من أيام الثورة.. السير فوق الغيوم

زهير السهو9 يونيو 2020آخر تحديث :
زهير السهو

في أوائل صيف 2011 عندما كانت الثورة ما تزال في عز ألقها، وكانت أحلامنا طازجة ورغبتنا بالحرية لا تعادلها رغبة. وكنا نتمنى أن يثور الشعب كله على الظلم والفساد. كنا نسعى لمعرفة مناصري الثورة، حتى أصبح الهاجس الدائم لنا أن نكتشف مواقف الناس الذين نقابلهم، من هم مع الثورة ومن هم على الحياد ومن هو الشبيح أو المؤيد للنظام. كانت أشبه بلعبة تنبؤ تعتمد تعبيرات وجوه الأشخاص الذين نلتقي بهم سواءً في السوق أو في الشارع أو أي مكان نذهب إليه. كما كانت تصرفات بعض الأشخاص تساعدنا أيضاً، فمن هو سعيد نفترض ضمناً أنه ثائر وتحديداً عندما تكون أخبار الثوار جيدة، ومن نراه حاقداً لئيماً كنا نصنفه حالاً بمستوى شبيح، أما الأشخاص الذين كانوا يعبرون بنا ونظراتهم فارغة لا تحمل معنى نفترض أنهم حياديون، أما المؤيد فتراه موتوراً قلقاً، لكن أكثر ما كان يشغلنا تلك النظرة في عيون المجندين على حواجز النظام، الذين نشرهم على كل الطرقات وقطع بها أوصال المدينة ليمنع الثوار من التواصل، ويمنع حركة المظاهرات من الوصول للساحات الكبرى في دمشق.

كانت حركة الانشقاقات قد توالت وصرنا بين الحين والآخر نرى على شبكة الانترنت فيديو إعلان انشقاق لضابط ومن معه من الجنود، أو ربما لمجموعة عساكر لم يقبلوا على أنفسهم أن يكونوا سوط الجلاد ضد الشعب. في ذلك الحين كانت عيوننا تتعلق بنظرات الجنود التي كانت بالمجمل متعبة وتائهة، تحمل الكثير من القلق والأسئلة قلما كنا نرى جندي تشي ملامحه بالراحة، بالرغم من أننا صادفنا بعض الجنود الذين كانوا يحملون ملامح التنمر وبدى جلياً أنهم يقاتلون من أجل النظام بكامل وعيهم ورغبتهم، وأكثرهم عبر عن تأييده للنظام بارتداء تيشرت أبيض يحمل صورة بشار مع كلمة للأبد بالإضافة لانتعال حذاء رياضي أبيض.

وهؤلاء تحديداً كانوا وقحين لدرجة القرف يتعاملون مع الناس بقسوة واحتقار وكأنهم قادة البلاد وأسيادها ويحق لهم القتل والسحل والاعتقال.

أما ما تبقى فكانوا على حالة من البؤس المحزن، كان الجوع والعطش واضحاً على تلك الفئة لقد تركوا على الحواجز لساعات طويلة تحت أشعة الشمس المحرقة دون ماء أو طعام، وكنا أحياناً نقدم لهم قوارير الماء وقد صدف أكثر من مرة أن طلبوا شربة ماء بعد أن نسيهم قادتهم دون طعام فهم فعلياً لا يملكون من أمرهم شيء وليس لهم خيار بتلك الحال وأجزم أن أغلبهم لو استطاعوا لتركوا حواجزهم وعادوا لديارهم لكن أكثر ما كان يخشاه العسكر آن ذاك رصاصة الغدر القادمة من بندقية زميل أقسم إما الأسد أو يحرق البلد.

هناك على المدخل الغربي من جديدة عرطوز القريب من حيّنا كان الحاجز مختصراً جداً، دبابة توجه سبطانتها تجاه المعضمية وحاجز حديدي يمتد من منتصف الرصيف حتى منتصف الشارع، وعلى طرفي الحاجز يقف عنصران يقومان بمهمة التفتيش المعتادة، وفي خيمة مغبرة اللون مرفوعة على عمود خشبي يجلس قائد المجموعة وآخر يسير من الحاجز حتى الخيمة وبالعكس بين حين وآخر.

كنت أمر على الحاجز يومياً فأصبحت وجوه عساكر الحاجز مألوفةً لي. وفي يوم من شهر نيسان كما أذكر كنت وعائلتي في السوبر ماركت وهناك رأيت اثنين من عساكر الحاجز كانا يتكلمان معاً، وبدا من اللهجة التي يتحدثان بها أنهما من ريف دير الزور. فبادرتهما السلام وسألتهما عن بلدتهما أخبراني أنهما من قرى دير الزور كما توقعت. رحبت بهما وعرفتهما عن نفسي بأني أيضاً من نفس المنطقة وأخبرتهما أني أسكن قريباً جداً من الحاجز وفي حال احتاجا شيئاً فمرحبا بهما. تكررت لقاءاتي بهما عدة مرات وكنا نتبادل الحديث بود. لم يكن من السهل أن نتحدث عن الثورة فالجميع كان حذراً وخائفاً لكن إحساسي نحو الشابين دفعني لمحاولة جس نبضهما فسألتهما عن رأيهما بما يحصل، بدايةً ترددا في الحديث لكن ذلك شجعني بأن ألمح لهم أني مع الثورة، بدى عليهما الدهشة بدايةً لكنهما ما لبثا أن اطمئنا لي، وأسرا لي أنها يريدان الانشقاق وأنهما بانتظار وصول هويات مدنية لهما من قريتهما حتى يتمكنان من خلع اللباس العسكري والتنقل كمدنيين والعودة إلى دير الزور وإعلان انشقاقهما. التقيت بهما مرة إضافية وبعد عدة أيام اختفى الجنديان عن الحاجز ومن ثم أعلنا انشقاقهما عن جيش النظام. كان الموقف رائعاً لمجرد أني التقيت بهما. لم أعلم أن لقائي بهما سيكون السبيل الذي أساعد به آخرين ليتخلوا عن نظام القتل والفساد. بعد مرور شهر أو أكثر اتصل بي قريب لي من القرية وأخبرني أن ابنه وصديق ابنه يخدمان في قطعة عسكرية قريبة من منطقة سكني وهما يريدان الانشقاق عن الجيش لكنه لا يعرف ماذا يفعل. شكرت الشابين في قلبي وأخبرته أن يرسل لي هويتين مدنيتين لهما ليستطيعا السفر والعودة للقرية. تواصلت مع الشاب في قطعته وأخبرته أن يأتي لزيارتي قريباً. وبالفعل بعد عدة أيام وصلتني الهويتان عن طريق قريب يسكن في عش الورور كانتا لقريبين للشابين بنفس العمر تقريباً. اتصلت بقريبي العسكري وطلبت منه القدوم لزيارتي لكنه أخبرني أنه لا يستطيع الخروج من القطعة فقد منعت مغادرتهم من دون إجازة، وسألني إن كنت أستطيع زيارته وتسليمه الهوية.

أخبرته أني سأحضر لزيارته يوم غد. وبعد أن أغلقت الهاتف جلست أفكر كيف سأذهب إلى هناك بتلك البساطة كانت أفكاري مشتتة تماماً فتسليم هويتين مدنيتين لعسكري لم تكن بالأمر السهل وفي حال كشف أمري سيكون الوضع خطيراً، يجب عليّ إخبار زوجتي، لكني ترددت أيضاً ماذا لو رفضت ذهابي لا أريد وضع نفسي في موقف صعب. بعد بعض الوقت من التردد والتفكير حسمت أمري؛ سأخبرها وانتهى. توقعت أن ترفض ذهابي خوفاً على حياتي غير أنها رفضت ذهابي لوحدي بالمطلق وأصرت أن نذهب معاً كعائلة. وبالطبع أخافني الأمر وأخبرتها أن هذا جنون كيف آخذ عائلتي في مهمة قد تودي بنا لسجون النظام رفضت الأمر ووعدتها أني سأعود. لكنها أصرت أكثر ولا أدري من أين أتتها هذه القناعة بأننا معاً نستطيع تحدي كل المخاطر وأننا معاً بأمان أكثر. ظلت تصر على موقفها وقالت إما نعيش معاً أو نموت معاً. لا يمكنكم تخيل السعادة والفخر والحب الذي فاض في صدري ذلك اليوم والدموع التي فاضت من عيني. كم من أصدقاء ومعارف وصلت الأمور بينهم وزوجاتهم للطلاق، وتحولت حياتهم لجحيم بسبب الموقف من الثورة مع أو ضد. فرحتي في ذلك اليوم لا توصف وقلقي وخوفي على حياتهم لا يحتمل لكني استسلمت في النهاية للفكرة المجنونة (التي ستكون البداية لتجارب أخرى قادمة). عند المساء ركبنا السيارة وانطلقنا نحو القطعة العسكرية، وقفنا عند الحاجز الأول على طريق، أحسست بقلبي قد سقط أرضاً كانوا أربعة جنود بالزي العسكري. أخبرتهم أني أريد زيارة قريبي العسكري للاطمئنان عليه نظر العسكري لي ثم لزوجتي ونظر للخلف  لأولادي الأربعة صمت لثواني مرت كدقائق طويلة ثم قال لا مشكلة تفضلوا قدت سيارتي وأنا أتنفس بعمق كانت لحظة قاسية لكنها مرت بسلام بعد خمسمئة متر توقفنا أمام حاجز آخر هذه المرة كان ثلاثة جنود بتلك الملامح التائهة يقفون عند الحاجز ورابع يرتدي تيشرت أبيض طبعت عليه صورة الرخيص الأسد وينتعل حذاءً رياضياً كان يقفز ويدبك مردداً أغنية ما لم أستطع فهم كلمة منها فدقات قلبي كانت تطن في أذني أعلى من صوته الموحش أخبرت الجندي بالزي العسكري أني هنا لزيارة قريبي العسكري نظر الجندي للآخر الراقص وانتظر قليلاً ثم قال له يريد زيارة قريبه ظل الآخر يرقص ويقفز وهو يرقبنا من بعيد وأشار بيده دعهم يعبرون انطلقت بالسيارة وأظن بأني بعد هذا الحاجز فقدت قلقي لا أذكر بالضبط على كم حاجز مررنا أظن أنهم كانوا خمسة وربما أكثر لكني ظللت أحس باني أسير فوق الغيوم حتى وصلت لبوابة القطعة العسكرية وهناك أعدت طلبي أنا هنا لزيارة قريبي، ابتسم المجند وقال أعطني الأمانة أنا أوصلها له رفضت رفضاً قاطعاً وصممت أن أوصلها بنفسي عندها تكلم العسكري مع قريبي وطلب مني الرد عليه أخبرته أني أحمل له أمانة فقال أعطها للعسكري عند الحاجز ساورني الشك لربما أنه نسي ما القصة، ألححت أن أراه شخصياً غير أن قريبي طمئنني لا تقلق أعطها للعسكري هذا من جماعتنا عندها فقط تنفست الصعداء. سلمت الظرف للعسكري متمنياً لهم التوفيق وعدنا وعبرنا الحواجز مرة أخرى لكن هذه المرة لم أحمل أمانة كنت أحمل هذه السعادة التي يعرفها كل ثائر استطاع يوماً توصيل أمانة..

بعد عدة أيام كان فيديو انشقاق مجموعة جديدة من الجنود بينهم الشابان يبث على صفحة فيسبوك ظلت دموعي محبوسة في عيني وأنا أرى أبناءنا يخاطرون بحياتهم حتى لا يقتلوا يوماً الشعب الذي أقسموا للدفاع عنه.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل