “التافهون الذين اقتسموا الكون عبر الاقتصاد والسياسة، وحسموا المعركة”. لكن من كانت ثورته عظيمة كانت نتائجها عظيمة والتآمر عليها أعظم.

دومًا، أقول: من يليق به الحزن يليق به الفرح. إنّه العقل أو الوعي السوري الذي أرعبهم حتّى جلبوا له عتاة الكون ومتطرّفيه، للقضاء عليه. إنّه يتفتح في كلّ مكان لجأ إليه السوري ومن في عداده رجالًا ونساء. وأنا السوريّة وبدمغةٍ سوريّة أقول: “لا تظنّنَ أنّ الحرّيّة تُنال بصيد بخس. إنّ ثمنها يوازي عظمتها”. نحن نواجه قذارة الكون الملوث من الاحتلال الإيراني الدموي الأقذر إلى حزب الشيطان التابع له، إلى دول منحطة تقود التآمر الدولي ليس أوّلها أميركا وروسيا وليس آخرها (إسرائيل)، بل يدخل في تلافيفها آخرون ممّن لهم مصالح، وتدخل أيضًا -وهنا قدم أخيل- الأنظمة العربيّة البائدة التي تآمرت على شعوبها، وقادت المحتلّ والأعجر إلى ديارنا ليطالبنا بالجزية، كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، من لا يدفع تهمته جاهزة ألا وهي الإرهاب. إنّها صفقة صفقات القرن… لكنّ النقطة المضيئة الوحيدة هي: حالة الوعي والضوء الذي بدا ساطعًا في أذهان القلّة الهائلة المتنوّرة المناهضة لمهازل الأنظمة المرتهنة التي قادتنا إلى هذا المصير. ربّما أبدو للبعض من عالم آخر، لكنّ الزمن سيدور، ومن ينظر من علٍ ليس كمن ينظر من القاع، صدقوني أو كذبوني. كلّما كانت المأساة كبيرة، فاعلمْ أنّ وراءها ما هو أعظم. الربيع ربيعنا وربيع الله والحقّ، فلا تكفروا به.

أخيرًا، إن لم تكن هذه النكبات المتكرّرة في حياتنا وتجربة الإرهاصات السياسيّة الكبرى جميعها سوى محطات عابرة في حياة أدبِنا نقرؤها بشكلٍ مسطّح، فإنّ ما ينتج عنها ليس أدبًا، بل سفسطة تشبه إلى حدٍّ كبير من يُنظّر لخداعنا وخداع أجيالنا، وربّما يتفوق هذا المُنظّر علينا بدهاء إيصال رسالته الى أعماقنا في التسطيح والتفتيت، وهذا أشنع من الحرب والقتل المباشر، لأنه يخلق قزمًا مسخًا لا يرقى إلى الأدب، بل إلى حياديّة سلبيّة قاتلة نسمعها من البعض حين يقول أحدهم: “دعونا من السياسة، نحن أدباء وحسب”! متناسين أنّ الخبز اليومي الذي يأكلونه تعجنه السياسة وتخبزه. وهذا التصنيف، بل الفصل، لا يقوم به سوى جزار يفصل اللحم عن العظم، لأنّ الأدب اقتحام للممنوع والمخبوء والمستور، وليس طلاء للأظافر أو عمليّة مساج وشفط دهون.

صحيح أنّه لم يستطع أحد أن يُنتج للثورة السوريّة ما يليق بدمها، ثورة الحرّيّة والكرامة التي سُحلت في كلّ شوارع الدنيا، وما وقف إلى جانبها أحد، وحقّنا في اللوم على أنفسنا أوّلًا. ويبدو من الصعوبة بمكان مواكبة الواقع السوري المُدمّى، اقتصاديًّا وثقافيًّا، ليس بسبب حجم الألم المُعمّم فحسب، بل بسبب التشظّي داخل القضيّة السوريّة، وتشعباتها التي عرّت كثيرًا من المسلّمات، وعدم القدرة على فصل الكثير من القضايا، في إطار تدخّلات إقليميّة ودوليّة سافرة، وفي بلد تحت احتلال داخلي شمولي منذ أكثر من خمسين عامًا، وخارجي روسي – إيراني، جلب الأوّل الثاني، ومنحه صكًا مفتوحًا لاستلاب البلد.

يبقى تأثير الكتابة وخاصّة الإبداعيّة على مسارات الحياة والقضايا المصيريّة أمرًا يخضع للنقاش، وتؤطره مجموعة احتمالات مفتوحة تحتمل آراء متضادّة، خاصّة مع مدى قسوة المشاهد التي صدّرتها الثورة السوريّة، وأصدرت معها شهادة وفاة لضمير الإنسانيّة. لكنّنا نكتب، لأنّنا نملك ثروة كبيرة نريد أن نُبدّدها أو نقامر بها؛ ثروة من آمال الناس وآلامهم وتجاربهم وانكساراتهم وأحلامهم ومحبّتهم. ربّما يملك أحدنا عمودًا في جريدة، ولا يملك برجًا من الإسمنت؛ حلمًا ببلدٍ شاسع آمن، يمتدّ من قلمه إلى رؤاه، ترتع فيه الغزلان والفراشات والأطفال، وينام فيه المسؤول تحت شجرة مطمئنًا لأنّه عدل، فأمِن، فنام.. نملك شيكات من ألم الشباب وطموحاتهم. كيف سنصرفها يا ربي، ومن أيّ بنك؟! أحلم وأدعو لمنظومة -ضعوا خطين تحت كلمة منظومة- تلتف حولها كلّ القوى الشريفة في العالم العربي، تضع أُسسًا وبرنامجًا موحّدًا لبناء اتّحاد واحد وواعد، ككلّ ما حصل من ثورات في العالم، من أجل بلاد يلتف كلّ الكون ويتآمر على ثرواتها وثوراتها ونحن بغباء التتر وجشع المحرومين نلتف من حيث ندري أو لا ندري للفوز بمغانم حقيرة وآنيّة وشخصيّة وفرديّة، متناسين خلفنا الأمّ والولد والأهل والتاريخ. فوالله لن يُسمح لثورة عربيّة، مهما كان أبناؤها خُلّصًا، بالوقوف على ساقيها وإنجاز مشروعها، ما لم يتفق كلّ الأطراف على توزيع عادل للثروات وتكافل وتكامل للجميع ورؤية مشتركة للخطر الواحد الموحد، من المحيط إلى الخليج، وإلاّ فنحن أمّة آيلة للذوبان والفناء. ومن يحسب أنّه -بأمواله واتّفاقيّاته وسياساته الهشّة- سينجو، أو يكون بعيدًا عن هذه المخاطر وهذه الثورات، فهو واهمٌ وقاصر. الطريق أمامنا ما زال طويلًا، لكنّنا سنبقى نحارب بياسميننا معلنين العصيان ليس المدني بل الكوني.

أنا أكتب لأنّني لا أُصدّق أنّ المرأة السوريّة التي تحوّل (الفانيلات) إلى مماسح أرضيّة ومماسح للغبار، لن تمسح غبار السنين وتخرج عنقاء الزمان.

  • الكاتبة والمترجمة أمل فارس (الولايات المتّحدة الأمريكيّة): الكتابة دفاعًا عن كياني وذاكرتي

من ستكتبُ اليوم؟ من أين أبدأ وأنا مجموعة نساء، سؤال وجّهته إلى نفسي قبل البدء بكتابة هذه الشهادة، لعلّي أنجح في ضمّ أصواتهنّ جميعًا على اختلاف لغاتهنّ. هنّ شخصيّات خلقها الانتقال بين بلدان وبيئات متعدّدة، مرّة بسبب الهجرة وأخرى بسبب اللجوء. أصواتٌ خلقها الرفض للواقع وللعنف وأيضًا الرغبة في الاكتشاف ومحاولة إثبات الذات. الكتابة كانت الفعل الوحيد القادر على إعطاء كلّ تلك الأصوات حقّها ومنحها مساحات للتعبير.
أكتب مذكّراتي يوميًّا، لأوثّق حالتي في الزمان والمكان، ولأتذكّر الأحداث التي صنعت مني المرأة الحاليّة. هي وسيلتي لتفنيد الألم وإخراجه منعًا من أن يتحوّل لـِ “أنفاق مظلمة”، وهو التعبير الذي استخدَمَته الكاتبة التركية إليف شفق، لوصف تعدّديّة شخصيّاتها محاولةً الولوج إليهنّ حيث تقبعن في كهوفهنّ ومحاورتهنّ.

مثّلت الكتابة بالنسبة إليّ آليّة الدفاع الأولى عن كياني وعن ذاكرتي، خلال رحلة التحوّل واجتياز الجدار الصلب الذي يحاوطنا نحن النساء منذ الطفولة، لأنّنا غالبًا ما نخوض حروبنا فرادى، إذ نعلم بأنّه لا يمكن لنا الإبقاء على علاقتنا بالمجتمع الذي تمرّدنا على أعرافه، ولأنّ كلّ انسلاخ عن النظام بالضرورة يعني الانعزال عنه، هكذا تصبح الكتابة مرّات الرفيق الأساسي الأقرب للمرأة في دربها.

خبرتُ الكثير من الأحداث، واطّلعت على تجارب مشابهة لتجربتي في هذه السنوات الأربع، لكنّ أكثر ما لفت نظري هو حال النساء الذي يتقاطع ويتشابهُ غالبًا في جميع البلاد مع اختلاف النّسب، ووجدت نفسي أستحضر مشهدًا من ذاكرتي، خلال عامي الأوّل في بلد اللجوء: “الشريك الصامت” عبارة كُتِبت على كرسيّ في مطعم وسط مدينتي في ولاية نيويورك، حيث أعمل، الكرسيّ مُخصّص للسيّدة “باتريشيا” زوجة المالك، التي لا يُسمح لها بالتدخّل بمجرى العمل، تأتي يوم السبت وتتولّى الحسابات ثمّ تنهي عملها وتذهب. تخيّلتُ العبارة كأنّها رباط موضوع على فمها، كنوعٍ من أنواع العنف ونزع السلطة المُتعمّد. لكن إذا استثنينا الفترات المُتقطّعة التي يَتخلّى فيها الرجل طواعيّةً عن سلطته، وغالبًا لأسباب عاطفيّة يستعيدها عندما تنتفي تلك الأخيرة، أليست المشكلة في اعتقاده أنّه هو صاحب السلطة المطلقة؟ ألّا يفعل هذا بوعي تامّ يخبرهُ بأنّه المتحكّم والقادر على منح السلطة واستعادتها متى شاء؟ الوعي المبكر بالسلطة لدى الرجل يُكوّن النواة الأولى للعنف الذي يُمارسه على المرأة. ووعي المرأة لذلك منذ الطفولة يُكوّن لديها نوعًا من الاستسلام اللاواعي للواقع الذي يعمل المجتمع الأبوي على تكريسه قبل أن تُقرّر لاحقًا الثورة عليه وانتزاع حقّها.

الكتابة والعنف:

الكتابة بوصفها فعلًا تَحرّريًّا تشكّل العدو الأوّل لكلّ سلطة، سواء كانت سلطة الأب أو الزوج أو الحاكم، فانتفاء التبعيّة التي تُحدِثها الكتابة عند المرأة يَستفزّ شخصيّة المُعَنّف، إذ يشهد انفلات المرأة من سيطرته وعدم قدرته على التحكّم المطلق فيها، التحكّم الذي غالبًا يكون منشؤه البدئي جنسيًّا بحتًا، يتأتى في الأصل عن الرغبة الجنسيّة المُتطلّبة لدى الرجل التي تدفعه للبحث عن سبلٍ للسيطرة الجسديّة على المرأة ثمّ على كيانها ووجودِها. من هنا أيضًا، انطلقت جميع التحريمات التي يُحاصِر فيها رجال الدين المرأة وتدعمهم فيها التقاليد والأعراف المجتمعيّة التي تُعدّ شكلًا من أشكال العنف الاجتماعي، إذ كيفَ يُعقلُ أن تنتهي فتاة في مقتبل العمر إلى السجن، لمجرّد أنّها تنشر صورًا أو فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين يُخلى سبيل مجموعة من المتحرّشين الذين اعتدوا علنًا على فتاةٍ أخرى يُتابعون أيضًا ما تنشره على حساباتها الشخصيّة، كيف يمكن أن تُقتل الفتيات والنساء، بحجّة أنهنّ مَسسنَ بشرف الرجال “المطاط”، أليسَ هذا عيبًا قاتلًا في القانون؟

القانون الذي ما زال في عالمنا العربي يتجاهل كيان المرأة وحقوقها، وكما نعلم فإنّه، منذ عشرينيات القرن الماضي بعد أن كانت الحركة النسويّة في أوجها حتّى هذا اليوم، لم تدخل حقوق المرأة في القانون، وإذا لم يحدث هذا فسيظلّ نضال المرأة مجرّد امتيازٍ فردي مثله مثل أيّ نجاح فردي تكسبه المرأة كاجتهاد شخصي. لكن بالمقابل أليس التعامل مع العنف على أنّه مسؤوليّة الرجل الفرد وحده هو رؤية منقوصة للوضع العامّ في المجتمع السوري خصوصًا، والعربي بشكلٍ عامّ؟ إذا ما تخيّلنا هرم الهيكلية القائمة فيه على الشكل الآتي: القانون غير المكتمل والقائم على الشريعة الإسلاميّة، رجال الدين وحرّاس التقاليد الذين يكيلون بمكيالين، ويُنصفون جنسًا على حساب آخر، فتتكوّن لدينا عقليّة تقليديّة متحجّرة تُكرّس الراهن بثنائيّة جنسٍ متفوّق بالحقوق وجنس مقهور، تفوق الجنس الذكوري سيُولّد عنفًا منفلتًا من قبل الذكور تجاه المرأة لا يعبأ لأيّ قانون، لأنّه بالأصل غير حاضر لردعه مع مظلوميّة حانقة لا تنطفئ من قبل الجنس المقهور أي المرأة. ألا يمكن أن نضع موضع النقاش أنّ إعادة هيكلة تراتبيّة السلطة في مجتمعنا يمكن لها أن تزيل عبء تهمة العنف عن الرجل، وأن تُحرّره من منظار النظرة الدونيّة له من قبل المجتمع، إن هو لم يثبت رجولته بالمعيار الذي تقيد فيه هذه المنظومة أفعاله؟ ولا سيّما بعد الثورة والتغيّر الذي طرأ على الوضع العامّ وانتقال المرأة بشكلٍ تراجيدي لتتولّى أمورها، بعد فقدان المعيل من دون وجود وسائل تمكين مسبقة أو مصدر دخل. وذلك لا يعني بالضرورة زوال العنف إنّما تفكيك مغذيّاته ومفاهيمه في سبيل الحدّ من عنفٍ مستقبلي ممكن الحدوث.

ربّما كان وضع المرأة الكاتبة في المهجر أفضل من مثيلاتها في الوطن؛ لأنّ القوانين السوريّة ما زالت عاجزة عن منح المرأة الأمان اللازم للإبداع. لكن هل حقًّا بإمكاننا أن نتحدّث عن تغيير في وضع المرأة ضمن منظومة كلّيّة ظالمة، ضمن دكتاتوريّة البَعث السائدة منذ ما تعدّى الخمسة عقود؟ أليس هذا نوعًا من الشطح؟ وكيف للتغيير أن يحدث دون أدوات وهيئات وقوانين ناظمة؟ وإن كان هناك مستقبل لسورية الدستور والقانون، فلا بدّ من أدوات لتمكين المرأة ومن قانون يحمي حقوقها كاملة، ويعطيها امتيازات إضافيّة يفترض أن تُطبّق بالتزامن مع ملفّات إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد والمجتمع. فالنساء -كما تصفهنّ الكاتبة والناشطة النسويّة أليسا غارسيا*- “غِراء المجتمع الذي يجمع أجزاءه المتناثرة”.

أنا امرأة سوريّة شاهدة على عنف مجتمعي، وشاهدة على عنف المجتمع الفنزويلي والأميركي، وضمن هذه المجتمعات، أستطيع القول إنّ الخوف هو صديق المرأة الأزلي، نحن النساء نخاف من كلّ شيء، من الشوارع والجيران الغرباء وسائق الأوبر، الخوف دافعه جنسي أيضًا. نخاف أن نُمسّ، نخاف أن تغلبنا القوّة الرجوليّة، نخاف على بناتنا من الاختطاف والاغتصاب، نخاف لأنّ الخوف زُرِع فينا منذ أن خبِرنا لمسات التحرّش الأولى ونحن طفلات صغيرات، العالم ليس مكانًا آمنًا للأنثى، هذه العبارة الأولى التي تُبنى عليها حياة الأنثى. نحن نهرب من المجتمع الذكوري، لأنّنا نريد التخلّص من ذاك الشعور القاتل الذي يَنخر عميقًا، ويدفع الأنثى للاستسلام والخضوع، لكونه يحاصرها ويقمع محاولاتها بالإفلات منه. تخيّلت يومًا المجتمع كيَدٍ كبيرة تعصر جسدي، كان ذلك الحلم حقيقيًّا لدرجة الكابوس. هذا -بكلّ أسف- ليس محصورًا بمجتمعنا العربي، بل يحدث على مستوى العالم، وقد سبق أن تطرّقت له جيرمان غرير، في كتابها «المرأة المخصيّة»، إذ تذكر أنّ “معظم النساء في العالم خائفات ويُثقل الدين كاهلهنّ بكلّ أنواع القيود، وما زلن مقنعات ومُكمّمات ومشوّهات ومضروبات.

كتاب «المرأة المخصيّة» لا يتناول النساء الفقيرات، بل نساء العالم الغني الذي ترى الفقيرات ظلمه حرّيّة.
عند هذه النقطة بالذات، أصل إلى فكرة “ما جدوى الكتابة إذن؟” وتحضرني صورةٌ للفتاة البريطانيّة “سارة” التي اختطفها رجل شرطة واعتدى عليها ثمّ قتلها. لكن ماذا عن دور الكتابة في الحياة الجمعيّة؟ هل حقًّا أثبتت قدرتها على التغيير في المجتمع؟ هل حقّق وضع المرأة ثورة؟ وأيّ شريحة تحقّق لها ذلك؟ أيّ تغيير طرأ على وضعها؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. فنحن إذا ما نظرنا إلى وضع المرأة في المناطق التي نشأت فيها في قرانا السوريّة البعيدة، نجد أنّ الكتابة أو أيّ حالة إبداعيّة وليدة أخرى لديها عجزت حتّى اليوم عن التأثير في الحالة العامّة في مجتمعاتنا، إنّما خلقت شريحة محدودة من النساء الواعيات للواقع، إذ أصبحَ لديهنّ وعي بالوضعِ غير المنصف للمرأة وواقع قائم ومستمرّ الحدوث، وبينهما يقف القانون عاجزًا عن تحقيق الرؤية المناسبة والمنصفة لانحيازه إلى الشرائع والدين والعادات والتقاليد التي يَسنّها الرجل. لنتخيّل، كما فعلت جوكندا بيلي -مثلًا- في روايتها «بلد النساء»، أنّ حدثًا سحريًّا ما حدث بين ليلة وضحاها، عطّلَ فعل الرجل الجنسي واستلمت المرأة زمام الأمور والسلطة لفترة، ماذا يا ترى ستغيّر النساء في هذا العالم؟ ما هو أوّل شيء يخطر ببال المظلوم، إن صار مكان الظالم؟ لن ندّعي طرح فكرةٍ أفلاطونيّة هنا، بل فكرة إنسان عادي عايَن ظلم المُجتمع والقانون لقرون. أليس من حقّنا أن نجلس على عرش المجتمع كما يفعل الرجل منذ آلاف السنين؟ ألا يحقّ لنا أن نمتلك عشّاقًا وعشيقات كما يفعل؟ ألّا تصبح العصمة في يدنا فنُطلّق متى شئنا؟ نعم سيكون هنالك أخطاء فرديّة، كما هي الآن عند الرجال، ولسوف نجد امرأة تحبس زوجها في البيت كي لا تراه نساء فيخطفن قلبه، وسنرى أخرى تقتله وعشيقته على سريرها، وسنرى من تعاقبه، لأنّه أسرف في الشراء، ومن تفرضُ عليه تغطية الرأس.

ماذا تشعرون الآن، أيها الرجال، وأنتم تقرؤون؟ ألا تشعرون بالتقزّز؟ ألا تشعرون بأنّكم أقرب للحيوانات الأليفة؟ هذا ما نشعرُ به كنساء، ما زلنا في طور الدفاع عن أحقّيّتنا بأن لا نكون مملوكات للغير، لم نتجاوز بعد كوننا مدافعات عن حقّنا، لم نُمنَح بعد أيّ قاعدة تمنحنا السلام جزئيًّا، لذلك فالكلام عن التغيير سابق لأوانه لأنّه يأتي بعد تغيير حقيقي على مستوى المفاهيم الأساسيّة، على مستوى الأفراد، ثمّ ليصبح مفهومًا جمعيًّا، وهذا طريق طويل وشاقّ، وعلى الرجل أن يكون واعيًا لدوره الأساسي فيه.

يحضرني ما ذكرَته الكاتبة إليزابيث جيلبرت، في كتابها «حب قراءة وصلاة»، عن تنازلها الكامل عن حقوقها الزوجيّة لصالح زوجها، في سبيل منحها الطلاق لكنّه رفض، بل طالبها بريع كتبها التي أصدرتها خلال سنوات الزواج، إلى هذا الحدّ التشابه في وضع المرأة حقيقي في كلّ مكان، مهما كانت طبقتها الاجتماعيّة أو خلفيتها الثقافيّة، مع اختلافات طفيفة في قدرة المرأة على التعامل مع الأزمات، من حيث قدرتها المادّيّة ومستوى الدعم الذي تتلقّاه من مجتمعها. ومن هذا المنطلق، يُعدّ المجتمع العربي مجتمعًا قاتلًا من الدرجة الأولى؛ إذ إنّه يتصدّى بشراسةٍ لكلّ امرأة تُحاول الإفلات من مِقصلة العادات وإطار النظام الأبوي. لكنّ الغاية أن ينتفي النظام الأبوي، وأن يعمل على تحقيق ذلك المرأة والرجل معًا، إذ لا سبيل لذلك دون تعاون الرجل، لكن أين هم هؤلاء الرجال المستعدّون لذلك، فالنساء يعقدنَ المؤتمرات ويصدرنَ البيانات ويطبعنَ الكتب ويناضلنَ، بينما الرجل جالس على عرشهِ بإقرار المجتمع، عندما يُقرّر الرجال التنحي؛ يبدأ الحلّ ويمكن لنا أن نتحدّث عن دور المرأة، كما تقول إيريكا يونغ، في كتابها «الخوف من الخمسين»، “إنّ معركة نيل المرأة لحقوقها لم يفُز فيها أحد بعد، والمرأة لا تدرك مدى مكر الفخاخ الأبويّة إلى أن تتمرّس قليلًا، وهذا لا يتحقّق إلّا إنْ كانت المرأة واعية حقًّا للجزء منها الذي يتخلّى عن سلطتهِ للرجل”.

  • الروائيّة زهراء عبد الله (فرنسا): الكلمة تحوّل العجز إلى قوّة

الكتابة الإبداعيّة في مواجهة العنف هي نضال فكري، مقاومة لا تنتهي بصفحات أو بكتب، أو بمحاولات.. إنّها عمليّة مستمرّة، نكتب، نُحَارِب، نكتب، نُحارَب. نكتب لأنّ الكلمة البنّاءة تنافس آلة الحرب الهدّامة للمادّة والروح، على حدِّ سواء. نكتب لأنّ الكلمة البنّاءة تقطع رؤوس الجهل المتفشّي في الوعي الجماعي. نكتب لنشارك بفك حبال النظام الأبوي الديني القانوني، المُلتفة حولَ أعناق النساء، ليتحَرّرنّ. قد لا تصل الكلمة إلا بعد حين، وربّما بعد زمن طويل، لكنّها ستصل، لأنّ مفعولها رجعيّ، فمن الحرف بدأت الحضارة الإنسانيّة.

يقول الجنرال الهولندي اللواء باتريك كاميرت: “أن تكون امرأة الآن أخطر من أن تكون جنديًّا في نزاع مسلّح في العصر الحديث”. ونساؤنا، مع الأسف، اختبَرنَ العنف بشكلٍ جيد جيدًا؛ عنف ما قبل الحرب، وعنف الحرب، وعنف ما بعد الحرب. يقولون عنهنّ “ضحايا”، لكنهنّ في الحقيقة مقاتلات. ما قبل الحرب، قامت العادات والتقاليد والأعراف، وأيضًا السلطة السياسيّة باختراق كيان المرأة بصورة منهجية، وبغطاء ديني يُناسب مصلحة المجتمع العليا التي توافق على أسسها الجميع، إلّا المرأة. ولكن هل نكون فعلًا قطعنا شوطًا كبيرًا في أرض الحضارة، كما يدّعون، إذا تمّ التوقّف عن وأد المولودات أحياء؟

نساؤنا مقاتلات، نعم، لكنهنّ يمُتنّ آلاف الميتات كلّ يوم، كلّ لحظة، دفاعًا عن حقوقهنّ الطبيعيّة: حقّ الحياة، حقّ التعليم، حقّ دخول مجالات العمل المختلفة، حقّ الحضانة، حقّ الحماية من العنف الأسري، حقّ إعطاء الجنسيّة لأولادها، حقّ الميراث العادل، حقّ الحرّيّة… وقد يكون أهمّ هذه الحقوق على الإطلاق هو حقّها بـ “الموت الطبيعي”، دون تدخّلات بشريّة ذكوريّة من الأب والأخ والزوج والعم والخال، بحماية قانون تافه يصنف حادثة موتها تحت مُسمّى “جريمة شرف”. وأتت الحرب، ولم تأتِ بالدمار والخراب والموت فقط، بل بتسريع وتكثيف تكاثر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، عمّا كان عليه من قبل، لتجد المرأة السوريّة نفسها بوجه العنف والحرب معًا، فتتحَوّلُ درعًا لتنقذ وجودها، عائلتها، بيتها، كرامتها وشرفها. جاء وقع العنف على النساء السوريّات مختلفًا، كلّ واحدة تلقّته وفقًا لظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك العنف شملهن جميعًا، ولو بنسب متفاوتة وأشكال متنوّعة. الاستغلال الجسدي والنفسي والجنسي عنفٌ مُبرّر من بعض أصحاب اللحى اللذين أعادوا تفصيل ثوب الدين على هواهم، تلبيةً لنداء غريزتهم الفالتة دون مكابح..  الاعتقال والتعذيب لمن رفعت صوتها عنفٌ مُتبنى من النظام السياسي القائم أساسًا على التخويف، والشعور بالخوف عنفٌ لا يمكّن حامله من العيش.. الفقر والجوع عنفٌ مدعوم من منظومة اجتماعيّة انقلبت أركانها في زمن الحرب إلى عصابات تحتكر حتّى الرغيف.. الهروب والتشرّد وصولًا إلى خيمةٍ أكثر أمانًا من أرض الوطن، أو إلى أرض بعيدة غريبة، عنفٌ يقتلع الانتماء من الجذور.. العنفُ بكلّ أصابعه يدٌ ثقيلة لا ترحم، ولا تتوقّف عن الصفع! كيف يمكن لهذه اليد أن تتوقّف عن الصفع؟ وهل يمكن للكلمة أن تشلّ حركتها؟!

أؤمن بأنّ العقول المتمرّدة لن تستسلم عن بثِّ الأفكار التي من شأنها رفع الصوت، والإشارة إلى العنف المُمارس على أنواعه وأشكاله ومستوياته تجاه المرأة السوريّة، ومن ثمّ محاولة تأمين حلول كالبيئة الحاضنة للضحيّة، والتي تجسّد الخطوة الأولى والأهمّ في عمليّة التخلّص من ندوب العنف، على الصعيدين الجسدي والنفسي، وصولًا إلى تغيير القوانين التي تلبس عباءة الشرع الفضاضة، حيث إنّ كلّ إنسان يفسّر ويجتهد على هواه.

في خضمّ هذه العمليّة الطويلة والمعقّدة، التي تستمرّ عقودًا لتصل إلى التغيير الجذري في البيئة الاجتماعيّة والقانونيّة، تأخذ الكتابة الإبداعيّة التي تحاكي وضع النساء، بشكلٍ عامّ، خطًا موازيًّا مع خطوط هذه العمليّة. في ما يخصّ تجربتي الشخصيّة في الكتابة عن النساء المعنّفات، فقد تلبّسني العجز في رواية «على مائدة داعش»، ولم أتردّد لحظة في تدوين هذه السطور في بداية الرواية: “إلى النساء المختطفات لدى داعش، لأنّي عاجزة عن فعل أيّ شيء، لكن كتبتُ هذه الرواية”.

أيقنت أنّني لن أستطيع مساعدة النساء اللاتي وقعن “سبايا” بيد التنظيم الإرهابي، إلّا إذا كتبت عنهنّ، ونقلت ما حدث لهنّ من خطف واغتصاب وعنف وقتل، ونجاة أحيانًا.. قد لا أكون ساهمت في تحرير أيّ فتاة من قبضة الإرهاب، لكنّي أوصلت أصواتهنّ بالطريقة التي أعرفها، الكلمة. بفضل الكلمة، تحوّل هذا العجز إلى قوّة في كلّ مرّة كانت تصل فيها الرواية إلى يد قارئ جديد. في رواية «من التراب إلى الماء»، الدافع كان التمسّك بالحلم والدفاع عنه. الحلم الذي تخطّفه الحرب من الإنسان، فيقضي حياته هائمًا يبحث عنه. كتبتُ عن الفتيات اللاتي أجبرتهنّ الحرب على الاحتراق بنارها، ترك مدارسهنّ، ترك أحلامهنّ، ثمّ تهجيرهنّ إلى مخيّمات وتزويجهنّ قاصرات. لكنهنّ حاولنّ التخلّص من قسوة التراب الذي لازمهنّ منذ الولادة، عبر الماء. هذا ما حدث مع آلاف النساء السوريّات اللواتي تركنّ خلفهنّ حياةً مشوّهة في الوطن، ليُجابهن الموت في البحر، وكلهنّ أملٌ بحياةٍ جديدة بأرض تحمي كراماتهنّ وحقوقهنّ وحياتهنّ. لطالما كانت المرأة هي الآلهة في أعظم حضارات التاريخ، ماذا جرى حتّى سقطت في خندق العبوديّة، وحلّ مكانها الإله الذكر؟!

القاصّة والروائيّة سوزان خواتمي (تركيا): الثورة أحدثت انفراجًا لتجاوز الممنوع وكسر حاجز الخوف

خلال عقود اتّسمت بكمّ الأفواه، كان اللجوء إلى التوريّة والتمويه أفضل وسائلنا، ككتّاب، للتحايل على النظام القمعي دون أن نُتّهم بخدش اللحمة الوطنيّة وعزيمة الأمّة، ولم أكن أشجعَ من غيري، حين كتبت قصّة تحكي عن تماثيلنا التي نصنعها، ثمّ نصدّقها حتّى ننسى أنّها محض تمثال، بل ينسى التمثال ذاته حقيقته. حينذاك، لم يكن واردًا تسمية الأشياء بأسمائها، إلّا أنّ قيام الثورة السوريّة أحدثَ انفراجًا لتجاوز الممنوع، وكسر حاجز الخوف. صار بالإمكان تناول النظام البعثي الأسدي بقبضته الحديديّة، ومسؤوليّته المباشرة عن التهجير والتعذيب والاغتصاب والعسكرة والأسلمة، وأيضًا انتقاد مواد الدستور المُجحفة بحقّ المرأة، وانعكاس كلّ ذلك على مجتمع يتفتّت.

بطبيعة الحال، لا تنفصل قضايا المرأة السوريّة عن الهمّ السوري، سواء في استباحتها كأداة ضغط، أو معاناتها المباشرة من عواقب الحرب القائمة، وكذلك لتضحياتها وما قدّمته للثورة.. كلّ تلك الجوانب تناولتها الأقلام النسائيّة، فهناك عددٌ جيدٌ من الإصدارات تنوّعت بين المذكرات والروايات والدراسات والمجموعات القصصيّة وركّزت على معاناة النساء، من خلال التفاصيل الدقيقة والمشاعر الخاصّة التي تلتقطها حساسيّة المرأة الكاتبة. أذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- كتاب سمر يزبك «تسع عشرة امرأة» الذي وثّق شهادات لسوريّات تعرّضن للانتقام بسبب مشاركتهنّ في التظاهرات، أيضًا رواية «الأنبياء الجدد» للراحلة رغدة الحسن، التي تفضح أهوال السجون السوريّة، كما أصدرت لمى قنوت دراسة تتعلّق بالمشاركة السياسيّة للمرأة السوريّة، كذلك كتاب د. ميّة الرحبي «الإسلام والمرأة»، إلى جانب أسماء كثيرة مثل ديمة ونّوس وروزا ياسين حسن ونجاة عبد الصمد وغيرهنّ…

إنّ عبثيّة الحالة السوريّة، بتعقيداتها ودوامة مآسيها وغياب أيّ استشراف واضح لملامح المستقبل، تجعل السؤال المطروح عن جدوى الكتابة الإبداعيّة في مواجهة العنف محقًّا.. لماذا نكتب، ولمن؟ وعندما نفعل هل يعكس ما كتبناه تجلّيات الواقع الكارثي أو يفسّره أو حتّى يوازيه؟! يعدّ الأدب سجلًّا لتجاربنا الإنسانيّة، وطريقة للتعبير عن مواقفنا وآرائنا، سوى أنّ طبيعته الهشّة تجعله لا يملك حلولًا ناجعة، فالكتابة بتأثيرها المحدود ليست أكثر من نافذة للوعي والتحريض والكشف، أمّا في زمن الثورة فهي تعاط مع مرحلة دمويّة وسرديّات مأساويّة يعجز عن توصيفها كتّاب العالم مجتمعين. لعلّ مهمّة أحدنا -كمشارك في العمليّة الإبداعيّة- أن يجسد رفضه وتمرّده على الواقع.

وقع الكلمة، كوقع قطرة ماء مستمرّة فوق صخرة، تحتاج إلى وقت طويل كي تؤثّر في بنية الوعي وآليّة التفكير من جهة، والعقليّة الاستبداديّة الذكوريّة والتطرّف الديني من جهة أخرى، فإرث مجتمعاتنا المقترن بالسلطة والهيمنة وملحقاتها من عادات وتقاليد يصعب هزيمتهم بالكلمات وحدها، تلك الصعوبة تتضاعف مع تراجع فعل القراءة، فهناك جيلٌ يتمّ تجهيله ويعيش في الخيام.. ثمّ من سيمسك كتابًا في ظروف التجويع والتشرّد والصراع من أجل البقاء؟

تجربتي الشخصيّة قد تشبه أو لا تشبه غيري. في السنوات الأولى من الثورة، فقدتُ قاموسي اللغوي، ورغبتي في الاشتغال على نصّ أو تطويره، ومع تطوّرات المشهد السوري وكآبته صرتُ يائسة من جدوى الكتابة، ما عدت استوعب اتّساع المأساة من وطأة نظام شرس، إلى الخشية من المدّ الإسلامي المتشدّد، إلى اهتراء النسيج السوري والانهيار المجتمعي وتراجع مكتسبات المرأة، وحتّى انزياح الثورة عن أهدافها والانكسار الداخلي، فالأمل الذي تحوّل إلى وجع كان أعمق بكثير من تحريره على الورق.

استمرّ توقّفي عن الكتابة الإبداعيّة فترة طويلة، مكتفية بالمقالات الصحفيّة ذات الوقع السريع واليومي والآني، ولم يكن خروجي من الشلل الكتابي وعودتي إلى عالم الكلمات سهلًا، لولا مساعدة وإلحاح بعض الصديقات، فشاركت بمجموعتين قصصيّتين دارت أجواء أغلبها حول وضع المرأة في مواجهة القمع والاستغلال والتمييز، وما عانته وتعانيه في ظروف السنوات العشر الماضية، كما نشرت العام الماضي أولى رواياتي «ربع وقت» التي تدور أحداثها في حلب مدينتي، قدّمت فيها المؤثّرات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة كممهّدات أدّت إلى قيام الثورة، وخروج تظاهرات تصدّى لها الأمن بوحشيّة، وتفاوت ردّات فعل الناس بين مصدق ومكذب وبين معارض وموال في انقسامات وثنائيّات كاشفة للكذب والادّعاء. لم يكن هناك خلاص لشخصيّات روايتي الذين يعيشون ربع يقين وربع أمان وربع حياة. كلّ ما أكتبه حاليًّا مرآة عاكسة للمتاهة السوريّة، من دون أن أملك -مع الأسف- تفسيرًا مقنعًا للكابوس الذي نعيشه.. كما لا أملك يقينًا بموعد نهايته!

الطبيبة والروائيّة سوسن جميل حسن (ألمانيا): اجتراح ثقافة بديلة

لا بدّ من الاعتراف بأنّ المرأة دفعت الفاتورة الأبهظ في هذه المرحلة من الزلازل والأعاصير التي تعصف في منطقتنا، منذ بداية ما يسمّى بالربيع العربي، وفي الحقيقة هي لم تدفع منذ اليوم فقط، بل إنّها الضحيّة الأكبر لسلاطين استبدّت بها تاريخيًّا، من سلطان ديني إلى اجتماعي واقتصادي وسياسي، عانت بسببها التهميش والاستغلال والكبت والكبح والظلم، مدفوعة إلى الزوايا المعتمة غير فاعلة في الحياة، ورسمت لها صورة نمطيّة صيغت خلال الزمن بإبداع ذكوري متسلّط، حتّى اللغة طوّعها السلطان الذكوري ليجعل منها حاملًا ثقافيًّا وموروثًا شعبيًّا، يلجم المرأة ويبعدها عن الفضاء العامّ ويمنع عنها الأحلام والفاعليّة الحياتيّة، مثلما حمّلها من خلال هذا الموروث وزر العِرض والشرف العامّ لا الخاصّ، ولقد أظهرت الثورات التي تحوّلت إلى حروب وجهاد طوائف ضدّ بعضها البعض واقعًا مهلهلًا نبَش كلّ العفن المتراكم، ودفعت المرأة لتسام فيه أنواع الامتهان والإذلال وانتهاك كرامتها وإنسانيّتها، مثلما ازدهرت الحرب الكلاميّة والشتائم وانتهاك الآخر بالنيل من أمّه أو أخته أو ابنته، بما حملت اللغة من مفردات وصياغات تجسّد بكثافة لغة تحتاج بحدِّ ذاتها إلى ثورة تعيد ترتيب مفرداتها ومعانيها.

الواقع الحالي، والحالة السوريّة على وجه الخصوص، حالة الثورة التي اختُطفت وحرفت عن مسارها، وحوّلت قضيّة الشعب السوري إلى قضيّة إشكاليّة، دفعني إلى مواجهة أسئلة مدجّجة مقاتلة وشرسة، فهل كنّا فيما مضى، من حيث لا ندري، نؤسّس فكرنا وثقافتنا منفصلين عن الواقع، مستكينين لخدرنا اللذيذ، مواربين المقدّس؟ أسّسنا مرحلة من الشعارات البراقة، وادّعينا الحداثة، فألفينا أنفسنا غارقين في واقع مرير يُظهر فداحة تقصيرنا وقصورنا، وهجمت علينا كلّ تلك الأصوليّات. نحن فشلنا في تحديث مجتمعاتنا، فشلنا في إقامة القطيعة مع الماضي، ولم نستطع التأسيسَ لقيم التعدّد والاختلاف. امتصّت الأيديولوجيّات في حقبةٍ ما طاقات الشباب، بوعودها حول التحرّر والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة، ولم تحقّق غير التضليل.

فشلنا أورث هذا الجيل الشاب المهمّة الأصعب، فهذه الطاقات الجامحة نحو الانعتاق سيكون مشوارها شائكًا ودربها وعرًا وطويلًا، هو جيل عازم على أن يعيش تجربته الوجوديّة، وأن يحرّر طاقاته المكنونة، ويصنع ثقافته البديلة، والمهمّة عسيرة جدًا. ومثلما هم يحاولون قتل الآباء، كنّا نحن الآباء نقتلهم في ما مضى، تحت مسمّيات عديدة ودوافع متنوّعة. هذا الجيل الشاب ربّما كان أكثر شجاعة منّا، أو أقرب إلى الواقع منّا نحن جيل الآباء، لذلك علينا صياغة نموذج من الأدب ينبض بالحياة، لا بدمٍ متخثر، أدب ينبض بروح حيّة متجدّدة شابّة، ينبثق من الواقع وليس غريبًا أو مغتربًا عنه، وهذا الواقع تشكّل المرأة الركن الأهمّ فيه، فهي مدفوعة بنيّات ذكوريّة لخوض حرب لم تقرّرها ودفع فواتيرها على كلّ المستويات، وحمل عبء ما تخلّفه على صعيد الأسرة والمجتمع. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ إحدى المهمات الصعبة والتحدّيات المربكة هي مواجهة سطوة الميديا، بما تلعبه من دور ضاغط وفاعل في صياغة الوعي وفق أجنداتها، ومواجهة هذه الإرساليّات الفكريّة التي توجّهها إلى الشرائح المستهدفة، كلّ بحسب منطقتها وبحسب الأجندة التي تعمل عليها تلك الوسائط.

صحيح أنّ الثورة تحدث في الأدب قبل الواقع، وأنّ للأدب دورًا مهمًا في دفع الشعوب إلى إدراك ذاتها، ولقد دفع الأدباء والكتّاب الذين اشتغلوا على قضايا الشعوب وكشف جرائم الطغاة بكلّ أشكالهم، أثمانًا باهظة وصلت إلى حدّ القتل، لكنّ مهمّة الكاتب لا تقف عند مفترق ما، بل منوط به أن يقوم بدوره في كلّ المراحل التي تمرُّ بها الشعوب، عليه فقط أن يستقلّ بالمطلق عن السياسي، ويكتب كتابة نقديّة، ويقاوم ضغط الراهن، مثلما عليه ألاّ ينزلق إلى دور المؤرّخ. وعليه أخيرًا أن يتمسّك بقيم الجمال في منتجه الأدبي، فالجمال قيمة ترقى بالمجتمعات.

  • الكاتبة والروائيّة شادية الأتاسي (لندن): في هجاء الحرب والقتل والاستبداد

لم يكن الأملُ يومًا خرافة. يقول ألبير كامو: “إنّ ردّة الفعل المناسبة تجاه فقدان الأمل تكون بالتمرّد”، أو ما يسمّى بالتمرّد الناعم، بالنفخ في الصُور، أي بالكلمة؛ ففي كلّ قارئ، قوًى غافية بين الصحو والغيبوبة في انتظار نفخة الصور، وكلّ كتابة تستهدف الإيقاظ بطريقتها الخاصّة، قد تكون الكلمة فاعلة ومباشرة، وقد يتأخر المفعول، ولكن لا بدّ من الفعل. نعم، لا يبدو المشهد السوري ورديًّا اليوم، إنّه في الحقيقة شديد القتامة، بعد عقد من انطلاق رياح التغيير، التكلفة كانت عالية، تكشفت عن وطن منهوب ومنكوب وعن أيديولوجيّات تتماوت، وأخرى جديدة ترفع رأسها، ونسيج اجتماعي مهترئ، ومشهد ديني متفاوت ومتناقض، تهيمن عليه النبوءات الغيبيّة المؤدلجة بالسياسة، وجنون التطرّف. فضلًا عن القتل والاعتقال والاغتصاب والخراب، وصولًا إلى الجوع.

لا شكّ في أنّ السنوات العشر كانت كارثية على الجميع، لكنّ دوامها، وتحوّل الوضع السوري إلى حرب ضروس، جعل المرأة الضحيّة الأكبر فيها؛ إذ تجرّعت كؤوس الحرب حتّى الثمالة، لما نالها من عنف معنوي وإيذاء جسدي واعتقال وتنكيل واغتصاب وذل وتهجير وفقدان الأهل. وجدت نفسها تصارع مصيرًا مجهولًا في السجون ومخيّمات اللجوء والنزوح، فضلًا عن تزويج القاصرات، وتجنيدهم والاتِّجار بهم من قبل تنظيمات عسكريّة متشدّدة كتنظيم “داعش”. وصحيح أنّ العنف ضدّ المرأة كان موجودًا منذ عقود، من خلال قانون الأحوال الشخصيّة السوري الذي شرّع العنف من خلال مواده، مثل القتل تحت مسمّى “جرائم الشرف” وتزويج القاصرات وجرائم الاغتصاب والطلاق بإرادة الرجل ومبدأ الولاية للذكر، إلّا أنّه استفحل بشكلٍ مفجع في السنوات العشر الأخيرة.

ما الجدوى من الكتابة إزاء هذا الوضع المعقّد؟! لا يمكن لمن يتّخذ من القلم سلاحًا ناعمًا، البقاء في معزل. أؤمن بحتميّة التغيير، الحتُّ الدؤوب لا بدّ أن يهزّ الأبواب المغلقة، وعلى الرغم من أنّ الكتابة غير قادرة على تغيير الواقع مباشرة، إلّا أنّ الفرادة في الكتابة أنّها فنٌّ وإبداع، احتفاءٌ بالحياة والمشاعر، المحزن منها والمفرح، فلا إبداع بدون تأجّج المشاعر، ما أفسح المجال لأن يزدهر أدبٌ لم يكن لديه من خيار، إلّا أن يكون ممسوسًا بعذابات البشر، يَستفزّ ويُحفّز ويعري الواقع ويواكب الحدث، يشعل الإشارة الحمراء، ويرصد بتأنٍّ عمليّة التغيير، ويكون شاهدًا على العصر. هذا ما يدعو مقصّ الرقيب الغاشم، إلى التواطؤ مع الأجهزة الغبيّة، لمنع الكتابة من أن تكون فاعلة ومُنفعلة، في واقع متجذّر لا يريد له أن ينفتح على عالم حرّ، والتاريخ حافل بأمثلة عن روائيّين، أحدثوا ثورة وتغييرًا في مجالات الفكر والأدب والفلسفة والسياسة، وكان من أبرز رواده ألبير كامو وجان بول سارتر وسيمون بوفوار ونجيب محفوظ ونوال السعداوي وغيرهم/نّ.

من أبرز ملامح العشريّة الأخيرة هذه، أنّ القلم النسائي برز بجلاء لافت للنظر، لعلّ المشهد الحيوي المتأجّج، والتمادي في القهر والعنف، وتسلّط الفكر الداعشي، تحت عباءة الدين، المقترن بالاستبداد السياسي، أجّج الإحساس الكامن بالظلم، جعلها تقف كرمح في مواجهة أسنّة الرماح، وكسر التابوهات المحرّمة وهز الأبواب المغلقة، منهنّ من اعتُقلت وخُطفت وغيّبت، ومنهنّ من حملن رحالهن، اجتزن الطرقات الصعبة، وجلسن على رصيف الغربة، يكتبن عن الوطن من وراء الحدود. استفزّتني الكارثة السوريّة، لم يكن بالإمكان النأي أو التغاضي عمّا حدث ويحدث.

في مجموعتي «أنا التي لم أعد هناك»، كتبت القصيدة النثريّة والقصّة والمقال، كتبت عن سورية والسوريّين، عن الحب، عن الحرب والدمار والقهر، عن التضادّ بين الإحباط والأمل عن ذاكرتنا التي ثقبها الانقسام، عن الموت المجاني؛ الموت في بلدي لا يشبه الموت في بلد آخر، يخلع كفنه فجأة، ويرتدي ثوب البلد، انكسار البلد، هوانه وتمزّقه، بؤسه وغضبه، شروخه وانقساماته.

 وفي قصّة «هيلا ذات الوجه الضحوك» النازحة الجولانيّة الفقيرة، جعلتها شاهدة على قسم لا يستهان به من النساء المسحوقات تحت نير الجهل والعنف، المرأة المُغَيّبة التي تمنح جسدها لرجل تحت وطأة الضرب، وتؤمن أنّ هذا قدرها، وتقول باستسلام: “ضربني، ربّاني من أوّل الطريق”، وعن رأيها في الحبّ تقول: “هادا عيب وحرام، كان أبي هراني من الضرب”، ما يفسّر سطوة وهيمنة الفكر الذكوري، حاولت اختراقها، بذر بذور الشكّ فيها، أن أعلمها كيف تحبّ ذاتها، وتحترم جسدها، وتنجو بنفسها، فجابهتني بشقائها. كان قد وُلد معها ورضع.

وفي قصّة «هيلا ذات الوجه الضحوك»، كان حدث الزواج هو الأكثر زخمًا وحضورًا في حياتهم الرتيبة، يتأهبون له كقدر ممسوس بفعل الغموض، تدرك الفتاة، بشكلٍ مبهم، أنّها تنهي طفولتها، أو أنّها لم تكن طفلة في يوم من الأيام، حين تُقاد كنعجة لتسلّم إلى رجل غريب، في حفل الشقاء الذي يبدأ، ويلتهم حياتها كلّها. الشقاء قدر، وما عليها إلّا أن تعي هذه المفارقة، وما عداه ليس مهمًا، المهمّ هو أن تصبح عروسًا، وعندها تنضمّ إلى موكب النساء، اللواتي يتهامسن ويتلامزن، عمّا يحدث في تلك الليلة الخارقة الغموض، ليلة الزفاف.

صحيح أنّني أُغرمت بالشعر وكتبته، لكنّ القهر المبرح مع استمرار المأساة السوريّة، جعلني أشعر أنّ مكاني الصحيح هو في الرواية، في زخم الحروف التي تفيض بسخاء الكلام، وكرم التفاصيل، والتجوّل في فضاء أرحب للتعبير عن الغليان الفكري المحموم، والقلق الوجودي المبرح، استفزّني عناد عميق للتورّط في ولوج بوابة ذلك العالم، فكانت روايتي «تانغو الغرام»، وهي رواية الحرب والحبّ المبتور والفقد والغربة، تتورّط بالدخول في عمق الكارثة السوريّة التي تمثّل مأساة شعب بكامله، وتأثيرها العميق على دواخل الناس وبنية المجتمع. تسرد الرواية قصة امرأة عادية تحبّ وتُحبّ، يوميّات الحرب والفظائع من خلال رصد تداعيات الحرب المندلعة في سورية، وآثارها المباشرة وغير المباشرة، وما أحدثته من عطب في بناها النفسيّة، الأمر الذي كانت له نتائجه المدمّرة على كلّ منها. وهي لا تقف عند حدود التدمير الخارجي المباشر للمكان، بل تتعدّى ذلك إلى التدمير الداخلي غير المباشر للإنسان. “في الحرب لم تعد أنت، تُفاجأ بأشياء كنت تحسبها ثابتة، يدهشك أن تدرك أنّها تتغير، وكم هي الأنا داخلك هشّة، سهل اقتلاعها، أمام هجوم عاصف لتحوّلات كبرى، فرضت نفسها بقوّة. الحرب وضعتنا أمام ذواتنا، قالت لنا بجلاء: هذا أنتم، تعرفوا على أنتم”. لم تكن «تانغو الغرام» رواية سياسيّة، بالمعنى الكامل، بقدر ما كانت رواية إنسانيّة، تهجو الحرب والقتل والاستبداد، وتبتعد عن الأيديولوجيّات التي تُشَرِّع التخلّف والجهل والخزعبلات. تنتصر للحبّ، لكنّ القاعة السوريّة الخانقة من جهة، والعالم الذي أدار ظهره، لم يسمحا للحبّ أن ينتصر ويمارس رقصة التانغو في فضاء حرّ.

  • الشاعرة والإعلاميّة فاتن حمودي (الإمارات العربيّة المتّحدة): سؤال الوجود والأنا والهويّة

“كم طويل هو الطريقُ

 ليمهلني الموتُ قليلًا حتّى الوصول إلى قرطبة

 قرطبة البعيدة قرطبة الوحيدة”

بأغنية «الفارس»، لفيدريكو غارثيا لوركا، أبدأ.. وأقول: هل بات الطريق إلى دمشق أشبه بالوصول إلى قرطبة؟ من أين أبدأ، وقمرنا شاحب ومدمّى؟! وأسأل: لماذا نكتب؟ وهل نستطيع القول بأنّ الحقيقة قبل 2011 غير ما بعدها؟ سؤال الكتابة، هو سؤال الوجود، سؤال الكينونة، سؤال الهويّة، سؤال الأنا، سواء كانت بلغة بصريّة، أو بلغة اللون، أو الصورة أو الكلمة. ولأنّنا نعيش لحظة الألم واليأس، فإنّنا نصرخ كما صرخ بطل رواية «باب الشمس»، من الأوّل… إنّها لحظة ألم.. تدعونا دائمًا لزمن ما بعد اليأس.. وإلّا ما جدوى أيّ شيء؟

 سنوات ونحن نرى ونسمع ونتابع، وندرك أنّ الثورة ليست فعلًا سياسيًّا فقط، إنّها تغيير في البنى الثقافيّة أوّلًا، أن يتحوّل إلى حقيقة سياسيّة واجتماعيّة، إلّا إذا كان في العمق تغيير ثقافي. عشر سنوات، ونحن نرى تدمير حلم الربيع العربي، وتدمير فكرة الوطن والمواطن، حتّى صرنا نردّد: “تعالوا نناضل لكي نصبح مواطنين فقط”.

المرأة، الرجل:

ولأنّ المرأة والرجل يشتركان في ماهيّة الإنسان، فإنّ كلّ طرحٍ، يحصر المرأة في الفتنة وبأنّها عورة، يعني تغييب دورها، وتهميشها. ولأنّ الكتابة فعل حرّيّة، فإنّني أكتب، أكتب الحبّ في زمن الحرب، أكتب نصوص العزلة، متتابعات دمشق، فأيّ كتابة إعلان واعتراف وخطاب، وأعرف ضمنًا أنّني امرأة وُلدت في دمشق… وتشمّمت معنى عطرها… وعرفت أكثر أنّ المرأة إنسان حرّ وقوي ومتعدّد ومسؤول في واحد، لم أرَ في المحيط الذي نشأت فيه إلّا نساء لهنّ حضورهنّ، وجه جَدّتي الذي يمطر محبّةً وعطاءً وإحساسًا عاليًا بالذات، والتوق إلى البناء ومعرفة أنّ البيت وطن، ووجه أمي التي ربتنا وعملت من أجلنا لننجو من ليالي اليتم.. وجهي وأنا أركض من مدينة إلى أخرى للعمل في الصحافة وإعداد البرامج التلفزيونيّة، وكأنّني أقف على مسرح الحياة، أدرّب نفسي على النصّ، ففي مسرح الحياة نمضي إلى التدريبات، كي نضع ما اكتشفناه بالأمس موضع الاختبار، نقنع أنفسنا بأنّ المسرحيّة الحقيقيّة قد أفلتت منّا مرّة أخرى. وأسأل، وسط ركام من الغبار والخراب: هل يشكّل صوت المبدع صوت الجنون، وهل يُغنِّي وحده، يكتب لنفسه، ومتى كانت الكتابة ترفع جدارًا هدمَه المستبدّ ببراميله؟

ولأنّ أهمّيّة الكتابة، تبدأ من السؤال، فإنّ صوت الجنون ينزاح إلى ذروة الإدانة العدميّة، وحين يصبح المكان الواقعي أسوأ بكثير من المكان المتخيّل في عماء جوزيه ساراماجو، وفي عنبر أنطون تشيخوف، يصبح المكان أشبه ببيمارستان.. في هذا الفضاء يمارس علينا فعل التعذيب والإبادة، وكأنّنا بلا مخدر نكزُّ على الألم.. يرتفع صوت الجنون.. وكأنّه صوت الصبيّ الذي صرخ بوجه الملك أنت عارٍ.. عارٍ تمامًا، وكانت نتيجة هذه الصرخة ما نعيشه اليوم؛ مدن، قرى، مخيّمات، كلّ هذا تعرّض للإبادة، ماذا يعني هذا للمرأة؟ أن تُقتلع هي وأسرتها، أن لا يبقى أسرة أصلًا، وأن يكون الهواء الذي نتنفسه يسيل خرابًا وعفونة؟ ونحن نقف على هذه الأرض، نفتح باب السؤال: أليست الحياة التي نعيشها أشبه بنفق لا نعرف إلى أين يؤدّي بنا؟

هذه الحياة التي تفقد أيّ معيار حقيقي لوجودها، وكأنّما التدمير والخراب، والعاهات والمحرقة تلاحقنا أنّى وجدنا، والتي جعلتنا ذرات رمل في المنافي، وأمام انحدار سريع نحو الهباء وربّما الانقراض، فتختلط الأدوار لا الرجل رجل ولا المرأة امرأة، نعيش احتضارًا طويلًا، وما بين ذاكرتين وربّما خطابين: خطاب الضحيّة وخطاب المستبدّ، وكي لا نقع ضحيّة فكرة المؤامرة، لا بدّ من تأمّل الوضع الداخلي، وسياقات التاريخ التي جعلتنا في الحضيض نعاني دوار الهاوية. في هذا الواقع المتردّي، لا بدّ من أملٍ.. من بقعة ضوء، تشكّل فيها الكتابة سؤال الوجود والأنا والهويّة.. سؤال العبث، اللعب على الموت، التحايل على الغرق والجنون، فما نراه من تدمير وتهجير وفعل إبادة يفوق أيّ تصوّر.

ولأنّ الغناء يمنحُنا شهوة الحلم، والذهاب بعيدًا في حنيننا، بل لأنّ ذاكرة الألم تشكّل جزءًا من آليّة البقاء والدفاع عن النفس، والمقاومة؛ نمشي وسط الخرائب نراها لنروي حكاياتنا، نمضي من جهة الحرب إلى جهة الحب، وكما قال الروائي إلياس خوري: “الحكايات التي تروى تجعل الحجارة تنهض وتصير حيطانًا للبيوت”، لهذا يخاف المستبدّ القاتل من الكلمة، من خطاب الحرّيّة، من الصوت حين يصدح «يا حيف»، لهذا أقول، كم “غرنيكا” يلزمنا كي نختصر كلّ هذا الليل!! واستحضر هنا صوت الروائي البرتغالي أفونسو كروش: «هيّا نشترِ شاعرًا». إنها الرواية التي شكّلت صرخة لعواقب ضياع الشعر أو أثره على ضياع اللغة وروح الإنسان.

حين نكتب، فإنّنا نكتب سيرةً ناقصةً، وكأنّ الكتابة مقترح للحياة، للعالم والوجود، ضوء الأمل وسط سيرةٍ مبعثرةٍ بالحرائقِ والحروبِ والغرقِ والشتات والحبّ المستحيل، والكراهية، وانتشار الطائفيّة والتعصب، مرّة الحرب على الأيزيديّات، مرّة البراميل على أسرٍ في بيوتها، ونحن أمام هذا الطوفان، تأتي الكتابة لتشكّل سفينة نجاة. ولأنّ الصورة وجه الإدانة، نحدّق بها مليًّا.. صورة امرأة تحمل أطفالها، امرأة تصرخ، امرأة تغتصب في المعتقلات، امرأة تقتل، امرأة تبيع نفسها من أجل حليب أطفالها، امرأة تركض في مدن الرمل والغبار، ولا يبقى أمامنا سوى شهقة الكتابة.

الكتابة سؤال الوجود، الكتابة حياة في مواجهة الموت.. إنّها حوار مع كينونتنا الإنسانيّة التي تتعرّض اليوم لأقصى أنواع النفي والعنف. “ضيقة هي المركب”، الشعرُ يقلب المراكب، تمرُّ عبره الحكايات على شكل ومض، وغموض، وصور يتداخل فيها أزمان وأمكنة ووجوه…

مريضة بالشام أنا، مريضة بالحارات والمقاهي والدوالي، و”في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار”… تشبهني هذه الأغنية، تشبه حزني، يا صديقي.

ولأنّ الزمن بلا رجولة، أحمل الصخرة درجة درجة، ليس من باب المازوشيّة، بل من باب الصبر، الذي هو الباب الثامن لدمشق ونسائها، فالشام امرأة، لهذا قال ابن عربي: “العالم الذي لا يُؤنث لا يُعوّل عليه”، والحياة تعرجُ حين يتكئ العالم على المرأة. أنا المرأة الهاربة من ظلّها يحاصرني غبار المسؤوليّة، يسألني أحد الأصدقاء: متى تكتبين، فاتن، وأنت محاصرة بكلّ هذه الأعباء؟ فأردّ: أكتب في وقتي الذي أسرقه لأنتشل روحي من عالم الزحام والغبار. ماذا نقول وقد سُدّت أمامنا السبل، وأُغلقت كلّ أبواب الشام قسرًا أمام عشّاقها؟ العالم يلهث، كأنّنا تجاوزنا عنبر تشيخوف، فغرقنا في الرمل، وغرق غيرنا في البحر والمعتقلات، نحن -المحكومين بالشتات- نبحث عن القصيدة كخلاص جمالي مؤقّت، أدفع فواتير الفرح والحزن، كي يناموا مطمئنين، بأنّني سأدبّر الزمن، وأرتق الاهتراء، وأفتح نوافذ التهوية، وأزرع الورد، وأردّد مع درويش: “لا شيء يُعجبني/ الغجر وحدهم يعرفون الطريق/ يرصُّون عرباتهم كلّما تعبوا من المسير/ يضربون الأرض.. يحلقون.. كأفراس عشق عتيقة/ أضعت الطريق/ أعترف ألف مرّة بأنني أضعته”.

  • الكاتبة والفنّانة التشكيليّة لبنى ياسين (هولندا): الكتابة راهنًا فعل تأريخ لما حصل

أتساءل دائمًا عن جدوى الكتابة والأدب، في ظلِّ ظروف غارقة في السوداويّة، من الحرب، إلى الغلاء، إلى الترحيل والتشرّد!! من الصعب أن نتحدّث عن جدوى الكتابة كفعل يستطيع تغيير الواقع، فالواقع الآن أكثر سوداويّة من أيّ وقت مضى، هل ستُطعم الكتابة الجائعين؟ هل ستُعيد للأمّهات أولادهن؟ هل ستُدفئ من في الخيام تحت وطأة البرد؟ بالطبع هذا لن يحدث، ربّما تكون الكتابة في الوقت الراهن فعل تأريخ لما حصل، وتحريض على رفض الواقع المغلوط الذي يحاول فرض نفسه على حياتنا، وقد يكون هذا التحريض بحدِّ ذاته حجر الأساس لتغيير جذري في السلوك، كما هو عادة في ظروف أفضل ممّا نراه اليوم، من ظروف مُجحفة ومُؤلمة وصادمة، أصبحت فيها المرأة الحلقة الأضعف، عالقة في حروب لم يكن لديها خيار من التورّط فيها، مهما حاولت أن تنأى بنفسها. يحضرني هنا موضوع أغضبني كثيرًا، ووجدت نفسي أكتب قصّة عنه، وهو موضوع المعتقلات اللواتي تعرّضن للاغتصاب، وحين خرجْن، تعرّض معظمهنّ للنفي من أهلهنّ، أو الطلاق من أزواجهنّ، والبعض منهنّ قُتلن بداعي الشرف!! وكأنّ المعتقلة هنا قُتلت مرّتين، مرّة داخل المعتقل، وأخرى خارجه، بقيت أيامًا أحاول أن أفهم تفكير الآباء الذين قتلوا بناتهم، ما الذي كانوا يتوقّعونه من فتاة معتقلة؟ ما الذي كان يمكن أن تفعله لتدرأ عنها انتهاك الشرف قبل قتل الشرف؟ الغريب في الأمر أنّ حكم قتل الشرف يردُّ دائمًا إلى الدين، ولا علاقة له بالدين من قريب ولا من بعيد، وإنّما هو قانون سنّه نابليون، وفرضه على الدول التي احتلتها فرنسا، ولاحقًا تمّ تغيير هذا القانون في فرنسا، وظلّت معظم الدول العربيّة تسنُّ قتل الذكر لأخته، أو ابنته، أو زوجته، بداعي “الشرف”!! مع أحكام مخفّفة تجعل القتل جنحة صغيرة لا عار فيها في هذه الحالة، بل على العكس، تعدّ غسلًا للعار! لم تكن المعتقلات وحدهنّ من دفع ثمن الحرب، فهناك من خُطفت، وأجبرَت على الدعارة، وهناك من تمّ تزويجهنّ وهنّ في عمر الطفولة المتأخرة، لشيوخ في نهاية أعمارهم، ليمارسوا عليهم جميع الأمراض النفسيّة من البيدوفيليا، إلى الساديّة، والتعذيب. والحقيقة إن راقبت ما يحدث في دولة العراق الشقيق، فستعلم ما سيؤول إليه حال بلادنا، ففي العراق التي احتفلت في عام 1985 بالسعفة الذهبيّة لمحو الأمّيّة، حيث لم يعد هناك أمّيّ واحد، سواء كان رجلًا أو امرأة، تراجعت الآن لتصبح نسبة الأمّيّة 50% من السكان، ومعظمهم من الأطفال، ففي بعض المدن العراقيّة، تخرج الفتاة من المدرسة بعد صف الرابع أو الخامس بانتظار تزويجها في الخامسة عشر، وهناك فرض لثقافة الجهل، والخرافات بشكلٍ مخيف.

بالطبع، القوى السياسيّة التي تريد أن تحكم مناطقنا باسم الدين، تريد جيلًا جاهلًا تبثُّ فيه من الخرافات ما تريد لتضمن طاعته العمياء، ولذلك لا بدّ من إضفاء القداسة على من يديرون هذا السيرك، لكيلا يتجرأ أحد على تقويض خطتهم في فرض الجهل والخرافة تحت ستار الدين الذي حث دائمًا وأبدًا على العلم، والتعلم. وقد اشتغلت إيران على هذا السيناريو في العراق، وهي الآن تحاول فرضه في سورية، لتضمن نفوذها من خلال رجال الدين، فهي تحلم بإعادة بلاد فارس إلى الخريطة، ولن تستطيع ذلك ما لم تلبس رداء الدين، فتبدأ بالفتنة، ثمّ تتبّعها بالتجهيل، ثمّ بثِّ الخرافات باسم الدين. هنا أستطيع القول إنّه لا يتغيّر السلوك ما لم يتغيّر الفكر، وهنا يأتي دور الكتابة، فالكتابة، وإن كانت عاجزة عن تغيير الواقع بشكلٍ فوري كما لو كانت عصا موسى، فإنّها بالطبع قادرة على التغلغل عميقًا في الفكر لتصحيح مساره، وتعديل ما انحنى منه باتّجاه خاطئ، ستعمل الكتابة على ترسيخ الفكرة الصحيحة، وستناقش بموضوعيّة من خلال رواية، أو قصّة، أو نصّ وبطريقة سلسة السلوكيّات المشينة، وما إن يُصحّح الفكر حتّى يبدأ السلوك بالاعتدال، والاتّجاه نحو ما هو صائب، تبقى مشكلة واحدة، هي أنّ المجتمع العربي ليس بمجتمع قارئ، على الرغم من علمه الكامل بأنّ أوّل ما أنزل في القرآن الكريم كان “اقرأ”، وأنّه “في البدء كانت الكلمة”.

  • الطبيبة والروائيّة نغم حيدر (ألمانيا): الكتابة ضدّ الفناء

هناك دومًا قصّةٌ يشترك فيها أغلب الذين خبروا السجن سنواتٍ طويلة بطلها القلم. في الزنازين، حيث يُمنع على السجين امتلاك أي شيءٍ قادرٍ على الكتابة وحفر الخط، تتولّد لدى السجين رغبةٌ عارمة في الكتابة قد تضاهي رغبته في الانعتاق والحرّيّة، وتصبح الحاجة إلى الكتابة شبيهة بالاحتياجات البشريّة الغريزيّة. جوعٌ للكتابة، عطشٌ للكتابة. هناك من يحفر الجدران بأظافره كي يشكّل حروف اسمه أو ذكرى تخصّه أو أيّ جملةٍ تخطر على باله، كي يجدّد إحساسه بكيانه وبوجوده، مهما كان شقيًّا. الكتابة ستبقى مستمرّة ضدّ الفناء.

لا تقلب الكتابة موازين ولا أنظمةً، وهنا أتكلم عن الكتابة الروائيّة في عالمنا العربي بالتحديد. هي اشتغالٌ على الإنسان بتفكيكه ومحاورته، مناداته وتصوير صراعاته، وقد تتدخّل في تكوينه ووجدانه في حال كان قارئًا. لكنّ تأثيرها على العقل الجمعي والعمليّة السياسيّة محدود. الرواية ليست قادرة على إحداث التغيير، لكنّها يمكن أن تكون جزءًا منه ومن مسيرته. لا توقف عنفًا، ولكنّها تعرضه، تسمّيه. إنها تُرينا العنف الذي دفنه القمع في أعماقنا حتّى أصبحنا نظنّه منّا، ولم نعد قادرين على فصل أنفسنا الحقيقيّة عنه.. الرواية قادرة على صنع عوالم ترفد معرفتنا بالمحيط، وأنا أعتبر أنّ المخيّلة والافتراض هي بعد من أبعاد الكون، صنعه وعي الإنسان لا يمكن اختباره إلّا بتدوينه وكتابته.

سأعود الآن إلى الموضوع الأساسي، وأتحدث عن المرأة تحديدًا. سُئلتُ مرّةً في مناسبة عيد المرأة، عمّا يمكن للأدب أن يقدّمه لنساء؛ فأجبت أنّ كلّ ما علينا فعله هو أن نكتبهنّ ونحتاج لهذا إلى وقت يتعدى أعمارنا. بطلاتٌ كثرٌ سنكتب عنهنّ ونحن موقناتٌ أنهنّ لن يقرأننا، وأنّ القراءة ضربٌ من الرفاهيّة والترف لا تقوى النساء اللواتي يعانين، عليه. تحفل كتاباتنا بنماذج إنسانيّة وقصص لن تصل إلى يد الظالم أو القاتل أو المُسبب لكلّ هذا الألم، لهذا فإنّ جدوى الكتابة لا يمكن اختبارها في المدى المنظور. سنكتب ربّما للأزمان اللاحقة والأجيال الجديدة والقادمة التي نتمنى فعلًا أن تحظى ببعض الاستقرار، كي تطّلع على النتاج الأدبي في هذه المرحلة.

أحاول في كتاباتي أن تكون المرأة بطلةً لحالةٍ إنسانيّةٍ، لا لقضيّةٍ تخصّ النساء بالتحديد، إذ لطالما كان البطل يعامل في الروايات على أنّه يمثّل حالة إنسانيّة جمعاء، أمّا مشكلات المرأة في الرواية، فتبدو كما لو أنّها تخصّها وحدها، وتعامل البطلاتُ في الكتب -كما في الواقع- على أساس أنّ الأزمة أو المظالم التي تتعرّض لها لا أحد معنيٌّ بمحاربتها سواها، ولن يشعر بها سواها. الطريقة التي نطرح بها قضايا المرأة لها دورٌ كبير في صياغة ردّة الفعل عليها، إذ إنّ الأساليب النمطيّة ليست سوى اجترار للمظالم نفسها. أعتقد أنّ الكتابة عن المرأة يجب أن تتحرّر أيضًا من شكلها التقليدي، وتنقلب على نفسها، كي لا تبدو قضيّة المرأة كجزءٍ من كُلّ وإنّما ككلّ يشمل الجميع. وهنا أتبنى طرح سيمون بوفوار عن المرأة، في كتابها «الجنس الآخر»، وأحاول ترجمته وممارسته في الكتابة على أنّها ذاتٌ وكيان، بغض النظر عن الخصوصيّة التي تُربط بها على أساس الجنس. وجود المرأة في الكتب، كرمزٍ إنساني بحت، أمرٌ مهمّ وجوهري، لتخليصها من كذبة الخصوصيّة تلك، وتحريرها من أدوارٍ يبدو فيها الرضوخ أمرًا لا مفرّ منه. جميعنا ككتّاب، وليس فقط ككاتبات، معنيّون بالتجديد في الطرح والأسلوب.

تناولتُ في روايتي الثانية «أعياد الشتاء»، على سبيل المثال، صورة الإنسان الذي استمرأ الاضطّهاد وتدخّل في كيانه، فأصبح من الصعب عليه، وإن هاجر إلى بلدانٍ أخرى وابتعد، أن يعي حرّيّته ويفهم نفسه الحرّة ويتعايش معها. إنسانٌ لم يعد بإمكانه حتّى فصل الرضوخ عن ذاته. كانت إحدى البطلتين في الرواية رمزًا لهذا الصراع. وأشعر أنّني معنيّةٌ بالأثر المديد والبعيد وغير المرئي أو الملموس للدكتاتوريّات الذي تراكم عبر أجيالٍ وأزمانٍ، ولم يكن وليد هذه المرحلة. الاستبداد الديني والمجتمعي يولّد ذلك الخلل في نفوس البشر، وتختلط عليهم الأمور، فيظنّ من لا يستطيع ممارسة التسلّط في جوّ عائلته أنّه فاقدٌ للرجولة، وتظنّ المرأةُ التي تُمنع من العمل أنّ الأمر امتيازٌ لها. لقد غيّر الاستبداد دفّة الصراعات التي أريد تناولها في الكتابة، فتحوّلتُ من محاولةٍ لإثباتِ الذات إلى محاولةٍ لفهمها وتحريرها من كلّ ذلك العفن العالق بها. جدوى الكتابة أمرٌ لا يمكن الحديث عنه دون التطرّق إلى واقع القراءة حقيقةً. أن يستمدّ الكاتب عزيمته ومعنويّاته وعزاءه من خلال الكتابة فذلك أمرٌ يخصّه، لكن تبقى الكتب قاصرة إن نُبذت وتُركت ولم تتواز عمليّة الكتابة مع رغباتٍ متنامية بالقراءة وانفتاح على كلّ ما يمكن أن يقدّمه الأدب. لا أنتظر نتيجة سريعة في هذا السياق، بل أعوّل دومًا على الوقت.. فهو الذي سيكشف في النهاية جدوى كلّ هذا.

الكاتبة والمترجمة نور حريري (ألمانيا): الكتابة أداة مقاومة للنجاة ومواجهة العالم

في الحديث عن الكتابة (الذات)، لا يمكنني الانطلاق إلّا من القراءة (الآخر)، وفي الحديث عن الكتابة والقراءة (الذات والآخر)، لا يمكنني البدء إلّا من اللغة التي شاء الإنسان أن يحيا بها، يقول الشاعر الألماني فريدرش هولدرلن: “غنيّ بالمزايا، الإنسان، لكنّه.. يحيا شعريًّا على هذه الأرض”. تبدأ الكتابة بالنسبة إلي في اللحظة التي ندخل فيها، لا في اللغة، بل في بنية اللغة، أي في اللحظة التي نتحوّل فيها إلى ذوات، وندرك أنّ وجودنا مرتبط جذريًّا بالآخر، في اللحظة التي ندرك فيها أن لا كتابة من دون قراءة، أن لا ذات من دون آخر، وأن لا وجود لكلينا معًا من دون هذا البناء اللغوي الذي يجمعنا تحت سقف واحد. الكتابة، إذًا، ليست إلّا قراءة جديدة. وهي من دون أصل، لكن في ذلك الأصالة كلّها. وبهذا المعنى، تكون كلّ كتابة إبداعيّة.

في الحديث عن الكتابة، أيضًا، ينبغي التطرّق إلى مستويين من الكتابة: المستوى الأوّل هو الكتابة الوجوديّة، الآنفة الذكر، وهي حين تكتب الذات نفسها، كمحاولة لتثبيت وجودها الذي يتملّص باستمرار من بين الكلمات. فلا يكون هناك كتابة أنثويّة وكتابة ذكريّة، فالذات التي تكتب وجودها بلا جنس ولا جندر، وقد أخِذ على الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إهماله “الأنثى”، في أعماله المتعلّقة باللغة، وقد غاب عن ذهن منتقديه في هذه النقطة تحديدًا أنّ العلاقة الوجوديّة بين الذات واللغة بلا جنس. أمّا المستوى الثاني، فهو الكتابة التي أميل إلى تسميتها بالكتابة “الحضوريّة” التي ترتبط بمسألة حضورنا اجتماعيًّا وتمثيلنا سياسيًّا، بوصفنا ذواتًا منتَجة تاريخيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا من خلال اللغة.

على هذا النحو، لا شكّ أنّ هناك كتابة أنثويّة وكتابة نسويّة وكتابة ذكريّة وكتابة ذكوريّة. ففي حين تتساوى الأنثى والذكر في الكتابة الأولى، تتباين الأنثى على الذكر في الكتابة الثانية. وفي حين يُتاح للذكر أن يختار بحرّيّة إحدى الكتابتين، يُحتّم على الأنثى أن تختارهما معًا، بل يُحتّم عليها غالبًا أن تختار الثانية دون الأولى. لا تملك المرأة حرّيّة أو رفاهيّة أن تكون ذاتًا باحثة، مفكِّرة، مسائلة للوجود فحسب، فهي منشغلة باستمرار في التفكير في وجودها كامرأة، في التصدّي للقمع والعنف والاضطّهاد، وفي اكتشاف نفسها وجسدها المهمّشين والمعنّفين.

كلّ شيء في حياة المرأة سياسي، ذاتها سياسيّة، جسدها سياسي، ووجودها سياسي، وقد أدّى ذلك إلى إطلاق الشعار الشهير في أواخر ستينيات القرن العشرين “الشخصي سياسي”. وحين تقرّر المرأة مواجهة العنف الجسدي والنفسي السياسيين من خلال الكتابة، تكتشف أنّها معنّفة في الكتابة نفسها، وأنّ كتابتها أيضًا سياسيّة، ومحكومٌ عليها أن تكتب بطريقة معيّنة وشكل معيّن. إلّا أنّها من خلال هذه الكتابة السياسيّة التي لم تخترها، تستعيد موقع “الفعل”، بعد أن كانت في موقع “التبعيّة”، وتعود إلى المركز بعد أن كانت على الهامش، وتنطق من جديد بعد أن كانت مكتومة الصوت.

أما على المستوى الشخصي، كامرأة، ربّما لم تتعرّض في حياتها لما تعرّضت له غيرها من النساء من عنف جسدي، إلّا أنّها ابنة ثقافة عنيفة بصورة عامّة ومعنِّفة للمرأة بصورة خاصّة، وقد استبطنتْ ما استبطنت من المجتمع، فلم أجد حتّى هذه اللحظة أداة مقاومة أجدى من اللغة، وطريقة أنجع من الكتابة للنجاة ومواجهة العالم. في الكتابة، ينجلي المشهد النفسي، فيصبح ممكنًا للمرأة تحديد موقع العنف أو المشكلة تمامًا، ومن ثم مقاربتها بطرائق مختلفة. في الكتابة ينكشف عمق العلاقة بين النفس واللغة التي تحدّث عنها التحليل النفسي الذي اكتشف بدوره أهمّيّة الكلمة في بناء اللاشعور. من الكتابة، يفهم المرء الكلام، لا العكس. وأنا أنتمي في هذه النقطة إلى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي رأى أنّ الكتابة ليست وعاءً للكلام فحسب، بل تكون سابقة عليها.

كيف يمكن للكتابة أن تغيّر واقع المرأة الكارثي المؤلم؟! أعتقد -مع الأسف- أنّ الكتابة لا تغيّر الواقع بسهولة، فعمليّة تغيير الواقع عمليّة تراكميّة طويلة الأمد، تتدخّل فيها عوامل سياسيّة واجتماعيّة عدّة، لكن يمكن للكتابة أن تغيّر المرأة نفسها، فتجعلها أكثر قدرة على فهم الواقع ومواجهته، أكثر جرأة على التصدّي للعنف والاضطّهاد المُمارس عليها، أكثر فهمًا لذاتها وأكثر قدرة على المطالبة بحقوقها واختيار ما تريد.

  • الطبيبة الروائيّة هيفاء بيطار (فرنسا): نساء سوريّات بلا حدود

أفهم الكتابة كوسيلة للخلاص وكشهادة على العصر، وكنتُ دومًا أصنف بأنّني كاتبة أنثويّة، أي أن موضوع المرأة ببعدها الإنساني يحتلّ الأولوية في كتاباتي، أذكر -على سبيل المثال- أنّ روايتي الأولى كانت شبه سيرة ذاتيّة عن معاناتي في المحاكم الروحيّة المسيحيّة، وهي رواية «يوميّات مطلّقة»، ولكنّ هذه السيرة الذاتيّة لاقت صدى إيجابيًّا جدًا، لدى شريحة كبيرة من النساء اللاتي أجمعن على العبارة التالية: “لقد عبّرتِ عن مشاعرنا”. ثمّ بدأتُ أكتب عن نساء في ظروف حياتيّة مختلفة في قصص قصيرة وروايات، ولكن حين بدأت الثورة السوريّة، استوقفني وضع المرأة فهي أمّ الشهيد أو القتيل في معتقلات النظام أو ضحيّة الفصائل المتشدّدة، وهي حبيبته وزوجته وأخته، وكتبت كتابين من وحي الثورة السوريّة هما: «وجوهٌ من سوريا»، و«طفل التفاح»، وكتبت عن نساء تاركة أسماءهنّ كما هي، من “أم كفاح” التي مات ابنها مذبوحًا على أيدي الجماعات المتطرّفة، إلى “نوال” التي لديها ابن مُختطف وابن شهيد، إلى “هلال” التي نزحت من ريف حلب إلى اللاذقية، بعد أن دُمّر منزلها بالقصف، إلى “هبة” أخت إسماعيل الذي مات في المُعتقل تحت التعذيب، إلى العديد من الأمّهات الثكالى والأرامل اللاتي وجدن أنفسهنّ وحيدات مع جرح عميق ومسؤوليّات متعاظمة من العناية وإعالة الأطفال والأهل كبار السنّ، لطالما استوقفني (عيد الأم) و(عيد الشهداء) في سورية، حيث إنّ طقوس العيدين تتمّ في المقابر، مع أضرحة الشهداء الأبطال أو الذين قضوا تحت التعذيب، وأحيانًا لا تكون هناك جثة بل شهادة وفاة فقط.

ممنوع على المرأة أن تنهار في مجتمعنا العربي، فهي التي تعطي دومًا، وهي حجر الأساس في الأسرة، وهي مُقدّسة فقط حين تكون أمًّا، لأنّ الأمّ هي اللامنتهى في الحبّ والعطاء والتحمّل، “نوال” بقيت تعمل خادمة، على الرغم من أنّ ابنها شهيد وابنها الآخر مُختطف منذ سنوات ولا تعرف عنه شيئًا، كانت تجد الهمّة لتعمل كلّ يوم خادمة في البيوت كي تُعيل أحفادها! من أين كانت تستمدّ قوّتها وقدرتها على الصمود؟ كذلك “أم كفاح” التي رأت صورة ابنها مقطوع الرأس، تابعت عملها كموظفة في مؤسّسة التبغ. هؤلاء النسوة وغيرهنّ يُمثّلن شريحة واسعة من نساء سورية، وأظنّ أنهنّ تجاوزن مرحلة الألم ووصلن إلى مرتبة الجبابرة، حيث لا يُهزم الإنسان مهما كان المصاب كبيرًا.

كنتُ أشعر بمسؤوليّة وحماسة كبيرة للتحدّث عن نساء سورية الصامدات، المتجاوزات لعتبة الألم والمأساة، وكنت أنحني تقديرًا لهنّ، ولألمهنّ المُقدّس، وكنت أشعر بواجب أن أنقل قصصهنّ ومأساتهنّ إلى العالم كلّه، كنّا أيقونات الألم والمأساة. وكنت أشعر بشيء من الرضا وراحة الضمير حين أكتب عنهنّ، وأظنّ أنّ مهمّة الكاتب أن يكون شاهد عصره وضميره. فالكتابة في جوهرها شرف، كما يقول ألبير كامو. وأنا كنت أشعر بشرف الكلمة الصادقة والحرّة، حين أكتب عن نساء وطني سورية، حين أصفهنّ وهنّ يحضنّ جثث أبنائهنّ أو بقايا الجثث، أو مجرّد صور لهم، ثمّ يتابعن حياتهنّ متعايشات مع جرح بمساحة وطن، مع قلب متخم بالألم، ولكنّه غير مُنكسر لأنهنّ يجدنّ القوّة الأسطوريّة لمتابعة الحياة من أجل أمل يلوح من بعيد، من أجل أطفال من ماتوا. وكنت اسميهنّ نساء بلا حدود، كما أنّ هناك أطباء بلا حدود.

نساء سورية المفجوعات بأولادهنّ وأزواجهنّ لم ينهزمن، حملن الصليب الثقيل، واستأنفن رحلة درب الآلام صاعدات من أجل قيامة وطن وأطفاله اليتامى من الجحيم. جحيم الحرب القذرة حيث العالم كلّه خذل الثورة السوريّة.

الكاتبة والناقدة الأكاديميّة هيڤا نبي (ألمانيا): النبش في المسكوت عنه

إنّ التساؤل عن جدوى الكتابة بالنسبة إلى المرأة يحيلُ إلى السؤال الأصل: جدوى الكتابة بشكلٍ عامّ. هذا سؤال اشتغل عليه كثير من النقّاد والروائيّين، ونطرحه جميعًا ببراءة أو بنضج على أنفسنا، فسؤال “لِمَ نكتب؟” هو من بين الأسئلة الأبرز في عالم الكتابة. ومن ضمن ما يمكن قوله في هذه الحالة هو أنّ الكتابة هي وسيلتنا لنقد الواقع وإخبار المستقبل عن الصيغة التي نودّها لحياتنا المأمولة القادمة.

لكن وسط الوضع الكارثي الذي يعيشه الشرقي عامّة والمرأة خاصّة، هل تستطيع الكتابة ترك أثر؟ هل ثمّة مكاسب، على مستوى الواقع ومشكلاته، يمكن أن تجنيها المرأة من كتابتها؟ يجب القول أوّلًا إنّ الكتابة وفنون الإبداع الأخرى لا تُحدث تغييراتٍ واضحة في زمنٍ قياسي، وعلى الرغم من ذلك، أثرها أعمق وأكبر ممّا تفعله الخطابات المباشرة، لأنّ الخطاب الذي تحملهُ الفنون عادةً يكون مُوجّهًا للوعي، وكلّ تغيير في مستوى الوعي لا يمكن مجابهته بأيّ سلاحٍ تقليدي. من هنا تأتي أهمّيّة الكتابة والفنون الإبداعيّة.

في ما يخصّ المرأة، إنّها تطمح من خلال الكتابة إلى إعطاء صورة عن عالمها، كما تراه هي نفسها، إذ إنّ الكتابة الإبداعيّة هي بالدرجة الأولى غوصٌ في الذات ومحاولة لتحليلها وتقليبها وعرضها لعين القارئ في عريها، لتنتقل بعدها من الذات إلى الآخر ومشكلات الواقع التي تجمعهما. لكن طوال تاريخ المرأة في الشرق أو الغرب لم تؤخذ كتابتها بالجدّيّة اللازمة إلّا قليلًا. وفي الحاضر، وبمقارنة مع المرأة الغربيّة، نجد أنّ حظوظ الشرقيّة قليلة في إيصال صوتها عبر الكتابة، خاصّة في القضايا الجندريّة والحقوقيّة وقضايا المرأة الحسّاسة، كالجنس أو الأمومة أو الحرّيّة عامّةً. لكنّ أهمّيّة كتابة المرأة تأتي من هذه العوائق المتراكبة تحديدًا، لأنّ هذا الرفض أو التشويه الذي تقابله كتابة المرأة ليس فعلًا يخصّ ميدان الكتابة، بل له جذور في واقعها ذاته، ويتلخّص في رفض مشاركتها والانتقاص من إسهاماتها في المجتمع وتقييدها في أدوارٍ اجتماعيّة مُحدّدة كزوجة ومربية.

ردًّا على هذا التقييد، تصبح الكتابة الإبداعيّة عند المرأة إحدى الطرق المُثلى لتغيير واقعها، فمن خلال الكتابة يمكن للمرأة إلقاء الضوء على المعوّقات والمشكلات التي تواجهها، والتعبير عن آمالها وتطلّعاتها بطريقة لا يمكن للرجل أن يدركها في منظورها الداخلي. ثمّة من يدّعي تماثل كتابة الرجال والنساء وقدرة الرجال على التحدّث بدقة عن مشكلات المرأة، إلّا أنّ هذا لا يعطي النتيجة ذاتها، لأنّ اللغة الإبداعيّة -كما يشير إلى ذلك الناقد المغربي محمد برادة- تعمل على مستويات عدّة، كونها غير مرتبطة تحديدًا باللغة التعبيريّة والأيديولوجيّة التي يلتقي فيها الرجل والمرأة، بل بالذات ببعدها الميثولوجي. إنّ قراءة السرديّة الأنثويّة قد أعطت بالفعل نتائجها، فولادة النظريّة النقديّة النسويّة التي تتمحور حول تجربة النساء، في الغرب وأميركا، قد فتحت الباب أمام قراءاتٍ للنصوص الأدبيّة جديدة كلّ الجدّة، وواجهت المجتمع الغربي بأطروحاتٍ جدليّة لقضايا المرأة والإنسان عامّةً. هذه الإضاءات التي ما كانت لتتمّ لولا التفات النساء للكتابة أكثر فأكثر، أفرزت رؤية جديدة لواقع المرأة ومعاناتها وآمالها، ونبشت في المسكوت عنه على المستوى اللغوي أو الثقافي أو الاجتماعي.

إنّ التجربة الشرقيّة، والتجربة الكتابيّة السوريّة من ضمنها، ستعطي نتائج مماثلة للتجربة الغربيّة ومختلفة عنها في الوقت ذاته: مماثلة بسبب الملمح العامّ لوضع النساء في العالم أجمع، كضحايا للمجتمعات الأبويّة الذكوريّة، ومختلفة لأنّ السياقات الثقافيّة تختلف وتتباين بين الشرق والغرب، خاصّة أنّ تجربة الحرب في سورية قد غيّرت الكثير، بل لنقل سرّعت من يقظة المرأة على واقعها المزري. ففي سنوات الحرب والدمار السوريّة، نتيجة للأعباء الجسيمة التي ألقيت على عاتق شعبٍ بأكمله، عَلَا صوت السرد النسوي بشكلٍ واضح، وهذا إنّما يشير إلى تحرك كبير في وعي المرأة ورغبتها في تشكيل واقعٍ جديد يمثّلها. فأسماء كمها حسن وروزا ياسين حسن وابتسام التريسي ولينا هويان الحسن وليزا خضر وإيناس عزام وشهلا العجيلي ولمى إسماعيل، وغيرهنّ كثيرات، هي أصوات جيل من النساء عرفن في الكتابة سلاحًا ينشدن من خلاله التأثير في واقعهنّ. ورغم أنّ هذه الكتابات لم تحظَ بعدُ بقراءات نقديّة كافية، فإنّ موضوعات الحرب والتشرذم والضياع الهويّاتي لا يغيب عنها. وإن تطلّعات النساء في أدبهنّ هذا لا تبقى عالقًا في تيمة الحرب، بل تعرض في الوقت ذاته مشكلات المجتمع السوري البنيويّة، ويركّز فيها على اغتراب المرأة في ظلِّ السيادة الذكوريّة المسيطرة، ويفتح الأفق على مستقبل أفضل، منظورًا إليه من وجهة نظر أنثويّة.

وإن أبعدنا عين الكاميرا قليلًا عن المشهد السوري الدموي، أمكننا القول إنّ الأدب لا يحمل حلوله على كفّه، بل يحفر في البنى الفكريّة للمجتمع، وهنا تكمن قوّة الأدب في إحداث الصحوة في الوعي المجتمعي. ومن بين ما يلفت النظر هنا في حالة المرأة والكتابة كسلاح، أنّ تقديم أمثولة للنساء هي أحد أهمّ المنجزات التي يمكن أن تقدّمها الكاتبات لغيرهنّ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في رواية «حيّ الدهشة» للروائيّة مها حسن، الصادرة عن “دار ممدوح عدوان” لعام 2018، نجد أنّ بطلة الرواية “هند” تتحوّل في الحيّ الشعبي الذي تعمل فيه كطبيبة، إلى أيقونة نسائيّة، بخروجها من دائرة الأدوار الاجتماعيّة الضيقة أوّلًا، وبحكمتها ونشاطها ودورها الفعال في المجتمع الصغير من حولها ثانيًا. نقرأ في الرواية هذا الأثر، كما يلي: “لا تعرف كيف وقع هذا تدريجيًّا، فوجدت نفسها وقد أصبحت مستشارة اجتماعيّة في الحارة، إذ صارت النساء يدعونها في جلسات بينهنّ… تعلّقن بها، كأنّها المنقذ لهنّ”. تُحرّك البطلة في نساء الحيّ حبهنّ لأنفسهنّ، رغبتهنّ في الخروج من أدوارهنّ الضيقة، وتُذكِّرهنّ بقوّتهنّ التي مسختها الظروف السياسيّة والاقتصاديّة في سنوات الحرب وقبلها. ولعل أبرز الأمثلة يتمثّل في الصغيرة “دريّة” التي تقتدي ببطلة الرواية “هند”، فتدرس الطب وتشقّ لنفسها حياة شبيهة بحياة البطلة: “كانت تقول لأمّها إنّ هند تمشي في الحارة كملكة، والكلّ يحبّها ويحترمها، لا لأنّها ثريّة، بل لأنّها متعلّمة. ثمّ تضيف أنّه بالعلم وحده تستطيع المرأة حماية نفسها وصناعة مستقبلها، لا بالاتكال على الزوج”. تُركّز النسويّات في قضيّة نهوض المرأة على أنّ ما تحتاج إليه الأخيرة هو وجود أمثولات يقتدين بهنّ، بدل الاستمرار في تقليد الحسناء النائمة، كما تشير إلى ذلك المفكّرة والنسويّة الهولنديّة يوكه سميت، فتقول: “لا نملك عمليًّا أمثولات واقعيّة، وأمثولاتنا الخياليّة تشكو من المعاني السلبيّة والمنتقصة”. ما تقدّمه بطلة رواية «حيّ الدهشة»، في هذا المعنى، هو أمثولة للنساء وهذه الأمثولة التي غيّرت من وعي النساء بأنفسهنّ داخل العمل الأدبي يمكنها أن تنتقل إلى وعي القارئات، فتكون أمثولة لهنّ فيبدأ وعيهنّ بالتشكّل رويدًا رويدًا، ليبدَأن بعدها بهدم كلّ البنى المتحكّمة بعالمهنّ.

لا يعني ما سبق القول إنّ التجربة الكتابيّة للرجال كانت تضطّهِد المرأة على الدوام، هناك بالفعل من حاول التخلّص من الإرث الثقافي المهمِّش أو المُضطهِد للمرأة، لكن تبقى تلك الإسهامات تنظر للأمر بعينٍ خارجيّة، أي خارجة عن التجربة الأنثويّة. إنّ كتابة المرأة السوريّة اليوم هي الباب الأوّل للعبور منه إلى عالم أكثر عدلًا. فالصوت المقموع للمرأة لا يمكنه أن يجابه الصوت الآخر الأكثري، ما لم يعمل لوقت طويل على بلورة نفسه والانتقال من الهمس إلى الصراخ والقول الجهوري. إنّ الصوت الذي يُرجّح كفّة الميزان لصالح الرجل (المُمثّل للسلطة الذكوريّة) لا يمكن مجابهته، قبل وضع الصوت النسوي على الكفّة الأخرى للميزان. وصوتان يرفضان القمع والظلم بذات الرغبة والقوّة يمكنهما أن ينهضا بالواقع على مستوياته الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة كافّة.

الروائيّة وجيهة عبد الرحمن [رئيسة جمعيّة آسو لمناهضة العنف ضدّ المرأة‏] (المانيا): الكتابة فعل حياة

في الحرب، يتقاطع الواقعي مع اللاواقعي، يتغيّر منطق الوجود الفعلي للإنسان وتختلّ القيم، والسائد فيها أنّها لا تمهل ولا تمنح الوقت الكافي للتفكير، ليس لأولئك الذين يخطّطون لها، بل لأولئك الذين ترسّخ إيمانهم بأنّه ما من شيء يستحقّ العيش لأجله، طالما أنّ العدل غير قائم. حالة فقدان أمل ولا جدوى يمكن الشعور بها وملاحظتها دون التعمّق في التفكير، لذا كان لا بدّ من مبرّر لبروز الكتابة في مواجهة العنف، على اعتبار الكتابة وسيلة لإحداث التغيير في المفاهيم والسلوكيّات، كما هي فعل حياة، المقولة التي اعتمدتها غالبًا في تذييل ما أكتبه، فعلى اعتبار الكتابة فعل حياة، يمكننا القول إنّها تقوم بمهمّة الدواء لمعالجة العلل التي يعانيها الكاتب أوّلًا، والمجتمع الذي ينتمي إليه أو أيّ مجتمع آخر ثانيًا، على اختلاف العلّل ونوع المرض، الكتابة تُشفي هكذا يُقال، بمجرد اقتناعنا بذلك؛ نتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ للكتابة جدوى، وهي وضع الإصبع على مكان الجرح، إذ إنّ الكتابة عملت وما زالت تعمل على توظيف مكوّنات شتّى لها علاقة بالإنسان، لتنسج خطابًا مكتملًا بليغًا يجيب عن الأسئلة العالقة لإضاءة جوانب وجوديّة، ولفضح المسكوت عنه في المجتمع وفي طبيعة السلطة، فهي ترصد تفاصيل غاية في الدقّة عن كيفيّة تشكّل الأفكار وتبنّي المجتمعات لها.

التغيير الذي ستحدثه الكتابة الإبداعيّة يمكن الجزم به استنادًا إلى التجارب والخبرات السابقة، لدورها في إحداث التغيير، ولكن ذلك سيكون بطيئًا بالمقارنة مع الوتيرة السريعة لمجريات الأحداث، لدرجة أنّنا بتنا نقلق، إلى حدٍّ ما، من مسألة ما سنكتبه أسيُقرأ أم لا! والحال الذي يعيشه المواطن السوري المتشرذم بين تأمين لقمة العيش أو تبنِّي أيديولوجيا خاصّة به أو ربّما في أضعف الأحوال الانخراط في تيّار ما للبقاء على قيد الحياة، والحال كذا سيكون عمل الرواية شاقًّا في إيجاد أجوبتها، لستُ هنا بصدد وضع العصي في الدواليب، إنّما أريد توضيح أنّ التغيير يكمن في العمل على المناطق الأشدّ قسوة وظلمًا في العالم، لذلك، فإذا كان علينا الكتابة من أجل إحداث تغيير ما، فعلينا بداية فهم أنّ التاريخ يعيد صياغة بعض المفاهيم بصورة جديدة، على أنّه طوال السنوات الماضية من وقوعه في شرك الحضارة وفق مفهوم المتشدّدين دينيًّا كان يجترّ مفاهيمه الغامضة، ليعيد إنتاجها بصورة غير بعيدة عمّا كان عليه في السابق خاصّة في ما يتعلّق بالنساء، على أنهنّ في كلّ حرب من أهم الغنائم التي يظفر بها المحاربون. وفي زمن ثورات الربيع العربي، وقعت النساء فريسة لتلك المفاهيم التي أراد البعض بها صورة نمطيّة أخرى مغايرة عمّا أصبحت عليهنّ، فاعتُبرن غنائم حرب وعرضة لوسائل استباحتها من قبل الذين أرادوا تكريس الصياغة الجديدة للدين، بمعنى أنّها كانت ولا تزال الخاسر الأكبر، كيفما نظرنا إلى صورتها وموقعها في الحرب. إنّ ذريعة إعادة صياغة الدين الإسلامي أو إعادته إلى مساره الحقيقي الذي كان قد انحرف عنه، نتج عنها ما جعل المرأة تدفع الثمن أضعافًا، والمعاناة لم تكن مختلفة عند الروائيّة التي راحت تعاني الأزمة بمقدارين أكثر من غيرها، إذ إنّها كانت في مواجهة العنف والتمرّد على الأعراف والتقاليد والسلطة الذكوريّة والاستبداد الديني، لذلك قرأنا نتاجات لمبدعات سوريّات سلّطن الضوء على معاناة المرأة بشكلٍ عامّ في المجتمعات الذكوريّة، من منطلق أنّ الكتابة الإبداعيّة قد تغيّر الواقع الكارثي، عندما تثور عليه وتكشف عورته وتسلّط الضوء على الجوانب المظلمة فيه، وذلك بدفع شخوصها إلى الاستقراء والاكتشاف والتفكير، وتدفعهم إلى تخطّي عتبة الحلم والدخول في معترك الحياة ومعايشته من أجل كشف التناقضات والعمل على تغييره.

التغيير يصنعه الروائي بنفسه من خلال شخوص عمله التي تؤدّي دورها المستنبط من المقدّس والغيبي والواقعي، فهي تعتمد مبدأ تعويض الهزيمة في الواقع، وتستبدلها بطرح الأسئلة من أجل النجاة. إن الوقوف على التفاصيل الجزئيّة والدقيقة لا يشترط أن تكون مستمدّة من بيئة الروائيّة أو حياتها، وإنّما قد تعتمد على خبراتها ومعرفته بالأزمنة والأمكنة، بالرغم من أنّها في معظم الأحيان تُنسب إلى حياتها الخاصّة، وتُفسر على أنّها قصصها التي عاشتها بالسرّ، الاتّهام الذي لا تملك الروائيّة حياله أيّ وسيلة دفاعيّة، ويعتبر في أضعف الأحوال تعنيفًا يُخضِعها لشرطها الأنثوي، حتّى أنا لم أكن بمنأى عن هذا الاتّهام، ولكن ذلك لم يكن بالتحدّي الكبير بالمقارنة مع باقي التحدّيات والمعوّقات، طالما أنّ الغاية تبرّر الوسيلة.

أصدرت رواية «الزفير الحار» عام 2011، وقُرِئت على أنّها نبوءة للثورة، استحضرتُ فيها تجارب نسوة سجينات في سجن مدينة الحسكة، نسوة حقيقيّات مدانات بمختلف أنواع التّهم، ثمّ أحدثت موازنة ما بين تهم تلك النسوة، وتهمة بطل الرواية الذي كان معتقلًا سياسيًّا في زمن الأسد الأب، والراوية كانت امرأة عانسًا في عقدها الرابع.

 وفي رواية لالين كاترين، تدفع ثمن موروثها الديني وتبعاته الاجتماعيّة بخسارتها حياتها وفلذات كبدها، أولادها الذين لم تستطع فعل أي شيء حيالهم سوى الرحيل عنهم. ثمّ كتبتُ رواية (العبور الخامس) في ألمانيا، كنتُ فيها المرأة التي قادت فريقها إلى الوصول هربًا من موت أكيد عبر تحدّيات غاية في الخطورة، إنّها سيرة امرأة واجهت العنف في زمن الفجائع، لتنتصر ذاتها التوّاقة إلى الحرية. وبعدها جاءت رواية (كعبٌ عالٍ) الصادرة قبل أيام، المرأة فيها، وهي الشخصيّة الأساسيّة، ملهمة لنسوة كثيرات لن يبالين بما يتعرضن له من أزمات نفسية أو جسدية، نساء سيعملن دومًا من أجل النجاة. في كلّ أعمالي (رواية، قصّة، شعر)، حاولت أن أطرح الأسئلة العالقة في ذهن الكثيرات والكثيرين الذين لا تقلُّ معاناتهم عن معاناة المرأة، إذا نظرنا إليها من زاوية المكان والزمان، وكونهم كائنات بشريّة لها الحقّ في الاستحواذ على مساحتهم في الحياة.

 يبقى أن أتحدّث في وجهة نظرٍ دأبت على الدفاع عنها، لأقتنع أخيرًا بضرورة تغييرها لصالح الراهن المؤلم الذي نعيشه، سواء الذين هاجروا أو الذين ظلُّوا في الوطن، وهي أنّ الكتابة عن حدثٍ ما يزال مستمرًّا، كمن يقطف تفاحة غير ناضجة من شجرة تفاح مثقلة بثمارها، ويغصٌّ بأوّل قضمة له، ولكن ما يحدث من أهوال، في مناطق الحروب والنزاعات في الألفية الثالثة التي نحن شهود عيان عليها، لا أملك حياله سوى أن أغيّر من وجهة النظر تلك، إذ بات الأمر خارجًا عن السيطرة، وفي ظلّ هذه الشرذمة الإنسانيّة، حيث المواطن السوري بات معلّقًا في مكانٍ مجهول، هذا الضياع الشائن والذل الغارق في نخر كرامته يدفع الكاتبة والكاتب إلى ألا ينتظر نضوج التفاحة، بل عليه خلق مناخ وظروف تسرِّع نضجها، كوننا أيضًا ضحايا الاستبداد السياسي والديني والقمع الاجتماعي بموروثه الثقافي، علينا إيجاد صيغ جديدة لمحاكاة ثورات العنف ومحاولات الرجوع بنا إلى المربع الأوّل.


[1] جاك باريزو Jacques Parizeau (1930-2015 ): سياسي واقتصادي كندي، من أبرز مهندسي الثورة الهادئة La révolution tranquille.

Source مركز حرمون للدراسات المعاصرة
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل