لا زلت أذكر تلك العجوز الهائمة على وجهها في إحدى المطارات. ولا يزال الحزن الذي يسكن وجه تلك العجوز يطاردني كل حين، كيف لا وقد طفح الحزن فوق تعاريج وجهها بعد أن دقتها أقدام زمن جائر لترسم ملامح دروب القهر والظلم على شكل تجاعيد تخفي في طياتها مأساة أم وشعب مظلوم مكلوم.
عجوز قادمة من بادية دير الزور، لمجرد سمعت لهجتنا السورية، لجأت إلينا مباشرة “أنتم سوريون؟”. رأت فينا أنساً قد فقدته بينما الوحشة تسكن تلافيف قلبها قبل أن يزيدها شعور الغربة والوحدة وحشة أخرى في مطار بلد غريب، خلال عشرات الدقائق التي جلست معنا حاولت أن تخرج كل ما في جعبتها من آهات وآلام بعد أن ضاقت بها رحابة صدرها البدوي.
بدون أي مقدمات أخرجت من جيبها صورتين لشابين، قالت لنا هذا كل ما تبقى لدي وخرجت به من سوريا، هذان ولداي استشهدا، هذا استشهد بمعارك مع الميليشيات الإيرانية، وهذا قتلته داعش.
عندي ثلاثة أبناء.. اثنان استشهدوا، لكن الحمد لله أبقى الله لي الثالث وهو خارج سوريا، لو كان في سوريا لكان استشهد مثل إخوته، أنا ذاهبة إليه الآن.
حاولت المرأة العجوز أن تفضي بأكبر كم ممكن مما عانته وشاهدته من مآسي قبل خروجها من سوريا. و قد خسرت كل شيء (العيال والحلال والمال) كما قالت.
ولا زلت أذكر كيف قال أحد الضباط المنشقين عن النظام الأسدي لسائق التاكسي في إحدى المدن العربية ، بعد أن ضاق ذرعاً بهمزه ولمزه قال له “شايف هذول إلي قدامك قبل كم يوم كانوا بتلفون واحد يهزوا سوريا”.
اليوم عندما تفتح على أي وسيلة إعلام عربية، ستجد الخبر الأبرز والعنوان الأعرض “المرتزقة السوريون”.
في أي حدث أو خبر سياسي تجد من البديهي أن يكون الإعلام منقسماً ما بين مؤيد للحدث وما بين معارض ونافٍ له، لكن في قضية “المرتزقة السوريين” أجمعت كل الأطراف المتضادة والمتفقة على منح الشعب السوري الأصيل هذه الشهادة القذرة.
اسألوا المقابر ستحدثكم عن أكثر من نصف مليون شهيد نام تحت ثراها بعد أن روى تراب بلاده بدمه الطاهر.
اسألوا جدران المعتقلات ستحدثكم عن مئات الآلاف من المغيبين ما بين ظلمة الموت وظلام الزنازين.
اسألوا الأطراف الصناعية ستحدثكم عن أكثر من نصف مليون سوري يتكئ عليها بعد أن فقد أحد أطرافه.
اسألوا الخيام لتحدثكم عن ملايين الكرماء والأعزاء الذين تركوا كل شيء والتجؤوا إلى بقايا ظلها.
اسألوا البحر سيحدثكم عن ملايين السوريين الذين خاضوا مجاهيل البحر وتحدوا ضراوة أمواجه تاركين كل شيء خلفهم باحثين عن جدران إنسانية وسقف آمن.
اسألوا المدارس ستحدثكم عن ملايين الأطفال الحالمين بمستقبل جميل كيف غادروا مقاعدها والدموع في مآقيهم.
اسألوا ….. اسألوا…….. اسألوا………..
لم يضحِّ الشعب السوري بأغلى ما يملك، بل ضحى بكل ما يملك في سبيل كرامته وحريته وإنسانيته، ثم يأتي هذا الإعلام الخسيس لكي يمنحنا شهادة الذل و العار، شهادة أن الشعب السوري أصبح مجرد شعب مرتزق.
بعيدا عن حقيقة الخبر وعن حجمه، لكن ليس من المعقول أن تتجاهل الجبال الشامخة وتركز بعينك الساقطة على كومة غبار ستنسفها الرياح ولا يبقى لها أي أثر بعد حين.
علماً ان الشعب السوري هو الذي واجه كل أنواع المرتزقة في العالم وقد جاؤوا من كل حدب وصوب لكي يقاتلوا إلى جانب شبيحة الأسد وجنوده.
الحقيقة أن الإرتزاق هي مهنة الإعلام العربي بشرقه وغربه وبكل أطيافه هو إعلام تابع للصهيونية العالمية، في العالم العربي لا يوجد محطات إعلامية وإنما يوجد منحطات إعلامية.
شعب سوريا الأصيل ،صاحب أقدم حضارة في العالم وصاحب أول أبجدية في تاريخ الإنسانية، وإن جار عليه الزمان اليوم ، لكن في الأيام القريبة سيكون للتاريخ حديث آخر بإذن الله.
عذراً التعليقات مغلقة