وضعنا رفات الأمم المتحدة في حقائبنا وانطلقنا

محمد علوان8 مايو 2020آخر تحديث :
محمد علوان

حرية الشعوب وحق تقرير المصير وآلاف الشعارات المفرغة التي ما زالت تتغنى بها الأمم المتحدة إلى اليوم، جميعها لم تشغع لنا في عدم اقتلاعنا كأشجار من تراب وطن ضاق بابنائه فلم يعد يتسع للأحرار منهم ، فحزموا بقايا أمتعتهم وجراح أمانيهم وهجّروا إلى الشمال المحرر ، فقط لأنهم طالبوا بسقوط مجرم أفرط في سفك دماء شعب قرر أن يكسر قيد القهر المفروض عليه منذ أكثر من خمسين عاما.

في السابع من أيار/ مايوعام 2018 تجمع آلاف من أبناء ريف حمص الشمالي رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا على جسر مدينة الرستن فوق نهر العاصي -الشاهد النزيه الوحيد على الجريمة- بعد اتفاقية سوداء نصت على تهجير من لا يقبل بالعودة إلى رحى حكم أسد والمحتل الروسي الذي نفذ بطائراته مئات الغارات الجوية على المدنيين في المدينة ليرغمهم بقبول التهجير، وهذا ما حصل.

للمرة الاولى منذ ست سنوات نكسر الحصار بخطوات مريرة نحو عتبة مدخل المدينة من الجهة الشمالية، نعم لقد كسرنا الحصار منفردين نحو حافلات تاهت بنا في غلس الليل ومتاهات التغريب، فلم تجد الأمم المتحدة في قواميس انسانيتها الطافحة بالمبادئ ما تقدمه لنا يومها سوى بعض أرغفة الخبز وأكواب ماء ونحن على أبواب فراق التراب الذي احتضن آلاف الشهداء الذين قدموا أجسادهم جسورا يمشي عليها فجر الحرية نحو بزوغه ليعلن طلوع الصبح….

أخذ كل مهجر فينا يرنو بنظرة الوداع الأخيرة إلى مدينته التي اشترك العالم كله بجريمة تهجيره منها بعد أن تقاسموا الأدوار ما بين منفذ وخائن ومتغاضٍ ومؤيد.

الساعة التاسعة مساء… الأمواج البشرية تنتظر موعد الصعود إلى الحافلات، بدأت السماء تمطر بغزارة، قال بعضنا عن المشهد إن حمص تبكي فراق آخر أبنائها الأحرار، فيما قال أحد الشيوخ المرافقين لنا إنه -المطر- زيادة في الابتلاء من الله، فحقائب المهجرين الطافحة بالأحلام المكسرة غرقت بمياه المطر وكذلك آلاف من الأطفال المساكين الذين كانوا يظنون أنهم في رحلة إلى حديقة ألعاب سرعان ما سيعودون.

نظرت إلى مدينتي و شاهدت جزءها المكشوف على الميليشيات وتخيلت كيف كانت تبدو للحاقدين عندما كانت تحرقها بنيران مدافعها ودباباتها، فقد كنت أقف تماما في المكان التي كانت تقصف منه طيلة سنوات ست مضت … صعدنا إلى الحافلات بعد عدة ساعات أمضيناها في جمع أكبر قدر من الآمال المحطمة على تخوم الفراق وبقايا أحلامنا التي لفظت أنفاسها الأخيرة في ذلك اليوم.

بعض المهجرين أدمن التهجير، فالمسألة بالنسبة لهم ليست أكثر من انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، فأبناء مدينة حمص هذا هو التهجير الثالث لهم في الثورة اعتادوا على ابقاء حقائبهم مهيأة للرحيل في وطن عبثت به وتاجرت يد كل متسلق ومرابي وخائن فتحول إلى سلعة يتداولها مارقون يبست فيهم آخر عروق الحياء …

صعد جندي روسي إلى الحافلة وبدأ يتلو علينا بلغة عربية مكسرة شروط حمل السلاح في رحلتنا القسرية قائلا “كل مقاتل يسمح له بحمل بندقية واحدة وثلاثة مخازن وسوى ذلك سيصادر”، وابتسم محاولا تقمص شخصية الدليل السياحي اللطيف وكأن بلاده لم تحرق الأخضر واليابس بطائراتها قبل أيام قليلة، حاول بتصرفاته أن يقول لنا “نحن الروس وبالرغم من أننا مجرمون ولكننا أقل اجراما من جنود الأسد كما أننا لسنا خائنين مثلهم”.

انقضت آخر تفاصيل الوداع وبدأت الحافلات تشق العنان نحو مدينة قلعة المضيق، ولا شيء يذكر على الطريق سوى بعض التجمعات الطائفية لعدد من الرجال والنسوة الذين بدؤوا ينهالون علينا بالشتائم وعبارات النصر والصفير وكأنهم انتصروا بتهجيرنا، لم يدرك هؤلاء الحاقدون الأغرار أن النصر عندما يكون مبنيا على الخيانة وعندما يكون على الأطفال والنساء فإنهم سيقطفون ثماره علقما ونارا تكويهم من كل صوب في مستقبلهم المجهول.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل