محمد فتحي المقداد
*نص الشّاعر سليمان نحيلي المقصود بالدراسة:
(تشابه أسماء)
لا تخف منّي يا معشرَ النّمل
ليس معيَ جنودٌ لأحطمنّكم، ولا أسلحة ..
وتلك الحرائقُ عبر البلادِ لم أرتكبها.
الآخرونَ فعلوا ذلكَ ..
لستُ نبيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ،
وكلُّ ما هنالكَ تشابهُ أسماء ..
حتّى هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي
محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ
حروفاً تُشبه القمحَ ..
يا معشر النّملِ:
لسليمانَ النّبوّةُ ..
ولكمْ ما تبقّى من حقولِ القمحِ
بعدَ أنْ استتبَّ بها الرّمادُ
ولي ..
ليس لي إلاّ الشّبيهُ الاسمُ
وهذي اللُّغةُ،
وأحلامٌ كثيرةٌ؛
أُواجهُ بها كلَّ ذاكَ الخرابْ …
قراءة تحليلية للنص:
بالتوقّف أمام لائحة العنوان، تشابُه أسماء، موشية بالخوف لديّ، لموضوع تشابه الأسماء كما حصل وذهب ضحيّته أناسٌ أبرياء، فمنهم من قضى إلى جوار بّه، ومنهم من أنفقَ ردحًا من حياته خلف أسوار المعتقلات، لمُجرّد تشابه اسمه مع آخر، وهو دليل ثقافة الخوف التي رضعناها منذ تفتّح أعيننا في هذه الدنيا.
لكن في هذا النصّ، فهو رسالة سلام مُسالمة مُطمئنة من الشّاعر إلى مخلوقات صغيرة الحجم، ضعيفة لا تُضاهي بقدرتها الظاهرة قوة البشر، إلّا أن تكون قوّتها أكبر بفعل معجزات خارقة، كما في حالة النمل الأزرق المنتشر في بلدان الخليج العربيّ، ويقوم بقرض حديد أساسات الأبنية ذي الأحجام العظيمة.
قصّة سيّدنا نبيّ الله سليمان كما وردت في القرآن الكريم ومعروفة بتفاصيلها بطبيعة القصّ القرآني، ولكن الشّاعر هنا تماثل اسمه مع نبيّ الله سُليمان، هناك في صوت نملة عارفة عالمة خائفة على وجودها مع بني جنسها، وفيما ورد على لسانها: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ. قَالَتْ نَمْلَةٌ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) سورة النمل 18. الخوف على الوجود، والتشبّث بالحياة دافع النّملة للإنذار المُبكّر للنمل. والشاعر نحيلي يتماثل بمقاربته للنصّ القرآني: (لا تخَفْ منّي يا معشرَ النّملِ ليس معيَ جنودٌ لأحطمنّكم\ ولا أسلحة). رسالة سلام بثّها الشّاعر بداية منذ بداية قصيدته. وهي رسالة ابتدأت منذ أوّل جملة فيها، لبثّ روح السّلام والطمأنينة، خاصّة إذا عرفنا أن الشّاعر سليمان حمصيّ المنبت والمنشأ، المدينة التي عانت من الدّمار والخراب، وويلات الحرب وبالتأجيج الطائفيّ.
وهو ما عبّر عنه فيما يلي: (وتلك الحرائقُ عبر البلادِ لم أرتكبها\الآخرونَ فعلوا ذلكَ). فهو يّعلن براءته مما حدث وما زال يحدثُ هناك (تلك الحرائق)، من حرائق ليس في مدينته، بل (عبر البلاد)، (لم أرتكبْها). ليُخبرنا بوضوح تامّ بإشارته (الآخرون فعلوا ذلك)، والآخرون بعموميّتها تُفسّر نفسها بنفسها من غير عناء البحث والتمحيص.
وبالمتابعة لتدرّجات النصِّ، يقول: (لستُ نَبِيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ،\ وكلُّ ما هنالكَ تشابهُ أسماء\حتّى هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي \محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ حروفاً تُشبه القمحَ). فهو ينفي عن نفسه ادّعاء النبوءة (لستُ نَبِيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ)، وإنّما إعادة قراءة الواقع على ضوء المُخرجَات، وإعادة تدويرها شعريًّا من خلال نصّ مُتخَمٍ بالوجع المُستكنّ في دواخلنا، وماذا أملكُ بيدي لمثل هذا الشّاعر وأمثاله، وهو يتلمّس مواطن الوجع، ويتحسّس الآلام، بمحالاته لتطبيب الجِراح بِبلْسم كلماته ومشاعره، ورسائله السِّلميّة مقابل رسائل العدوانيّة، يتجلّى ذلك في قوله: (هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي \محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ حروفاً تُشبه القمحَ). بوضوح وجلاء، ولا مجال للتأويل بأي اتّجاه كان ظاهرًا أو مخفيًّا على طريقة التقيّة. أمّا استخدامه لكلمة (قمح) مرّتين، لهو خير دليل إلى حُبّه للحياة، وهو حريص على حياة الآخرين (حروفاً تُشبه القمحَ). هو لم يدّع أنّ حروفه حياة، بل تُشبه القمح لأنّه الخير والحياة والنّماء.
والتوجّه المُباشر في مجريات النصّ بخطاب جاء على صيغة النّداء المُباشر: (يا معشر النّملِ: لسليمانَ النّبوّةُ ..\ولكُمْ ما تبقّى من حقولِ القمحِ \بعدَ أنْ استتبَّ بها الرّمادُ). خطاب تفصيليّ بعد ان انعدمت حقول الحياة في بلدنا سوريّة، وما تبقّى من حقول القمح هو القليل، المُرمَدَة المليئة بالرّماد دليل الخراب، واستحالة الحياة، والسّهول والحقول المُرمَدة تبقى لسنوات طويلة عصيّة على استيعاب ما يُزرع فيها، وما حصل في بلدنا لا يقلّ عمّا حصل في ناغازاكي وهيروشيما، وانعدام الحية النباتيّة والحيوانيّة، والبشر المشوّهين بعاهات خَلقيّة. وهذا ما سمعناه بالفعل عن مواليد مشوّهة خلقيًّا بفعل الغازات السّامة المُستخدمة في الحرب.
والشاعر والكاتب والمفكّر والفيلسوف، لا يملكُ إلّا أدواته المنبثقة عن فكره بلا حِراب يقتُل بها، وهو ما عبّر عنه: (وهذي اللُّغةُ،\ وأحلامٌ كثيرةٌ؛ أُواجهُ بها كلَّ ذاكَ الخرابْ). باللغة والأحلام الورديّة يُقاوم بها الخراب والموت.
الشاعر سليمان نحيلي يُغرّد للحياة للمستقبل بقصائد لم تأت من رفاه فكريّ، بل من خُلقت كلماته، وأفكاره من رحم المُعاناة. وبالعودة لمحتوى النصّ على قِصَره بالتتبّع نجد: تكرار كلمات بعينها، مثل (بكلماته (تشابه، تشبه، التّشبيه)، (النمل: ثلاث مرّات)، (النُّبوّة ونبيًّا، اسم سيلمان دليل النُبوّة، أي ثلاث مرّات)، (النمل: ثلاث مرّات)، (القمح: مرّتان، والحقول منابت القمح، ليكون ثلاثًا)، (لأحطمنّكم، الحرائق، الخراب: ثلاث أيضًا) وهي دليل على (الأسلحة) القاتلة التي جاءت بكلمة واحدة مفرده، وهو دليل على أنّ كلّ ما حصل، ويحصلُ من التحطيم والحرق والخراب، هو بفعل سلاح واحد، بيد واحدة أيضًا.
بالتوقّف عند قِصَر النص المُقتضب، هل هذا التكرار أخلّ هبُوطًا بقيمة القصيدة؟. أرى أنّ النصّ جاء مُتماهِيًا حابِيًا على محمل التناصّ.
Sorry Comments are closed