* إبراهيم نصر الله
لم أتخيل أن فتْحَ موضوع (النقد) العربي سيفتح كل تلك القصص المضحكة المبكية التي سمعتها في ذلك المساء اللاهب، من شهر آب/أغسطس الجاري، الذي يحث خطاه للرحيل، لتجاوز أيلول/سبتمبر وما بعده، على أمل اللقاء بنفسه في السنة المقبلة!
وحين أقول النقد، أعني بعض النقاد فعلاً، وإن كان منهم الهامشي، الذي لا حضور له، ومنهم الذي كنا نأمل أن يكون صورة باهرة للنقد العربي، وإذا به يلعب دور السمسار، المُحبِّر، الذي يكتب مدفوعاً بنرجسية مجنونة وموهبة فذة تستميت لإخفاء ملامح (الرجل الصغير) فيه، فبدل أن يمتلك فضيلة الحوار والشك التي تحلّى بهما يوماً، استسلم لرذيلة المناكفة والأخذ بالثأر، وظل يصغر، ويصغر، بصورة تستدعي كافكا، وروايته المسخ، لكن فضيلة مسخ كافكا أنه تنبه لصورته الجديدة التي صار عليها.
حدثتهم في البداية عن ناقد جامعي، التقيته ذات يوم في رحاب الجامعة الأردنية، وكنت نشرت روايتي الأولى (براري الحُمّى)، صافحني بكل الود الذي يكنه للشاعر الذي فيَّ، ثم قال لي: سمعت أنك نشرت رواية! أرجو أن تحتمل قسوتنا عليك حين نكتب عنها! فلم أجد كلاماً أقوله، سوى: ولكن انتظر حتى ترى غلافها على الأقل، فقد يعجبك الغلاف فتترفق، قليلاً، بالكلمات التي يحتضنها!
ضحك الأصدقاء..
قلت، ثم جاء ناقد ليكتب، إن هذه الرواية كتُبت ضمن حمّى الاندفاع لكتابة الروايات، بعد ظهور مصطلح (زمن الرواية)، بدون أن يلاحظ حضرة الدكتور أن هذه الرواية كتبت قبل تسعة عشر عاماً من شيوع هذا المصطلح!
لكن الأمر لم يكن طرفة، لم يكن طرفة أبداً.
أحد الأصدقاء قال، تعرفون روايتي التاريخية الوحيدة، حين نشرتها، كتب ناقد معروف، كيف يمكن لشخص أن يكتب رواية عن زمن لم يعشه، وقد نسي أن ثلثي الأعمال الروائية التي أبدعها كبار الكتاب، عن الماضي والمستقبل، من شكسبير، حتى هرمان هسه ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وذلك الذي فجعنا بمواقفه: أمين معلوف ومرغريت يورسنار، ورضوى عاشور، وصولاً إلى جورجي زيدان، في حكاياته المشوقة، وأولئك الكتاب الذين أبحروا في المستقبل، من جول فيرن، إلى هربرت جورج ويلز، حتى جورج أرويل، وري برادبري، ومئات مثلهم، كتبوا عن الموت قبل أن يموتوا وعن المستقبل قبل أن يعيشوه وعن الماضي الذي لم يصنعوه.
علق أحدهم، لا تستغربوا، فربما لا يعرف ناقدك العظيم اسم أي من هؤلاء.
ضحكوا.
لكن الكارثة أنه يعرف.
أحد الجالسين قال، تذكرون روايتي الوحيدة عن المستقبل، المستقبل ليس البعيد، حين كتبتها، باغتني ناقد بمقال يقول فيه، يبدو أن الكاتب لم يعد لديه ما يقوله عن الحاضر، فذهب للكتابة عن المستقبل. والحقيقة، يقول الروائي، كان يمكن أن أصدقه، لولا أن رواية لي كانت قد صدرت بعد هذه الرواية، تتحدث عن مأساتنا في الحاضر، فقلت لعله لم يسمع بها، لكن الناقد أعاد نشر المقال بعد سنوات، وكنت نشرت روايتين أخريين عن الحاضر، الذي يدينني لأنني تخليت عنه من أجل المستقبل، ولم يكلف نفسه أن يقوم بتعديل الفقرة، فقد قال ما قاله، وكلام النقاد الملوك، لا يعاد.
أحد الحاضرين، تحدث عن زيارته لأحد النقاد، الذين يملكون الحقيقة المطلقة، فيما يتعلق بقدرتهم على المحو وقدرتهم على إعلاء شأن من يريدون وما يريدون، بجرة قلم، كما يقال. أما ما لفت انتباهه بوضوح، فهو أن بنات الناقد وأولاده كانوا يتسابقون، لتوقيع نسخهم من قبل الروائي الضيف، ما أحرج الضيف كثيراً، لأنه يعرف أن الأب لم يقرأ هذه الأعمال بعد، وأظن أن الأب الناقد فكر في كل شيء قبل الدعوة، هذا: أن يحرجه أولاده كمعجبين أصيلين بالضيف، في حين أنه يعِده منذ سنوات طوال، أن يتفرغ ذات يوم ليقرأ أعماله، وينصفه!
هذا الناقد لم يعرف بعد أن العالم تغير، وأن الأبناء، حتى الأبناء، لا ينتظرون نصيحة آبائهم النقاد ليقرأوا هذا الكتاب ويتركوا ذاك.
لم يضحك أحد، إلى أن كسر جهامة الحكاية آخر وقال: هناك ناقد، كان كلما التقيته مع زوجته يقول لي: هل تعرف أن زوجتي قارئة ممتازة لأعمالك.
يقول صديقنا، أن الناقد ردّد هذه الحقيقة التي يفتخر بها طويلاً، إلى أن تجرأت وسألته ذات يوم: وهل تقرأ أنت كتبي مثلها؟
فصمت، ونظرت إليه زوجته: ألم أقل لك لا تكتف بحديثي لك عنها. أَحْرَجَكَ!
كانت زوجة خفيفة الدم والروح، لكن الناقد لم ير فيها ذلك وهو يمطرها بنظرات الغضب.
أما أسوأ النقاد، فهو ذلك الذي يظن أن ما يكتب بالحبر يمكن أن تمحوه الخرق البالية، فينقلب على ما كتب كل بضع سنوات، فإذا كان كتب أروع ما صدر عنه بحق شخص ما، سلباً، أو إيجاباً، ينقلب على ما كتب، وكأنه فاقد ذاكرته، فيعود ويمتدح تجربة المذموم، ويذم تجربة الممدوح، في الأولى يزحف على أربع، وفي الثانية، مثل أي طاغية لا يهمه سوى ما يسمعه من نفسه. وهو من أسوأ النماذج القادرة على طرح نفسها في سوق العلاقات النفعية والشخصية، عارضاً نفسه لمن يدفع أكثر، أو من يقدم له خدمة أفضل.
شاعر متنفذ كبير كان اشترى هذا الناقد يقول: كنا نظن أن ثمنه مرتفع، ولكننا اشتريناه في النهاية بخمسمائة دولار، وليس هو فقط، بل جميع أفراد شلته!
هنا لم يضحك أحد، فقد كان الأمر مأساة، أن يتحول واحد من أهم الأصوات النقدية إلى مُحبِّر، لا يملك أدنى درجة من المصداقية، بحيث تخجل أن تضع أفضل ما كتبه عنك، على غلاف أحد كتبك.
لكن، ومع كل هذه المآسي، ثمة نقد يرى، وأجيال جديدة لا تنتظر آراء مثل هؤلاء في الكتب، لا خارج بيوتهم، ولا داخلها!
وبعد:
هل بات الأدب العربي عارياً من النقد الحقيقي؟
لا أظن ذلك؟
فثمة نقاد ليسوا للبيع، كما يوجد أدباء ليسوا للبيع، وقراء ليس في قاموسهم كلمة مقايضة، إذا ما أحبوا عملاً وأسكنوه قلوبهم ووعيهم وأرواحهم.
* نقلاً عن: “القدس العربي”
Sorry Comments are closed