أوضح مراقبون حقوقيون أن النظام السوري بدأ يعتمد نمطا جديدا للانتقام من اللاجئين والمهجرين والنازحين الذين رفضوا البقاء تحت سطوته.
وقال حقوقيون إن نظام بشار الأسد أطلق مزادات علينة “لمصادرة ملكية” الغائبين أو “الانتقام” من المعارضين أو غير الراغبين بالعيش في ظله.
فقد فوجىء سلمان قبل أكثر من شهر بانتقال أرضه الخصبة إلى شخص غريب فاز بعقد لاستغلالها في مزاد علني أجرته مؤسسة تابعة للنظام السوري على مساحات زراعية واسعة في شمال غرب البلاد.
ليس وحده
وليس سلمان، اللاجىء في اليونان، الوحيد الذي يتعرض لمثل هذا. فقد أفاد نازحون آخرون من شمال حماة وجنوبها ومن جنوب حلب، أنهم علموا بحصول مزادات لتضمين أراضيهم الغنية بأشجار الزيتون والفستق والحبوب، من خلال لوائح موقعة من جمعيات فلاحية تُحدد مواعيد إجرائها، أو من خلال معارفهم ممن بقوا في المنطقة التي تسيطر عليها قوات النظام.
وفرّ سلمان (30 عاماً) قبل سنة تقريبا من قريته البرسة في ريف إدلب الجنوبي على وقع آخر هجوم لقوات النظام ضد الفصائل المعارضة في المحافظة في بداية 2020.
ولم يقو على العيش في مخيمات النزوح المنتشرة على طول الحدود مع تركيا، فقرر خوض رحلة التهريب الخطيرة إلى أوروبا. ووصل قبل بضعة أشهر إلى اليونان لينضم إلى أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في جزيرة كريت، وبدأ يعمل مياوماً في قطاع البناء.
وترك سلمان خلفه 150 دونماً يملكها مع أشقائه الأربعة. واعتاد أصحاب الأرض في شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام أن ينثروا البذور فيها لينبت الشعير والكمون والعدس وحبة البركة، على أمل أن تعود عليهم بأرباح تتراوح بين 10 و12 ألف دولار.
لكن هذه السنة اختلف الامر كلياً. ويروي لوكالة فرانس برس عبر الهاتف، مفضلاً استخدام اسم مستعار، “في نهاية الشهر العاشر، فوجئنا بمزادات علنية… قرأنا أسماء القرى على لوائح لتضمين (تأجير) أراضي كل شخص غير متواجد في أرضه في جنوب إدلب”.
وتشير اللوائح التي نشرها اتحاد الفلاحين في إدلب على صفحته على “فيسبوك” في أكتوبر، إلى أن المزادات تجري على “الأراضي الزراعية لغير المتواجدين أصحابها في مناطق سيطرة الدولة” من المديونين للمصرف الزراعي.
وينفي سلمان، كما نازحون آخرون تحدثت معهم فرانس برس، أن تكون عليه أي ديون للمصرف الزراعي، ويعتبر ذلك “مجرّد حجة”.
ويقول “خسرنا أراضينا في اليوم الذي تهجرنا فيه.. وفوق هذا كله يأتي أحدهم اليوم ليتصرّف بها. أرض تركها لنا أجدادنا وسنتركها لأبنائنا، بأي حق يأتي أحدهم ويأخذها؟”.
ولا يقتصر الأمر على اتحاد الفلاحين، إذ تنظم لجان أمنية وعسكرية محلية تابعة للنظام، أيضاً مزادات، وفق ما تقول منظمة “اليوم التالي” المعارضة والمعنية بدعم الانتقال السياسي في سوريا، والمرصد السوري لحقوق الإنسان.
“اعتداء سافر”
وتسبّبت هجمات عدة شنّتها قوات النظام بدعم روسي خلال السنوات الأخيرة بنزوح مئات الآلاف الذين لجأ عدد كبير منهم إلى مخيمات في شمال إدلب ومحيطها.
ودفع الهجوم الأخير مطلع العام نحو مليون شخص للنزوح خلال ثلاثة أشهر. وقد عاد نحو 235 ألفاً منهم فقط إلى مناطقهم، غالبيتهم بعد اتفاق لوقف إطلاق النار بدأ في مارس.
وتقول ديانا سمعان، الباحثة في الملف السوري لدى منظمة العفو الدولية التي اتهمت النظام بشنّ هجمات ترقى إلى “جرائم ضد الإنسانية” في إدلب وحماة وحلب، “بعد القصف لا تزال الانتهاكات التي تطال المدنيين مستمرة لكن بطرق مختلفة”.
وتضيف “ما يحصل عبر هذه المزادات هو استغلال واضح للتهجير من الناحية الاقتصادية، ومصادرة للأراضي بطريقة غير قانونية ومخالفة للقانون الدولي”.
وفي 2018، أصدرت الحكومة السورية القانون رقم 10 الذي يتيح لها إقامة مشاريع عمرانية جديدة على أملاك يكون أصحابها إجمالاً غائبين، على أن يُعوَّضوا بحصص اذا أثبتوا ملكياتهم عبر تقديم وثائق الملكية مباشرة أو عبر وكيل خلال عام من إعلانها منطقة تنظيمية. ولا يتسنّى لنازحين كثر أخذ أوراقهم الثبوتية أو مستندات تثبت ملكياتهم عند فرارهم تحت القصف.
وتعرض القانون آنذاك لانتقادات واسعة من منظمات حقوقية. ويبدو أن المزادات تندرج في الإطار نفسه.
ويقول المستشار القانوني في منظمة “اليوم التالي” القاضي أنور مجنِي”المزادات ظاهرة جديدة تخص أراضي عائدة لسوريين خارج مناطقهم وكأنها نوع من أنواع العقاب”، معتبراً أنها تشكل “انتهاكاً لحق الملكية الذي ينص عليه القانون ويضمن حقوق الاستعمال والاستغلال والتصرف للمالك”.
ويضيف مجني، وهو من ممثلي المجتمع المدني في اللجنة الدستورية التي تعقد اجتماعات في جنيف برعاية الأمم المتحدة، أن “المزادات قد لا تؤدي إلى نقل الملكية، لكنها اعتداء على حق الاستعمال والاستغلال”.
ويوضح أن جزءاً كبيراً من الفلاحين يأخذون قروضاً عادة من المصرف الزراعي، لكن الكلام عن مزادات بسبب عدم تسديد القروض “يمكن أن يكون منطقياً لو كان المصرف الزراعي هو من اتخذ الإجراءات لاستيفاء ديونه” التي “يجب أن تتم بإشراف من القضاء وهناك أصول وقوانين تنظمها، الأمر الذي لم يحصل”.
ولا يعد “اتحاد الفلاحين طرفاً في القرض” وفق مجني، بالتالي “لا يحق له أن يباشر الاجراءات”. ونطبق الأمر ذاته على اللجان الأمنية والعسكرية التي “لا وجود لها في القانون وبالتالي لا يُسمح لها بوضع يدها على أملاك الناس”.
وفي وثيقة حصلت عليها “اليوم التالي”، تحدّد لجنة إدارية منبثقة عن اللجنة الأمنية والعسكرية في حلب يوم 22 نوفمبر موعداً لمزاد علني لزراعة أراض في جنوب غرب المحافظة، من دون أن تأتي حتى على ذكر المصرف الزراعي.
وتذكر اللجنة أنه يجدر على الفائز بالمزاد تسديد المبلغ نقداً بعد الحصول على وصل من محاسبها.
“أردت استئجار أرضي”
وحاول حافظ أمير (38 عاماً) الذي فرّ من غرب حلب الى تركيا إنقاذ أرض كان يزرعها بالشعير وحبة البركة والكمون وغيرها، عندما عرف بموضوع بأمر مزاد يشملها، عن طريق جاره. فعرض على هذا الأخير دخول المزاد، على أن “أدفع أنا الإيجار، وبعد الحصاد نتقاسم الأرباح”.
ويضيف، مفضلاً استخدام اسم مستعار، “مجرد أن أعرض عليه أن أستأجر أرضي كان أمراً قاسياً جداً.. أردت أن أسترزق منها بدلاً من أن أفقدها تماماً”.
وفي النهاية، فاز في المزاد قبل نحو شهر ونصف شخص “له أقارب في فرع المخابرات” في المنطقة، وفق أمير.
ويعمل الوالد لخمسة أولاد أكبرهم 12 عاماً اليوم مع اثنين من أبنائه في قطاف الزيتون مقابل 10 ليرات تركية يومياً (1,27 دولار).
وإن كانت الوثائق بدأت بالظهور مؤخراً، يقول نازحون والمرصد السوري إن المزادات بدأت قبل أشهر خصوصاً في حماة.
ويقول أبو عادل (54 عاماً) إنه نزح من قريته كفر زيتا في شمال حماة لقربها من خطوط التماس العام 2012، من دون أن ينقطع عن أراضيه المزروعة بالفستق الحلبي. كان يتردد عليها ويرعاها، ويبذل جهداً لتعود عليه بموسم ناجح تراوح مردوده ما بين 23,8 و28,8 ألف دولار.
منذ سيطرة قوات النظام على كفرزيتا صيف 2019، لم ير أبو عادل أشجاره، ولكنه لم يستسلم وتواصل مع أشخاص في القرية أرسل لهم تكاليف الاهتمام بها وحراستها، غير أنه لم يتمكن من قطاف الموسم، إذ عرضت أرضه في مزاد في يوليو فاز به أشخاص “موالون” للجان الأمنية التي نفذته.
ويختم أبو عادل كلامه بأسى “لم يكن بمقدورنا عمل شيء.. جميعهم عصابة واحدة”.
عذراً التعليقات مغلقة