هل سورية مقبلة على تغيير سياسي؟

محمود الحمزة6 يوليو 2020آخر تحديث :
هل سورية مقبلة على تغيير سياسي؟

سؤالٌ يفكر فيه كلّ السوريين -معارضة وموالاة- في كل مكان، داخل سورية وخارجها؛ فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية أصبحت تضيّق الخناق على الناس، ولم يعد السكوت بالإمكان، وبات النأي عن النفس أمرًا مريحًا للشريحة الرمادية والموالية، وبدأ يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وتظهر حقيقة نظام حكم عائلة الأسد الذي استمر 50 عامًا، بدعم أميركي إسرائيلي، منذ استيلاء الأب المقبور على السلطة بطريقة مبرمجة، تكررت مع الابن المعتوه الذي صدّق أن “سورية لبيت الأسد”، وأن بإمكانه امتلاكها وبيعها، متى يشاء، كما باع أبوه الجولان من قبلُ.

منذ بداية الثورة 2011 حتى فترة قريبة، كان الروس متعصبين للأسد، ويدافعون عنه بطريقة عمياء تثير التساؤل حول السرّ في هذا الدفاع والدعم اللامحدود لنظام الأسد. وكنا نعتقد أن هذه سياسة روسية ومصلحة روسية، ولكن تبيّن أن الحقيقة أكبر من ذلك، حيث إن هناك إرادة دولية، وخاصة أميركية إسرائيلية، تقف وراء هذا الأمر، وعند هذه النقطة، تقاطعت مصالح الدول والقوى العالمية. وأتفقُ مع ما أورده فراس طلاس -نقلًا عن أبيه مصطفى طلاس- أن النظام السوري حبكه حافظ الأسد كجزء عضوي من النظام العالمي في الشرق الأوسط، ولا يمكن زحزحته إلا بزعزعة النظام الدولي الذي سينتج عنه شرق أوسط جديد بل نظام دولي جديد.

لم يدرك السوريون الذين انطلقوا بعفوية، في آذار/ مارس عام 2011، وأعلنوا ثورتهم ضد نظام الأسد، أنهم يتعاملون مع نظام أخطبوطي. والحقيقة أن الشعب السوري كاد أن يُسقط النظام في 2012، ولكن بدأت الأوامر تأتي لنظام الملالي ولـ “حزب الله”، وهما أيضًا أجزاء من المنظومة العالمية التي نتحدث عنها (ويكفي أن نتذكر كيف وصل الخميني إلى الحكم في طهران، وماذا فعل بالمنطقة. وإلا فكيف تسلّم أميركا العراق العظيم بوابة العرب الشرقية لإيران الفارسية!)، ولاحقًا جاءت الإشارات لموسكو للتدخل العسكري لإنقاذ النظام، في أيلول/ سبتمبر 2015.

ما أزال أذكر كلام صديق قديم ينتمي إلى الطائفة العلوية، كان معارضًا للنظام قبل الثورة، ثم أصبح يدافع عنه بطريقة غير مباشرة، وذلك بشتمه للثورة واتهامها بأنها إسلامية وسنّية، وصار يتحدث عن خوف العلويين وقلقهم من هذه الثورة!! وقد قال لي ذلك الصديق القديم “إن روسيا لن تتخلى عن النظام السوري، مهما كان الثمن”! وأستغرب من أين جاء بتلك الفكرة! وما هو سرّ ثقته ببقاء نظام الأسد؟ يبدو أنه كان يعرف علاقة النظام ووظائفه في خدمة المخططات الدولية في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك تمسك الكل بنظام الأسد حتى آخر رمق. وقد حاول المجتمع الدولي، وفي مقدمتهم دول عظمى وإقليمية، الحفاظ على نظام الأسد قدر الإمكان، مع الاستمرار في تدمير البنية التحتية والمجتمعية، إلى أن تيقنوا أن بقاء الأسد أصبح مستحيلًا، لأنه سيضر بمصالح تلك القوى قبل أي شيء آخر، وليس لأنه ارتكب الجرائم وقتل الشعب السوري ودمّر منازلهم وهجرهم قسريًا. وهنا لا بد من الإشارة إلى واجب المحللين السوريين في التحليل العميق لما جرى في سورية، من تهجير وتغيير ديموغرافي، والبحث في أبعاده وأهدافه.

وهناك من يشكك في مقولة اقتراب نهاية حكم الأسد في سورية، حيث إن الناس لم يعودوا يثقون بإمكانية التغيير، لأنهم ضحّوا كثيرًا وانتظروا طويلًا، ورأوا أن لا خير يُنتظر من أحد لمساعدة السوريين.

وسأورد أهم النقاط التي تدعم فكرتي في حتمية التغيير السياسي ورحيل طاغية دمشق:

  1. قناعتي مبنيّة على المعطيات والتحليل بأن هناك تفاهمًا أميركيًا إسرائيليًا روسيًا إستراتيجيًا، حول سورية حصرًا، جوهره الحفاظ على بشار إلى أطول مدة ممكنة. وهذا التفاهم شهدناه في اتفاقية كيري مع بوتين ولافروف عام 2014 في سوتشي، وكذلك في اتفاق بومبيو مع لافروف وبوتين 2018 في سوتشي أيضًا. والتدخل العسكري الروسي في سورية كان بمباركة أميركية واضحة، وكذلك العلاقة الاستراتيجية الروسية الأميركية والقمة الأمنية الروسية الأميركية الإسرائيلية في صيف 2019 في “إسرائيل”، وكلها عوامل قوية لا بد من أخذها بالحسبان، وليس آخرها تصريح جيفري منذ أسابيع بأن كلّ القوات الأجنبية يجب أن تخرج من سورية، ما عدا القوات الروسية! أليس هذا تأكيدًا دامغًا على التفاهمات الأميركية الروسية. وهنا أعتقد أن إسرائيل وأميركا أوكلا لروسيا الإشراف على النظام السوري الجديد في المرحلة القادمة، بشرط تعهدها بحماية “أمن دولة إسرائيل”، وإخراج إيران وأتباعها من سورية. وكل ما نراه على أرض الواقع يؤكد هذه الفكرة، ولن تتحقق تلك المهمة بسهولة، وخاصة بخصوص إخراج إيران.
  2. ترزح روسيا تحت العقوبات الأميركية والغربية منذ عام 2014، بعد أن استرجعت شبه جزيرة القرم ودخلت قواتها إلى شرقي أوكرانيا، ووصلت إلى طريق مسدود هناك، ويبدو أنها توجهت عام 2015 إلى سورية وتدخلت عسكريًا، لتغيير المعادلات الدولية وطريقة التعامل معها من القوى الدولية، ففي أوكرانيا لا يوجد تفاهم روسي مع الغرب، بل هناك عداء كبير. وجاءت أزمة النفط -في بداية هذا العام- لتخلق أضرارًا كبيرة بالاقتصاد والمشاريع الحكومية الروسية، وتبعتها جائحة كورونا التي تسببت في ظهور ملايين من العاطلين عن العمل، وإفلاس مئات الشركات المتوسطة والصغيرة في روسيا، وستظهر النتائج الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والنفسية لجائحة كورونا في روسيا، في المرحلة القادمة.
  3. الوضع الداخلي السوري برزت فيه عوامل كثيرة تستدعي التوقف والتحليل؛ فهناك تدهور اقتصادي وكارثي انعكس على حياة السوريين، وبخاصة في مناطق النظام، وأصبح شبح المجاعة أمرًا واقعًا يهدد كل السوريين، بغض النظر عن مواقفهم السياسية، حتى إن موظفي النظام وضباطه أصبحوا في حالة يرثى لها، فراتب لواء في الجيش الأسدي أقل من 40 دولارًا. وبدأت موجة من التظاهرات والاحتجاجات في السويداء ودرعا وإدلب ومناطق أخرى، وبدأت صفحات في (فيسبوك) تشهد نقدًا قويًا لعائلة الأسد، لأنها خيبت آمال الموالين الذين قدموا أكثر من 150 ألفًا من أبنائهم، فداء لكرسيّ الأسد، وباتوا اليوم يحصدون الجوع والحاجة والإهانة، وهذه الحال لن تمرّ على خير. إضافة إلى الصراع العلني بين عائلة مخلوف والحكومة (عائلتي الأسد والأخرس) حول تقاسم وتوزيع الثروة التي تقدر بالمليارات، في وقت يجوع فيه الناس. وبصراحة: هذه الظاهرة تدل على أن عائلة الأسد ومخلوف أظهرا للسوريين والعالم أنهم يتصارعون على مزرعة اسمها سورية، يعدّونها ملكهم وملك “طائفتهم”، ولا يخجلون من الحديث بأن عائدات شركات آل مخلوف (تقدر ممتلكاته واستثماراته بأكثر من 50 مليار دولار وهي منتشرة في سورية والعالم) يجب أن توزع على “ناسنا”، ويقصد رامي أبناءَ طائفته الموالين للنظام. ويبدو أن هناك فرزًا واستقطابًا ضمن الطائفة العلوية، ويميل أغلبيتهم إلى عائلة مخلوف، ضد عائلة الأسد التي بدأ بعض العلويين يشككون بانتمائها إلى الطائفة وإلى سورية.
  4. الحملة الإعلامية الروسية ضد الأسد وعصابته، وفضح فساد النظام وإظهار ضعف شخصية بشار الأسد، وأن الشعب السوري ينتظر التغيير الذي يستحقه، حتى إن موقعًا روسيًا مقربًا من النظام في روسيا تحدث بأن رجال أعمال تابعين لماهر الأسد يتعاملون مع (داعش) و(قسد)، ويشترون القمح والنفط للنظام. وهذا اتهام صريح بعلاقة النظام بـ (داعش)، ويمكن استخدامه عند الضرورة.
  5. وهدفت الحملة الإعلامية الروسية، التي ما كانت لتنتشر بقوة لولا وجود ضوء أخضر رسمي أراد من خلاله الكرملين أن يبرز البطاقة الصفراء للأسد، إلى إرسال رسالة مفادها أن مفاتيح الحل يجب أن تكون بيد موسكو وإلا… إضافة إلى أن ردة فعل أبواق من النظام مقربين من أجهزة المخابرات تدلّ بوضوح على أن النظام تحسس كثيرًا من الحملة، وشعر بالقلق، حتى إن خالد العبود قال إن دمشق تستطيع أن تتهم روسيا بأنها دولة محتلة، وأن تشتكي عليها في مجلس الأمن!!
  6. بعد هدوء الوضع في إدلب، ونجاح وقف إطلاق النار الذي نصت عليه اتفاقية سوتشي وملحقها الجديد الذي أقره الرئيسان التركي والروسي في 5 آذار/ مارس في موسكو، والذي يدل على انتهاء العمليات العسكرية تقريبًا في كل سورية؛ تبرز ضرورة البدء بإعادة الإعمار الاقتصادي، وهذا غير ممكن من دون تغيير سياسي تشترطه كل القوى الدولية وقرارات مجلس الأمن، وبخاصة 2254. وهنا نشير إلى أن موسكو ليس لديها أي رغبة ولا مصلحة في الاصطدام مع تركيا، سواء أكان ذلك في إدلب، أم في ليبيا حيث تراجع دورها بقوة هناك لمصلحة حكومة الوفاق المدعومة من تركيا.
  7. بعد أن توقفت العمليات العسكرية؛ بدأ التنافس الروسي الإيراني يتصاعد، وانعكس ذلك بقوة في الصراع بين عائلتي الأسد ومخلوف، وثم الضغط على الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد الموالي لإيران، وصراعات أخرى بين الفيلق الخامس والميليشيات التابعة لإيران، وكذلك الصراع على العقود الاقتصادية وكسب الولاءات المجتمعية والأمنية. ويبدو أن إيران تستشعر أخطار الدور الروسي على وجودها في سورية، وهذه الأجواء من عدم الثقة كانت موجودة بين طهران وموسكو طوال السنوات الماضية، بالرغم من التعاون العسكري في سورية، إلا أن العلاقات الثنائية محدودة، والتعاون بين البلدين يحمل طابعًا تكتيكيًا (يشبه زواج المتعة) وليس استراتيجيًا.
  8. قامت أميركا وفرنسا بالضغط على الأحزاب الكردية (حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي) لكي يتفاوضوا ويوحّدوا موقفهم استعدادًا للمرحلة القادمة، وبالطبع أثارت هذه التفاوضات ردات فعل سلبية لدى أبناء منطقة الجزيرة والفرات من العرب والسريان، لأنهم استُبعدوا منها، ولأن حزب الاتحاد الديمقراطي ينفذ مشروعًا أجنبيًا (بقيادة حزب العمال الكردستاني التركي) على الأراضي السورية، وهذا يشكل خطرًا على القضية الوطنية السورية ووحدة أراضيها، علمًا أن كل الوطنيين السوريين لا يعترضون على أي تفاهم يخدم المصلحة الوطنية السورية، لا النزعات الانفصالية، وأن المسألة الكردية في سورية جزء أساسي من القضية الوطنية السورية، ولا حرية ولا عدالة ولا تغيير ديمقراطيًا في سورية، دون تمتع كل مكونات سورية ومواطنيها بحقوقهم الكاملة ضمن سورية الموحدة أرضًا وشعبًا.
  9. قيام موسكو بإجراء اتصالات ولقاءات مع شخصيات معارضة، مثل لقاء نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف بالشيخ معاذ الخطيب في الدوحة، لمناقشة مستقبل سورية وآفاق الحل، وكذلك لقاء نائب رئيس البعثة الروسية في جنيف مع وفد يمثل “المؤثرين في الطائفة العلوية”، لمناقشة مستقبل الدولة السورية، علمًا أن مصدرًا مقربًا من الخارجية الروسية قال لي إن اللقاء غير رسمي، لأن الخارجية لم تُصدر بيانًا حوله. ولا نستغرب المقاربات الروسية التي تركز على المكونات والأقليّات، وتحاول استخدام أوراقها في وقت يجب فيه على السوريين التمسك بالموقف الوطني المستقل. وتسعى موسكو لإيجاد ترتيبات وبدائل في النظام السوري، أي إنها تطبخ الحلول على نار هادئة، ومثلها واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
  10. ليس صدفة أن يُصادق على قانون قيصر في نهاية عام 2019، وأن يبدأ تنفيذه في 17 حزيران/ يونيو، ليتناغم مع كل ما ذكرته أعلاه من عوامل تقود إلى نتيجة واحدة، وهي أن أيام الأسد أصبحت معدودة. ويجب أن نقول بصراحة إن قانون قيصر لا ينص على إزاحة الأسد، بل يتضمن عقوبات على النظام، وعلى كل من يتعاون معه من أفراد وشركات ودول، وبخاصة حلفاءه روسيا وإيران، ولكنه سيخنق النظام اقتصاديًا، بعد الأزمة التي عصفت بالنظام المالي اللبناني، والتي جاءت أيضًا نتيجة عقوبات أميركية، وحرمت النظام من السيولة النقدية بالدولار، لأن أغلب أرصدة رجال النظام هي في المصارف اللبنانية.

بناء على ما سبق؛ أقول إنني مقتنع بأمر أساسي، وهو أن بقاء الأسد سيكون عامل عدم استقرار، وهذا يهدد مصالح روسيا بالدرجة الأولى، ويعوق استقطاب التمويل الأوروبي والأميركي والخليجي لإعادة الإعمار الذي تنتظره الشركات الروسية بفارغ الصبر. ولذلك لا بد من التضحية بالأسد وعائلته، ليس حبًا بالشعب السوري، بل من أجل مصالح الدول المؤثرة، وعلينا أن نعرف أنّ حتمية التغيير لم تأتِ مصادفة، بل هي نتيجة لتضحيات السوريين وبطولاتهم التي فرضت على المجتمع الدولي أخذ طموحات السوريين بالاعتبار في الترتيبات السياسية القادمة، ولن تكون سورية كما كانت قبل 2011.

لا يمكن التكهّن بشكل الحكم الجديد في سورية، ومن الصعب وضع إجابة حاسمة عن تلك المسألة، لأن الموضوع بيد القوى الدولية التي احتلت أجزاء من سورية، وفرضت سياستها، ووكلت ميليشيات تعمل لمصلحتها، حتى إن بعض أطراف الصراع أرسل مرتزقة سوريين للقتال في ليبيا. والأجندات الدولية والإقليمية قد تتقاطع جزئيًا مع طموحات الشعب السوري الذي قدّم أعظم التضحيات، من أجل حريته وكرامته، ومن أجل بناء وطن جديد يسود فيه القانون وتُصان فيه حرية الفرد والجماعات وحقوقها المشروعة.

المصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل