بين دولة وثورة وعقيدة

سماح هدايا7 مايو 2020آخر تحديث :
بين دولة وثورة وعقيدة

  ما نراه ونسمعه من أخبارٍ  وقصصٍ عن فضائح وخلافاتٍ وصراعاتٍ في حلفِ نظام الأسد، وما كانَ قد تمّ تداوله  قبلَ ذلك من تخميناتٍ وشائعات حولَ الرئيسِ البديلِ مثارُ تساؤل؛ فلا شيء يخرج في الإعلام مجاناً، حتى ما يشاعُ في إعلامِ التفاهة، فله هدفٌ ومساق؛ سواء لإلهاءِ الناسِ عن قضايا مهمةٍ وخطيرة، أو لتسويقِ مشروعٍ، أو لتغطيةٍ على حدثٍ أو لإثارةِ فتنة. لا شكّ أنّ  الأوضاعَ  الداخليّةَ والعالميّة زادت في وضعِ النظامِ وحلفائه تعقيداً، خصوصاً، بتفاقمِ أزمةٍ اقتصاديّةٍ  وسياسيّة، قد تسرّعَ في  تآكلِ حلفِه وانهيارِه.

  ما يحصلُ قد لا يكونُ مؤشّراً لنهايةٍ قريبة وشاملةٍ للنظام؛ لكنّه لا بدّ يمهّدُ لذلك، وسيناريو الحلولِ البديلة موجودٌ لدى جميع المشاركين، لكنَّ مآلَ الحلِّ بيدِ من يتحكمُ على الأرضِ وبالأرض، حرباً أو سلماً.  التجمعّاتُ السوريّة السّياسيّةُ وغيرُ السّياسيّةِ الممتدّةُ على خارطةٍ جغرافيةٍ وتمويليّةٍ واسعة، قد أمضتْ عقداً في صراعاتٍ ومجادلاتٍ طويلة بشأنِ مستقبلِ سوريا السياسي والأيديولوجي والبدائل، وما زالت تستمرُّ في ردّات فعلٍ لصراعٍ عبثيّ بتناقضاتها وبتناقضِ مموليها، وقد لا يكونُ البديلُ السياسيّ منها؛ لكنَّ الشعبَ المنهوكَ بحربِه الطويلة وخساراتِه الفادحة وتضحياتِه الكبيرة، سيقفُ أبعدَ من ذلك، وسيختارُ الخلاصَ ويدعمُ رئيساً فوق الايديولوجيا والثوريّة، رئيساً يستطيعُ حمايته ومساعدته في استردادِ قوته، وتلبيةِ حاجاتِه المعيشيّةَ الأساسيّة. ومثلما لم يقبل بالنظام الطغياني القائم، لن يقبلَ، أيضاَ، بأيّ نظامٍ شبيه؛  لأنّ حركةَ التّاريخ ليستْ عبثيّةً، والشعوبُ تتحرّكُ وفقَ حركةِ التاريخ. قد لا تتحقّقُ اليوم مطالبُه كلّها، لكنْ، لا مكان في خيارِه لنظامٍ استبدادي بديل.

 هل يجبُ أن يكون القادمُ للحكم عقائديّا؟

     تجربةُ الحرب وخساراتُها الفادحة ودروسُها الكثيرة زرعتْ في أذهانِ السّوريين، باختلافِ طبقاتهم وعلمِهم، وعياً جديداً عاماً بالرفضِ والتشكيك، وليس بالسهلِ قبولُ تركيبةٍ سياسيّةٍ جديدة لا تضمنُ حياةً معيشيّةً كريمة بالأساسيات والضّروريات: صحة، وتعليم، وطبابة، وسلام وأمن، وغذاء، وكرامة.

الحدس بالمؤامرة والخديعة سيعملان سلباً وإيجاباً، وأيُّ نظامٍ يتمُ فرضُه سيكونُ محلَّ تشكيكٍ شعبيّ وسيخضعُ لرقابةٍ  شديدةٍ صارمة؛ لذلك تغييرُ وجوه الأشخاص أو تبديلُ جماعةٍ بجماعة، مآلُه الفشل ووصفةٌ للاضطراب وتأجيجِ الصراع حتى تظهرَ إرادةٌ شعبيّة لا تكونُ استثماراً نفعيّاً شخصيّاً أو فئويًّا أو منظماتيّاً أو طائفيّاً أو حزبيّاً.

    محتّمٌ على النظام القادمِ أنْ يكونَ قادراً على نقلِ سوريا من حالةِ الدمارِ والفوضى والفسادِ إلى الأمنِ والاستقرار والمحاسبة. وأن يملكَ القدرة على إدارةِ مشاكل التركةِ الثّقيلة وأعبائها، ليس بالضرورةِ أنْ يكونَ منتمياً عقائديّاً؛ فالواجباتُ كثيرةٌ وأكبرُ من الشعارات، والمسؤولياتُ الملحّة لا تقتضي اتجاهاً عقائديًّا، كمسؤوليات الجرحى والمعوّقين والمهجّرين والنازّحين والأمّيين والمشردين والمعتقلين والناجين، بقدرِ ما تستوجبُ عملاً عادلاً يردُّ لسوريا أمنَها واستقرارها، ويطردُ الميليشيات العسكريةَ والأمنيّة والقوى المتورطّة في القتل، ويقدّمُ التّعليمَ والصّحةَ ويتيحُ للناس مواردَ العيشِ الأساسيّة ويعيدُ لدولةِ سوريا هيبتَها أمام الشعبِ المشتتِ، ويبني المؤسسّات التي تدمّرت.  

    المراحلُ التي مرّت بها الثورةُ السّوريّة كانت عنيفةً جدا، أظهرت مكنونَ المشاكلِ وموروثَ الجهلِ ومفعولَ التّضليلِ الثّقافيّ والتّزييفِ التّاريخي والتشويه الديني والقومي، فاتّسعَ التناقضُ الحادُ بين الخطابِ والواقعِ، وأنتجَ المشاكلَ النّفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة وأمراضا معنويّة وجسديّة، وتركَ كثيرين غيرَ معنيين، في هذا الظرفِ بالتّفكير العقائدي والتّنظيرِ السّياسي، فأولويّاتُ تفكيرِهم حلُّ مشاكلِهم وتأمينُ حاجاتِهم الأساسيّة. أي يرتاح المجتمعُ، أولاً،  وبعدها تتولّدُ الأفكار. مقياسُ النجاحِ هو الخدماتُ لا الأدلجة الثورية. الشعبُ قامَ بالثورةِ ويتطلعُ حاليّاً إلى إدارةٍ تنقذ بلدِه من الحرب والفوضى، لكي يلتقطَ أنفاسَه ويتابعَ سيرَه.

بين السّياسي والثوري العقائدي

    مزاولةُ السياسةِ لإدارةِ شأنِ المعارضةِ دبلوماسيا مع الداعمين، أو إدارةِ شؤون جماعاتٍ حزبيّة وعقيديّة، يختلف عن العمل السياسي الوطني لإدارةِ الحياةِ الإنسانيّةِ للسوريين ولحقوقهم، بدءاً من تحريرِ الأرض إلى تحريرِ العقلِ والإرادةِ فبناءِ السّلمِ الاجتماعي، ويختلفُ عن الثورةِ كحالةِ تمردٍ ورفضٍ وتفكيك. الثوري العقائدي، لا يعني الأفضل، الآن، لحكمِ سوريا وإدارةِ شؤونها، وقد ترفضه الدول المتدخّلة في الوضع السوري، وهي متناقضة المصالح والمناظير. من المؤكّدِ أنَّ هذا الأمرَ إشكاليٌّ، خصوصاً، بما في المخيّلةِ الشعبيّةِ للسّوريين الذين تمّ تدريسهُم في التّاريخِ والثّقافةِ أنّ البطولةَ القوميّةَ والأخلاقَ الساميةَ والثورةَ على الظلم، هي صورةُ القادة السّياسيين؛ فجرى تعميمُها على الثورة وأشخاصِها، وعلى معارضي نظام الطّاغية، وأصبح مفترضاً أنّ كلَّ سياسيٍّ ضدَّ النظامِ ورئيسِه هو بالضرورة ثائرٌ وطنيٌّ شريف مثالي؛ وطبعاً، هذا لا يوافقُ الصورةَ الواقعيّة، فالمعارضون أناسٌ من خلفياتٍ قيميّة مختلفة، تأثّروا بواقع الاستبدادِ والفساد، ربّما يكرّرون سلوكاً  قمعيّاً وفاسداً، وقد ظهرَ في المشهدِ السياسي كثيرون، لا كقادة وطنيين، ولا كأصحابِ مبادىء سامية. كما لا يوافقها صورة السياسات العالميّة التي تقودُ الشعوبَ وتحكمُها وفقَ المكاسبِ والمصالحِ والنفوذِ وتُوجِدُ بالعولمةِ مؤسّسات سياسيةً وحقوقيّةً وإغاثيّةً وإعلاميّةً وثقافيّة لخدمتها.

الشعبُ السوري الذي جرّدَه قمعُ النظامِ من أبجدية الوعي السياسي اصطدمَ بالمشاريعِ والصفقاتِ التي اخترقتْ الثورةَ، وبالذين رفعوا شعاراتِها؛ فصارَ يشكّكُ ويخوّنُ الذين تصدّوا للثورةِ وللمعارضة بالعمل السياسي، وهو ماسينعكسُ، مستقبلاً، على من يحكمُ سوريا، فيبقى في امتحانٍ متواصلٍ لمصداقيّتِه وتعهّداته، أكثر من امتحانِ عقائديّتِه. 

     مجتمعُ الثورةِ والمعارضة هو المجتمعُ السّوري، ليسَ طهرانيّةً وقداسة. القادةُ والمفكرون والوطنيون لا يأتون من فرنسا وأمريكا وروسا وإيران، بل تنتجهم التجربةُ الوطنيّةُ الاجتماعيّةُ والفكريّة والسياسيّة لبلادهم. الثورةُ جاءت طفرةَ تغييرٍ، وعملتْ على تهديمِ النظامِ القمعي الطغياني. والمرحلةُ القادمةُ عمليّةٌ طويلة لبناءِ وعي سياسي وأحزابٍ وحركاتٍ فكريّةٍ تنهضُ بالوطن والمجتمع.

 أحزاب سياسيّة للمستقبل

     هناك ضرورةٌ  كبيرة وملحّة لتكوين أحزابٍ تسهمُ في العمليّةِ السياسيّةِ القادمة وتملأُ الفراغ َالسّياسي، ويبدو الأمرُ شائكاً، حاليّا، في سوريا الخارجةِ من الاستبدادِ وحربٍ فكّكتْ كلَّ شيءٍ. فبناءُ الأحزاب يقتضي أرضيّةً فكريّةً وفلسفيّة، ويستلزمُ نضجاً اجتماعيّاً وسياسيّا وجوّاً ديمقراطيّا، وإلا فالتجاربُ ممسوخةٌ ومنسوخةٌ ومستوردة. الواقعُ السوري لا يخلو من تجارب فكريّةٍ وسياسيّة وتياراتٍ، لكنّها تستلزم تطويراً وتجديداً، بنزعِ  الهيمنةِ الثقافيّة الاستعماريّةِ والحزبية التي تسطو على إنسانيتها، وكسرِ وثنيّة الرجعيّة التي تشوّهُ  التفكير.

   تكوين الحركاتِ الاجتماعيّةِ والفكريّة التي تفضي إلى الأحزاب السياسيّة، يبدأُ من الشعبِ وينبعُ  منه ويشملُ كلَّ فئاتِه، ولا يقتصرُ على طبقةِ المثقفين والنخبة؛ لأنّها طبقةُ تنظيرٍ ونقلٍ واستيرادِ أفكار، فتاريخُها يثبتُ أنّها لم تنتجْ المفاهيمَ ولم تبدعْ مساراً فكريًّا أصيلا. مراكزُ الثّقافة والبحوث والإعلام التي تديرها طبقةُ النخبةِ السياسيّة أو جماعاتٌ فئويّة أو رجالُ الأعمال أو مستطلعون غير قادرة على التنميةِ الثّقافيّة، والدليلُ ما تنتجُه للاستهلاكِ من إعلامٍ  هابطٍ منحط، وحراكٍ ثقافيّ مبتذل، لا إبداع ولا معالجة رصينة للمشاكلِ والقضايا.

مراكز البحوث التي تملأ ساحات المعارضة جمهورُها محدودٌ ومحدّد، ومسائلُ عملِها مستهلكة،  كأنّها في محاضراتِها وأبحاثِها تخاطبُ نفسها أو فريقها، أو تعيدُ تداولَ ما نوقشَ عقوداً، بالأشخاصِ والألوانِ ذاتِها. لذلك تأثيرُها التّنموي سطحيٌّ، وهي لا تقبلُ، غالباً، من وما لا يتماشى مع أهدافِها ومصالحها، مما يعوّق الابتكار.  

حريّةُ التفكيرِ والتعبيرِ في ميدان عادل مقدمةٌ لنموّ تياراتِ التفكيرِ وبناءِ الأحزابِ والقادة لكي ينهضوا بسوريا من ثورةٍ وحربٍ وعصبيات إلى دولة مستقرّة.   

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل