في الليل حين فحّت الأفاعي

سليمان نحيلي25 أغسطس 2020آخر تحديث :
سليمان نحيلي
  • عشرات من الصواريخ انهالت، لم تُحدث عند انفجارها أي صوت، ولم تُلحق بالمباني أية أضرار ومع ذلك تسببت بإزهاق أرواح زهاء ألف وخمسمئة إنسان دفعة واحدة.

تلك ليست مقدمةً مقتبسةً من فيلم فانتازي، فما حدث في تلك الليلة واقع تجاوز الخيال.
= تكلم إذن، قل شيئاً عن المكان والزمان وادفع لنا بشيء من الأحداث تفكّ قليلاً من شباك الحيرة والدهشة والفزع التي ألقيتها علينا.

  • الآن تفزّ من ذاكرتي المفخخة بالجراح هذه الأبيات العذبة لأحد الشعراء، فأتركها تنداح على رسلها من شفتي على السطور، فينقص بياض الصفحة ويزيد قليلاً بياض روحي التي يغشاها السواد.

ويحهُ ذات تلاقينا على
سندسِ الغوطة والدنيا غروبُ
قال لي أشياء لا أعرفها
كالعصافير ِ تُنائي وتؤوبُ
هو سمّاني أنا أُغنيةً
ليتهُ يدري أنه العودُ الطّروبُ ..

= مازلتَ تناور في الكلام .

  • أنا لا أُناور، لكني أخشى الولوج في الألم، وبالرغم من ذلك، سأتكلم:
    المكان: الغوطة الشرقية في دمشق حيث وثّق بردى منذ طفولته أواصر القربى والخصوبة بين بلدات (زملكا وعين ترما وكفربطنا وعربين الشرقية) وعززها غرباً نحو بلدة (معضمية الشام) في الغوطة الغربية عند اندلاع الثورة السورية عام 2011، فجمعت الحريةُ وبردى الغوطتين التي لبت نداء الحرية والكرامة مبكراً وأحكمت فصائلها الثورية بحلول أواسط عام 2013 الحصار على العاصمة دمشق بعد أن مُنيَ جيش الأسد بعدة هزائم كبّدته خسائر فادحة، واستعصى عليه اقتحامها، فأرسل كلمة السر – لقادته عبر اجتماع له على مائدة عشاء مع مؤيديه من رجال دين ٍ يُخرجون فتاواهم على إيقاع آلة صك النقود أو سوط سلخ الجلود – حين قال: (لا يوجد استثناءات لأية وسيلة يمكن أن تخرجنا من هذه الأزمة).

الزمان: ليلة الحادي والعشرين من شهر آب أغسطس، بعد أن جاوز الليل منتصفه بساعتين ونصف حين لفّت دوالي البيوت الريفية أسراب العصافير ونامت تحلم بالعنب، وقتها كان النعاس قد استتبّ في أحداق الأهالي بفعل هفهفات نُسيمات ليل الغوطة الرخية عقب نهار قائظ، ففرض النوم سلطانه على الجميع وخيم السكون.

الأفاعي تفحّ في الليل:
يقول العارفون: أن النائم كالميت، فسبحان من أحيانا بعد أن أماتنا، لكنه في تلك اللحظات – التي مرّ عليها اليوم سبعة أعوامٍ وذكريات حدادٍ متجددة – بقي الآلاف يكملون نومهم حتى الآن، في تلك اللحظات بدأت تنهال على تلك البلدات الآمنة صواريخ، أخبر العارفون الثقات أنها من نوع أرض- أرض قادمة من اللواء 155 الذي فهم كلمة السر جيداً، وقام بالتنفيذ.
لم تُحدث تلك الصواريخ دوياً أو دماراً عند انفجارها كما اعتاد أهالي الغوطة، لكنها أصدرت أصواتاً كفحيح الأفاعي عندما تتأهب للانقضاض على فريستها، كانت الصواريخ تتوالى بالعشرات ويزداد الفحيح الليلي ناشراً غاز السارين الكيماوي الذي يفتك بأعصاب البشر، استطالت مساحات انتشار الغاز القاتل، اقتحم الحارات والبيوت تغلغل عبر النوافذ وشقوق الأبواب وكوى الجدران، تعالت أصوات الصرخات والهلع وحشرجة الاختناقات التي شقت جدار الليل، جحظت عيون الأطفال والنساء، وتشكّل زبد رغوي على أفواه أطفالٍ ما تدربت بعد على غير حليب الأمهات، زبد لفظوا معه أنفاسهم الأخيرة.
سويعات قليلة مرت، وانجلت سحابات السم عن ألف وخمسمئة نفس بشرية فارقها التنفس، ماتوا اختناقاً، ماتوا ذبحاً لكن دون دماء، يا ضعفهم، يا حسرة السنين التي لم يكملوها، ويا حسرة الذي ما مات منهم.
حتى عصافير الدوالي لم تسعفها أجنحتها فتساقطت صرعى دون أن تحظى بالعنب.

اقتل لكن ليس بالكيماوي:
كأنهم نيام، يا نومهم الذي طال، متى يستفيقوا، وكأن الكون عنهم نائم.
الآن وعلى بعد سبع سنوات من تلك الليلة الرهيبة وعلى مقربة من آلام الفقد والفاجعة يتذكر الناجون من تلك المجزرة موتاهم، ويعدون لهم احتفالات مفترضة لأعياد ميلادهم تبقيهم في الذاكرة أحياء إلى الأبد، فيما يتابع القاتل مهمته وقد أَمِنَ أنّ الجريمة سُجلت ضد مجهول وأن الخطوط الحمراء التي وضعها له ولاة أمره قد انمحت ليقرأ مابانَ تحتها: أن اقتل ما شئتَ من شعبكَ، لكن ليس بالكيماوي.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل