* الياس خوري
كيف نحتمل عبء الذاكرة؟
منذ خمس سنوات ونحن نعيش الحاضر كأنه ذاكرة، فتصير ذاكرتنا حاضرنا.
هل علينا أن ننظر إلى الوراء كي نتذكر، أم أن الذاكرة أمامنا، ونحن لا نحيا سوى في منام طويل مصبوغ بالأسى والدم.
خمس سنوات طويلة من شدة سرعتها، وقصيرة بالهول الذي ينزف منها. لا أريد أن أناقش من يقتسمون سوريا اليوم، ويحولون الكلام عنها إلى ممسحة للكلام.
كما لا أريد أن أحلل مسارات تهجير سكان داريا، على يد سلطة تدّعي أنها تمثّل الشعب السوري!
هذا النقاش صار إهانة للكلام، ومسخرة لغوية مليئة بوحول الدم.
أريد فقط أن أسافر إلى ذاكرتي التي يصنعها القتلة كل يوم بشكل مختلف بحيث لم تعد تشبه الذاكرة، كي أرى أربع صور لأربعة أسماء، حفرت في روحي مغارة أريد أن أخبئ فيها نبضات الحياة التي ترشح من الموت السوري الكثير.
أريد أن أستمع إلى غياث مطر، وأضم أشلاء حمزة الخطيب، وأرى بعيون باسل شحادة، وأغني بحنجرة ابراهيم القاشوش المقطوعة، وأرحل معهم إلى سميرة الخليل ورزان زيتونة والأب باولو، كي أنتشل صوتي من بئر الموت والخيبة.
أرى غياث مطر حاملاً قناني الماء كي يوزعها على الجنود الذين سيقتلونه ويمزقون احشاءه، أرى ابتسامة الموت على شفتيه، نعم فالموت لا يبتسم إلا على شفاه الرجاء، وغياث مطر ابن داريا، صنع أعجوبة تحويل عصير العنب إلى ماء، كي يقاوم به عطش الناس إلى الحرية.
أنظر إلى جسد حمزة الخطيب، طفل سنابل القمح السمراء في سهول حوران، وابن الأرض السوداء التي تفيض حياة، أراه يكتب بيده الطفلة على حيطان درعا تمرد الأطفال على زمن الأوباش، ثم أنحني كي ألم أشلاءه التي ملأت سماء سوريا بالغضب والأنين. أرى حمزة الخطيب في عيون مئات آلاف القتلى، فعيون الموتى في سوريا تلتمع بحياة تلتقطها من تراب الأجساد.
وأرحل إلى حمص باسل شحادة، الفتى الدمشقي الذي أقفل الشبيحة أبواب الكنيسة في وجوه الذين أتوا للصلاة في ذكراه. السينمائي الشاب الذي صارت الكاميرا في يديه الطريتين شاهداً وشهيداً، والذي عانق تراب حمص، ودخل في نسيج خرابها الذي سيبقى علامة على مقاومة التتار والمغول الجدد الذين يحكمون سوريا، ويحولونها إلى ملتقى الوحشية بالوحشية.
وأريد أيضاً أن أستمع إلى صوت نهر العاصي وقد تقمّص حنجرة القاشوش، وصار ماؤه صدى لصرخة الحرية والكرامة الانسانية التي انطلقت من حنجرة مقطوعة لن تتوقف عن الغناء.
وأريد في النهاية أن ألتف بالعتمة حيث سميرة ورزان وباولو وكل المخطوفين والمعتقلين، وأن أقول لهم أن عتمتهم صارت ضوءًا ينير عيوننا الغارقة في عتمة هذا الزمن، وأننا اكتشفنا معهم أن لصوص الثورات من أدعياء الاسلام وصبيان أنظمة الاستبداد النفطي، هم الوجه الآخر الذي يكمل الديكتاتور ويبرره.
بهؤلاء تستعيد اللغة شرفها، ولهم وحدهم، في صمتهم الرهيب، تنحني لغة العرب، كي تلتقط معناها من حلمهم ويأسهم، ومن موتهم واختفائهم.
نعم يا أصدقائي الموتى والمخطوفين، أشعر اليوم بالحاجة إلى الكلام معكم، ومعكم أنتم فقط، كي أتعلم من صمتكم الرهيب معنى الكلام، وكي أغسل لغتي من وحشية هذا الزمن، حيث تُذلّ العرب وتُمتهن كراماتهم، ويتحولون إلى كرة يتقاذفها وحوش الاقليم وأسياد هذا العالم، من أجل تحقيق طموحات حمقاء بدم الشعب السوري الشهيد.
لم يسبق للعرب أن رأوا شعباً كاملاً صار في مرتبة الشهداء قبل حمام الدم السوري الذي لا يتوقف عن النزيف.
شعب كامل يُقتل ويُطرد من دياره ويشرّد، والقاتل ليس عدواً أجنبياً، القاتل هو المستبد المحلي وريث نظام الاستبداد الذي تأسس على أنقاض فكرة الانبعاث العربي التي هدمها، قبل أن يكتشف بأن بربريته لا تكفي لانجاز المهمة، فاستعان بقوى ليست أقل بربرية منه.
شعب كامل سرق لصوص الأصولية الغارقة بروائح الكاز والغاز ثورته، وباعوها لداعش وأخواتها، كي يتم وأد النور في العيون وسحق الأمل، وتحطيم الحلم.
شعب كامل صار دمه وسيلة التخاطب بين مجرمي الحرب، وقاعدة مفاوضاتهم على مناطق النفوذ في سوريا والمشرق العربي.
شعب شهيد يمسك بالحياة التي تنبثق من موته، كي يأخذنا إلى أعماق أرواحنا، هناك حيث نلتقي بسوريا جديدة، سوريا مغتسلة بماء العاصي وصوت القاشوش، ومكتوبة بكاميرا الحرية في حمص، تستعيد طفولتها في أجساد الأطفال الممزقة، ويضيء ليلها وليلنا عيون الموتى التي صارت أنجم سمائنا.
من خلال هؤلاء أرى أرضاً جديدة وسماء جديدة، وأنحني كي ألتقط لغتي من تراب الموت.
* نقلاً عن: “القدس العربي”
عذراً التعليقات مغلقة