البطاطا والسياسة في كفرزيتا

معاذ عبد الرحمن الدرويش7 ديسمبر 2020آخر تحديث :
معاذ عبد الرحمن الدرويش

كما لا تخلو مائدة من موائد أهل كفرزيتا بنوع من أنواع أكلات البطاطا، فإنها تكاد لا تخلو جلسة من جلساتهم إلا وتكون للسياسة نصيب من أحاديثهم، رغم حظرها وخطورتها، فأهالي كفرزيتا مدمنون سياسة وبطاطا في آن معاً..

و لعل أجمل أيام يقضيها الكفرزيتاويون تكون في فصل الشتاء حيث يكون فصل جني محصول البطاطا.. حول “الصوبا” تكتمل حلقات الأحبة والأصدقاء، ومع اشتعال لهيبها تلتهب أحاديث الذكريات القديمة والأمنيات الجميلة وشؤون السياسة وشؤون البطاطا.

عاش الكفرزيتاويون أجمل سنين عمرهم مع البطاطا رغم كل الكدر السياسي الذي أحدثه نظام الأسد في حياة السوريين، حيث كانت سهرات الشتاء العامرة حول المدفأة والأحاديث الشيقة عن البطاطا وأسعارها وأنواعها، وبينما تكون المدفأة مليئة بحبات البطاطا وهي تشوى على نار “الصوبيا”.

و يتخلل أحاديث البطاطا الكثير من الأحاديث السياسية والتي تكون معظمها رفضاً وانتقاداً لحكم آل الأسد الذي اعتقل العشرات من أبنائهم منذ الثمانينات وهم مغيبون في السجون والمعتقلات ولا يعرفون من هو حي ومن هو ميت منهم؟.

حيث كانت البطاطا حاضرة في أعمالهم وفي سمرهم وعلى موائدهم وقد تفننوا في طبخها في عشرات الأصناف حتى غدت البطاطا كل شيء في حياتهم.

و كما كان للبطاطا دور رئيسي في إحداث قفزة نوعية للمجتمع الكفرزيتاوي ونقله من حالة الفقر والبؤس التي كانوا يعيشونها وعاشها من قبلهم آباؤهم وأجدادهم ، فكانت البطاطا هي الكلمة السرية المتعارف عليها لإنقاذهم من أي مطب لا تحمد عقباه بسبب سقطة لسان، فقد تعارف أهل كفرزيتا لتحريف مجرى الحديث السياسي في حالة تلمس أي شك أو خطر، حيث أنه إذا ما أسهب أحدهم في أحاديثه السياسية وتجاوز المألوف فجأة ينط أحدهم و يسأل “بشقد كيلو البطاطا اليوم؟” وإذا ما كان هناك ثلة واثقون من بعضهم وكانوا يتسارّون في أحاديثهم الناقدة لنظام الأسد، وإذا ما دخل رجل لا يثقون به و بلا شعور يبادر أحدهم بالسؤال “بشقد كيلو البطاطا اليوم؟”…

و إذا ما أحس أحدهم بسماع أي حركة خلف الشباك حتى يدير وجهه باتجاه الشباك ويسأل “بكم البطاطا اليوم؟”

والحقيقة أن البطاطا كانت بورصة بكل ما تعني الكلمة حيث يكون سعرها في كل يوم مختلف عن الذي قبله وفي أول اليوم لا يشابه آخره، وقد عاشت كفرزيتا حالة فريدة من الانتعاش الإقتصادي.

و كانت البطاطا محصول الفلاح “البرجوازي” كتعبير مجازي، بسبب تكلفة زراعتها الباهظة، ولعل جل التكلفة يكمن في سعر بذارها، وفي هذا السياق كان سعر الطن الواحد من مؤسسة إكثار البذار لا يتجاوز عشرة آلاف ليرة أي ما يعادل مئتي دولاراً، في حين كان يباع الطن الواحد في السوق السوداء ما يعادل مائة وخمسين ألف ليرة أي ما يعادل ثلاثة آلاف دولار، وبالتالي فإن أصغر مسؤول في الدولة وبمجرد حصوله على توقيع من المحافظ أو أحد الأفرع الأمنية يضع في جيبه مئات الآلاف من الدولارات وهو جالس في بيته، في حين أن الفلاح الكفرزيتاوي يركض ستة أشهر تحت الشمس والمطر والصقيع ولا ينال إلا جزءاً يسيراً مما يناله ذلك المسؤول، أضف إلى أن البطاطا مثل تجارة الأسهم ممكن أن تغنيك وممكن أن تخرب بيتك، كما حصل مع الكثيرين حيث أنه “باع الي فوقه والي تحته” لكن إما بسبب كساد السوق أو بسبب الصقيع المبكر أو بسبب المرض ضاع كل شيء.

وكان للبطاطا دور كبير في صلات الأرحام والأقارب، حيث كان معروفاً لدى أهل كفرزيتا أن الذي لا يزرع بطاطا تكون مونته أكبر من الذي يزرعها، لأن الذي لا يزرع تأتيه عشرات أكياس البطاطا كهدايا وصدقات وزكاة من الأقرباء والأصدقاء والجيران.

و كان للبراميل حضور كبير مع البطاطا في حياة أهل كفرزيتا، حيث كانوا يستخدمون براميل المازوت لسقاية البطاطا، وكانوا يغطسون البطاطا في براميل الماء لتسريع الإنتاش قبل بذارها.

لكن خلال الثورة تحولت كل براميل الخير إلى براميل موت حيث أمطر النظام المجرم مدينة كفرزيتا بعدة آلاف من البراميل المتفجرة والتي أحالت المدينة الوادعة إلى خراب ودمار شبه كامل وقد سميت “مدينة البراميل المتفجرة”.

وكان للدواليب حضور أيضاً مع البطاطا حيث كان الكفرزيتاويون يحرقون الدواليب حول حقول البطاطا في الليل لحمايتها من الصقيع المبكر، لكن مع الثورة لم يترك الكفرزيتاويون برميلا في المنطقة إلا وأحرقوه في سبيل تمويه طائرات النظام المجرم لكن دون جدوى.

واليوم ضاعت كفرزيتا بعد أن احتلها الأوغاد، بعد صمود أسطوري دام لأكثر من ثماني سنوات، وأهلها اليوم مشتتون ما بين خيام النزوح وبلاد اللجوء وقد قدموا أكثر من سبعمائة شهيد وشهيدة من أبنائهم وقد رووا تراب كفرزيتا الطاهر بدمائهم الزكية.

ولا يزال أهل كفرزيتا يحلمون بالعودة إلى تراب بلدتهم الطاهر، ليس مهما أن يزرعوه بطاطا أو حجارة، المهم أن يقلبوا أجسادهم فوق ذلك التراب الطاهر لعل أرواحهم العطشى تعود إلى الحياة وتتشرنق زيتوناً وحنطة وفستقاً حلبياً وقطناً وبندورة وبطاطا و… و…

التعليقات تعليق واحد

عذراً التعليقات مغلقة

  • أحمد محمد الشيخ
    أحمد محمد الشيخ 7 ديسمبر 2020 - 6:15

    نعم
    نحل بالعودة الى وطن خال من الاوغاد ونظيف من عصابة دمشق وكلابها

عاجل