على مدى ما يقرب من عقدين من الزمن استطاعت تركيا أن تبلغ مصاف الدول الكبرى حقاً. وقد سارت على هذا الطريق بخطى ثابتة ومدروسة ومتأنية تبين معها ثقل هذه الدولة المحورية ووزنها الإقليمي والدولي الذي راح يزاحم ما يعرف بالدول العظمى بالمعنى الكلاسيكي المتداول، في مناسبات عدة وعلى أكثر من صعيد.
وليس هذا من فرط المديح أو من قبيل المبالغة، فالأرقام والوقائع تتكلم. فإذا ما نظرنا إلى الجانب الاقتصادي، نرى أن تركيا تقدمت من المرتبة 117 على مستوى العالم اقتصادياً إلى المرتبة 17، وذلك على الرغم من القيود التي فرضت عليها بمعاهدة لوزان التي سينتهي العمل بها عام 2023، حيث ينتظر أن يقفز الاقتصاد التركي قفزة نوعية تتمثل باستغلال الثروات الباطنية والممرات المائية الهامة، ناهيك عن نتائجها الجيوسياسية التي لا يمكن إغفالها.
وفي الواقع، ساعد الموقع الجغرافي المميز الذي يتوسط قارات العالم الثلاث تركيا على أن تكون أرضها ممراً لخطوط الغاز العابرة إلى أوربا، وأن تكون سماؤها ممراً للطيران العابر بين القارات، الأمر الذي قاد مؤخراً إلى إنشاء أكبر مطار في العالم في إسطنبول التي قال عنها نابليون بونابرت يوماً “لو كان العالم كله دولة واحدة، لكانت إسطنبول عاصمته”.
وليست تركيا بحاجة إلى شهادة في حسن طبيعتها وجمالها، بسهولها وجبالها، أنهارها وبحارها، فهي وجهة سياحية عالمية، ولديها بنية تحتية وخدمات تجعلها قبلة للسائحين، ومركز جذب للملايين. هذا، ونشهد بين الحين والآخر تدشين مشاريع عملاقة لها تصانيف عليا بين مثيلاتها على مستوى العالم، كالمدن الطبية، والطرق والجسور والأنفاق، والمساجد، والمكتبات.
ومن نافل القول ذكر النشاط التجاري والتصدير الذي يشمل أغلب دول العالم، حتى بلغت الصادرات التركية عام 2019 أكثر من 180 مليار دولار، تمثلت أساساً بالملابس والمنسوجات والسيارات والمنتجات الزراعية وغيرها.
ويلاحظ في التجربة التركية في النهضة والتقدم أنها شملت جوانب الحياة المختلفة ولم تقتصر على النهضة الصناعية مثلاً، أو الزراعية، أو التكنولوجية، على حساب الجوانب الأخرى؛ وإنما تقدمت الدولة بكامل كيانها لترتقي مفرداتها على نحو متوازٍ ومتوازن عكس بحق جدارة وكفاءة وبراعة قيادة البلد ككل في مناخ ومخاض ديموقراطي مرّ بمنعطفات ليست سهلة كان من أبرزها التحول من النظام البرلماني في الحكم إلى النظام الرئاسي. ومن هذا المنظور، نرى أن أكثر ما يميز هذه النهضة هو الاعتماد على الكفاءات الوطنية، فالاعتماد على استيراد الخبرات لن يساهم بتطور حقيقي مستدام ما لم يضطلع أبناء البلد بتلك المهمة. فانتشرت الجامعات ومراكز البحوث، وكان العمل يجري بصمت غالباً، حتى رأينا صناعات متنوعة أثبتت جودتها وحضورها وتفوقت على مثيلاتها من أوربا وغيرها. وتحضر في هذا السياق السيارة الكهربائية والسفن، وصناعات عسكرية كالمروحيات والعربات والطائرات المسيرة، بكل تأكيد.
وفي واقع الأمر، دفع كل هذا الزخم في النهضة وارتقاء البلاد في مجمل مظاهرها إلى لعب أدوار بالغة الأهمية في السياسة والانخراط في الصراعات الإقليمية كخيار لتعزيز الأمن القومي، والاتكاء على الإرث التاريخي والإسلامي لتسجيل حضور بطابع إسلامي على الساحة الدولية تجسد في مناسبات كثيرة بمواقف منافحة عن الإسلام وما لحقه من شبهات العنف والإرهاب والانتقاص من حقوق الإنسان، وذلك في محاولات وجهود مضطردة لتصحيح المفاهيم ووضع الأمور في سياقها الصحيح وتجلية الحقائق للطرف الآخر. أضف لذلك نصرة الأقليات المسلمة كالروهينغيا والأويغور والجاليات الإسلامية في أمصار كثيرة تعاني من تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا واليمين المتطرف.
فمتانة الاقتصاد وقوة مقدرات الدولة شكلت أرضية راسخة للتحرك سياسياً وعسكرياً في الملفات الساخنة، في سوريا وليبيا، على وجه الخصوص، والتعامل بندية مع القوى العظمى. وكان هذا أبرز ما ميز السياسة التركية في الآونة الأخيرة سواء مع الولايات المتحدة أو روسيا أو الدول الأوربية. يأتي كل ذلك تحت سقف الواقعية السياسية، والتقاء المصالح وتضاربها على مستوى الإقليم وعلى المستوى الدولي، ومحاولة الإمساك بخيوط اللعبة المتشابكة على نحو من التعقيد، والمحافظة ما أمكن على شعرات المصالح مع هذا الطرف أو ذاك من أن تنقطع. هذا، وتحضر تركيا في هذه الملفات بالرغم من كل الضربات التي يوجهها لها أعداؤها مرة تلو الأخرى، كالحرب الاقتصادية، والإعلامية، وليس آخرها المحاولة الانقلابية الفاشلة. لكن، ومع كل ضربة كهذه تشعر وكأن مناعة البلد تتقوى، وتزداد عزيمته وإصراره على متابعة مسيرته بقوة وتصميم أكبر؛ إذ تبرز وحدة الشعب وقت الأزمات مقدمين مصلحة الوطن العليا على المصالح الحزبية والفئوية التي لا تغيب في الأوقات العادية.
ثمة بعد إنساني تتحلى به نهضة تركيا لا يمكن نكرانه في إطار الحديث عن التقدم المادي الذي تم تحقيقه، والذي يتجلى داخلياً باستضافة ما يقارب خمسة ملايين لاجئ جلهم من السوريين والعراقيين والأفغان وغيرهم من الدول المنكوبة؛ ويتمثل خارجياً بالمساعدات الإنسانية والإغاثية في بقاع شتى من العالم. وقد خلق هذا البعد شعوراً من المحبة والتعاطف جعل الكثيرين حول العالم يتابعون أخبار تركيا ويهتم بشؤونها وانتخاباتها ربما أكثر من اهتمامه بشؤون بلده. وها هي تركيا ترسل مساعدات طبية إلى إسبانيا وإيطاليا بعد انكشاف ضعف البنى الصحية والطبية في كثير مما يعرف بالدول المتقدمة جراء تفشي وباء كورونا.
على مدى العقود الماضية شاهدنا تجارب نهضوية متعددة في بعض الدول شكلت مثار دهشة وإعجاب، وكانت كلمة السر وراء تلك النجاحات الإرادة المخلصة والإدارة الناجحة، وهي التي تخول بلداً ما حجز مكان بين الكبار.
Sorry Comments are closed