لا يكاد المرء يتعرف على نوع من الآلام والأوجاع إلا وأمكن العثور عليه لدى السوريين، الذين قاسوا وعانوا ألوان العذابات، أينما كانوا، وكأنها قد تعلقت بأعيانهم وشخوصهم؛ عذابات على الهوية! هي آلام لا تحصى، للأسف، منها ما هو على مساحة الوطن، ومنها ما يغطي الروح، ومنها عابر للقارات، يستحق كل منها أن يفرد له سِفر بكامله، لكننا نطرق بعضاً منها ههنا.
وجع المعيشة
لم يقتصر ضنك الحياة وصعوبة تأمين مستلزمات المعيشة ابتداء بالضروريات على من بقي في سوريا، سواء مَن ظل مقيماً في بيته، أو من اضطر للنزوح بسبب الحالة الحربية إلى مناطق يعتقد أنها آمنة ومستقرة نوعاً ما، وذلك منذ عشر سنوات، بل طال من تشرد ولجأ إلى بلدان أخرى. صور من مخيمات اللاجئين تنقل لنا المعاناة اليومية لسكانها، صعوبات في الحصول على الطعام، وندرة في الخدمات الطبية والتعليمية، هذا إذا مر الشتاء بدون طوفان يقتلع الخيام في الشتاء البارد، أو بدون حريق يلتهم خيامهم بحادث عرضي أو بفعل فاعل. إنه ذات الوجع الذي بات يقتات على ذوات الناس. فمنهم من فقد عمله ووظيفته، ومنهم من تلفت تجارته، وآخرون دمرت منشآتهم، هذا فضلاً عن هبوط قيمة العملة المحلية مقابل العملات الصعبة، وقد فقدت قوتها الشرائية كما فقدت بركتها. وبتنا نستذكر مجاعات إفريقيا، حينما نرى من يموت من الجوع وسوء التغذية، والأطفال الذين يقضون يومهم يجمعون قوتهم من خشاش الأرض ومما يمكن أن يجود به أحد عليهم، في ظل ظروف قاسية قد تودي بحياتهم أحياناً. وإذا ما جرى الحديث بلغة الأرقام فيما يتعلق بدخل الأسرة والمصاريف الأساسية وبالحد الأدنى للمعيشة، فإن الحيرة تتملكك وأنت تحاول أن تعرف كيف تستمر الحياة مع هذا البون الشاسع بين المداخيل والمصاريف؛ ويعتصرك الألم حينما تضع نفسك مكان رب الأسرة المنوط به تأمين لوازم المعيشة. ولا غرابة أن يصنف معظم السوريين دون خط الفقر حسب الإحصاءات العالمية. ولا يقتصر هذا البؤس اليومي على سكان الداخل السوري فحسب، بل يتعداه ليشمل نسبة لا بأس بها من المغتربين، نظراً للوضع الاقتصادي السائد عالمياً، وبسبب التضييق الذي يمارس على السوريين الذين يعملون على كسب رزقهم بنشاطهم وجهدهم، حيث أثبتوا تفوقاً ملحوظاً في مجال الأعمال على شعوب الدول التي لجأوا إليها.
هموم عابرة للجغرافيا
على بؤس اللجوء والتشرد، واقتلاع الإنسان من أرضه وتاريخه، ونزعه من ذاكرته ووجدانه، بات اللاجئ لا يأمن من أن تلفظه الدولة التي يمم وجهه نحوها عابراً البحار والجبال والأنهار، واختارها بإرادته أو رغماً عنه، ليعاني ألم الإبعاد ويعيش تغريبة ثانية وربما ثالثة؛ بعد أن رضي بالهم ولكن الهم لم يرضَ به. وفي واقع الأمر، يعاني جل اللاجئين في أغلب البلدان من النزعة العنصرية ضدهم، والتي تصل أحياناً إلى حد الاعتداء أو القتل، بسبب خطاب الكراهية وصعود اليمين المتطرف في بعض الدول، هذا عدا عن الغمز واللمز الذي لا تخلو منه حتى المجتمعات الإسلامية. وأما الكارثة الحقيقية فتتمثل في نية بعض الدول إعادة اللاجئين إلى سوريا بحجة استقرار الأوضاع فيها، متعامين عن رؤية حال البلد من النواحي كافة، وإن كان الجانب المعيشي لوحده سبباً كافياً لعدم إعادتهم.
أحوال “تجلط”
ما دفعني، حقيقة، لسرد صور من مآسي السوريين وعذاباتهم هو وفاة صديقي المحامي والناشط الحقوقي محمد الشلاش منذ أيام في عينتاب، وذلك نتيجة احتشاء في عضلة القلب، فارق على إثرها الحياة تاركاً اسرته تعاني ألم الغربة والتشرد واليتم. والمتابع لحال السوريين يلاحظ ازدياد حالات الوفاة بالجلطة لدى فئات عمرية لا يشيع فيها عادة حدوث الجلطات، في العقد الثالث والرابع من العمر. لكن بات هذا الأمر يشكل ظاهرة لدى السوريين، ولا شك أن القهر الذي يعيشونه، إن في الداخل أو في الشتات، يشكل السبب الرئيس وراء تلك الإصابات. إن المخلصين يحملون أوطانهم في قلوبهم، وتسري محبته في شرايينهم، فحينما تسلخ إنساناً من وطنه، فكأنما اقتلعت شرايين فؤاده مثلما تقتلع جذور النبتة من تربتها. حتى الموت أصبح له مرارته عدا عن كونه مصيبة، فالبعض لم تسمح له الظروف بأن يدفن بمقابر العائلة، ولا حتى في سوريا؛ وأما آخرون فصاروا طعاماً لأسماك البحر. وفي هذا السياق، يبدو منطقياً إدراج من ماتوا غرقاً وقهراً ضمن قوائم الذين قضوا على أيدي النظام ونتيجة لبطشه؛ فهل يوثق المختصون ذلك؟
حملة الجواز اللعين
من المعروف أن لجواز السفر أثراً وانطباعاً يختلف من بلد لآخر بحسب قوة وضعف ذلك البلد. فعندما تقع في مأزق وتبرز جوازك الأمريكي أو البريطاني مثلاً، فإنك تعامل معاملة تليق بعظمة الدولة التي تحمل جواز سفرها، وتعامل بكل احترام، حتى وإن كنت من أصول مهاجرة. وأما إن كنت من حاملي الجواز السوري، الأغلى تكلفةً والأضعف تأثيراً، فإنك تتقلب في مواجعك من ساعة التفكير في الحصول عليه، ولا تنتهي بتحقيق ذلك. فإن كنت في الداخل فعليك المرور بسلسلة من الإجراءات الورقية والمدفوعات الظاهرة والباطنة، والغربلة الأمنية، إلى حين استلام الدفتر الأزرق. وأما إن كنت من المغتربين العاملين أو اللاجئين، وكتب عليك أن ينتهي جوازك في الشتات، فليس أمامك سوى الاحتساب والصبر، وحجز موعد، والوقوف في الطوابير، وسماع عبارات موظفي السفارة ومسؤوليها (وقف بالدور ولاك، … ) التي تجعلك تشعر أنك عدت إلى أرض الوطن! ناهيك عن المبالغ المطلوبة بالعملة الصعبة. وعلى ضفاف الوجع الأخرى تمر عبر المنافذ الحدودية والمطارات فيكون التشكيك هو السائد عند تفحص الجواز السوري؛ فمن المحتمل أن يكون مزوراً، أو جرى تمديد صلاحيته بشكل غير قانوني، أو ربما تكون التأشيرة مزورة، أو أن دخول السوريين ممنوع ولو على سبيل الترانزيت. ومن الطبيعي أن يطلب منك تقديم وثائق أخرى تعزز مصداقيتك وبراءة وثائقك، ولا يمنع من تعزيزها بسيل من الأيمان المغلظة ودعوات الاستعطاف. ولا ننسى أن من بين اللاجئين من مزقوا جوازات سفرهم بعد عبورهم البحار وسجدوا سجدة شكر بعد وصولهم أرض الكفار. لقد سلب منا معنى الوطن، ولم نعد نشعر بذلك الاعتزاز به، فضلاً عن عزة جواز السفر.
أي وطن هذا الذي تشعر بانشراح الصدر حين تغادره؟
أي وطن هذا الذي تسمع فيه بكلمة (الأمن) فيصيبك الرعب؟
لا تخرج قبل أن تقول: يلعن روحك يا حافظ.
Sorry Comments are closed