* عمر إدلبي
منذ انطلاقتها.. ظهرت على الثورة السورية أعراض مرض خطير، توهم البعض أنه ميزة إيجابية ربما تقيها من الاستهداف الأمني وضربها في مقتل، لكن ظاهرة “تعدد الرؤوس” بل وتكاثرها بشكل مخيف مع مرور الوقت بدأت تصبح مشكلة مستعصية على الحل، وهددت وما زالت تهدد فعاليات الثورة على اختلاف أنواعها، المدني منها والعسكري، وبالتأكيد السياسي.
ولأن التعميم خاطئ بالضرورة، فإننا نزعم أن “معظم” من عمل في الثورة السورية بدا فرداً واحداً، يغني على ليلاه، ومضت هذه الثورة العظيمة في اتجاهات شتى، معظمها خطر يهدد استمرارها وقدرتها على تحقيق أهدافها.
كل ناشط بدا متشككاً في الآخرين، والشك المقصود هنا متنوع المستويات، شك في ولاء “الآخر” للثورة، وشك في قدرة “الآخر” على التصدي لمهمة ما، وشك في تحليل هذا “الآخر” لمجريات الأمور واستنتاجاته عنها.
قائمة الشكوك بالآخر التي لا تنتهي، تبدأ بالأفراد، وتتكرس بعصبيات متنوعة، حزبية وعرقية ومذهبية ودينية، بل وأخطر من ذلك، حيث ظهرت عصبيات مناطقية وعشائرية وعائلية حتى، تحولت في حالات كثيرة إلى صدام دموي، نزف فيه سوريون محسوبون على الثورة دماً غزيراً في المكان الخطأ، وبلا هدف نبيل دائماً.
صراعات قدمت لنظام الأسد خدمات كبيرة في بعض المناطق والمراحل، مكنته من ضرب الحراك الثوري في تلك المناطق لفترات من الزمن، وأفقدته الحاضنة الشعبية مرات كثيرة، وعززت ادعاءات مؤيدي الأسد بأن احتراب الأطراف المحسوبة على الثورة واقع، ومسألة موثقة بأدلة دموية، مؤجلة في بعض المناطق ولكنها نار تحت الرماد، ثمة أسباب كثيرة لتوقع تطاير شررها في أي وقت، والأطماع الظاهرة لدى البعض، والكامنة لدى البعض الآخر ستفجر هذا الاحتراب لا محالة.
أولى ملامح التشرذم هذا ظهرت في محاولات ناشطي الثورة تأسيس كيان جامع للتنسيقيات في مطلع الشهر الثاني من الثورة، نيسان/ابريل 2011، آنذاك كان لدى ناشطي الثورة فرصة لم تتكرر لتأسيس هذا الكيان الثوري القيادي الموحد، لكن “الشكوك” عصفت بهذه المحاولة، وتطاير شرر الانقسام سريعاً، وظهرت مؤسستان ثوريتان جمعت كل واحدة منهما عدداً من التنسيقيات، لم يكن في برنامجيهما أي اختلاف ذي معنى يبرر هذا الانقسام، وحدها ظاهرة “الرؤوس المتعددة المتشككة بالآخر” كانت السبب وراء هذا التشرذم الضار جداً.
ولم يختلف الحال أبداً عندما تنادت القوى الثورية والسياسية المعارضة لتأسيس كيان سياسي يمثل الثورة، في المرة الأولى في خريف العام 2011 عندما تأسس المجلس الوطني السوري، وحصل الأمر نفسه في نهاية العام 2012 عندما تأسس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وما زال في الذاكرة صدى الصراعات التي رافقت تأسيس هذين الكيانين، صراعات مخيبة ومخجلة أيضاً، مخجلة لدرجة أن أحد الدبلوماسيين العرب الذين ساهموا في تقريب وجهات نظر “أطراف الثورة السورية” بكى بحرقة، فرحاً بتوقيع الجميع على اتفاق تأسيس الائتلاف بعد أسبوع من الصراعات.
الكيانات العسكرية الثورية لم تكن أفضل حالاً من قريناتها الثورية المدنية والسياسية المعارضة، إذ ظهر أول انقسام في بنية ما اصطلح على تسميته لاحقاً “الجيش الحر” مع انطلاق الجهود الأولى لتوحيد فعاليات الجنود والضباط المنشقين عن جيش الأسد، والثوار المسلحين المدنيين في كيان ثوري عسكري جامع، ليظهر علينا كيانان في وقت واحد في بدايات صيف العام 2011، ولاحقاً صار الكيانان هيكلين فارغين من المضمون، وبرزت على الساحة عشرات “الكتائب” الثورية، ومن ثم “الألوية” و”الفيالق” و”الجيوش”، التي أعيت في تعددها وتشرذمها السوريين والعرب والعالم، ولم تتوحد، ولا مرة واحدة، حتى الآن، رغم عشرات حالات الاندماج والتنسيق والتحالف التي حصلت بينها خلال سنوات الثورة.
قد يكون لدى نظريات علم الاجتماع المعنية بتفسير وتحليل الفعل الاجتماعي ما يوضح لنا أسباب ظاهرة عدم الثقة بالآخر لدى ناشطي الثورة السورية والانخراط في أنشطة ينظمها “الآخرون”، وفي هذا المضمار يرى منظرو منطق العمل الاجتماعي، بما هو عمل يهدف إلى التغيير، أنه لتحقيق أهداف التغيير، لا يكفي وجود هدف مشترك بين الأفراد، فالمشاركة بين الأفراد والفئات المجتمعية الأخرى لإيجاد رؤيا مشتركة وبرنامج للتغيير تعتبر في غاية الأهمية، وهذه المشاركة لم تكن في أي وقت من الأوقات فعلاً واعياً عقلياً في أوطاننا، بل إكراهاً وتذويباً بالعنف، لا يترك للإبداع الفردي مساحة، ولا فرصة للنمو، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى فإن الفردية في مجتمعنا لم تحصل في ظل أنظمة القمع المتعاقبة والمتنوعة على دلالاتها الإيجابية، ولأن مجموع المعارف والأفكار والقيم والأفعال التي اكتسبها الفرد السوري من الجماعة خلال حكم الأنظمة الاستبدادية والتي ارتبط بها وغذت نظرته وتصوراته للعالم وللواقع لم تكن إلا حصيلة ممارسات الإقصاء والإلغاء والاضطهاد، فإن هذا الحال دفع السوري لابتكار حلول احتيالية غير تشاركية لجملة مشاكله والتحديات التي واجهها، فغدت فرديته منتجة لحلول الخلاص الفردي، ولو على حساب خراب عكا.
ومهما يكن.. لا يبرر هذا السبب – على وجاهته – أن يستمر ناشطو الثورة في مقاربة الفشل وتشخيصه فقط، وهم يخسرون الرهان باستمرار مع كل محاولة للعمل كفريق، فالخطب جلل، وقلة الوعي في المراحل الخطرة من تاريخ الأمم تكاد تكون أقرب للخيانة منها إلى مجرد وصفها بقلة الخبرة، فالوقت السوري من دم، وآن أن يتجاوز الجميع مصالحهم الضيقة وشكوكهم المتبادلة، فواقع الحال يقول أن الخسارة ستكون خسارة وطن، لا أقل.
* نقلاً عن: “مدونات الجزيرة”
Sorry Comments are closed