«داعش»: رغبة العالم المحرّمة

فريق التحرير19 أغسطس 2016آخر تحديث :
«داعش»: رغبة العالم المحرّمة

ياسين الحاج صالح

* ياسين الحاج صالح
«داعش» قوة نافعة لقوى إقليمية ودولية متعددة، ونفعها يشرح جانباً من الرغبة غير المصرح بها في إطالة عمرها. ولعلّ جانباً آخر يتمثل في فتنة داعش، ما تتيحه من تباين لهذه القوى عنها وتوحد في ما بينها، على رغم المشابهة في (سوء) الأفعال، بل التفوق في الشر.
أول المنتفعين، الدولة الأسدية التي أتاح داعش لها ضرباً من القبول الدولي عبر شراكة «الحرب ضد الإرهاب»، وسحب الاهتمام الإعلامي الدولي بعيداً منها، فحجب جرائم الأسديين الأكبر بما لا يقاس وراء جرائم داعش الأكثر مشهدية والأحظى بالتغطية، ووفّر مسوغات لقوى سياسية واجتماعية في الغرب للدعوة إلى التحالف مع الدولة الأسدية في مواجهته. حلّ داعش على هذا النحو محل إسرائيل التي كانت مواجهتها المفترضة هي حجر الزاوية في التسويغ الأيديولوجي للحكم الأسدي. ومعلوم أنه بينما كانت تجري «مواجهة» إسرائيل عبر السنوات والعقود، خاضت الدولة الأسدية حربين كبيرتين ضد محكوميها، قتل في الأولى عشرات الألوف وفي الثانية مئات الألوف، وفتكت بالفلسطينيين، وبخصومها من اللبنانيين، وحولت الجمهورية في سورية إلى سلطنة وراثية. داعش كائن مرغوب لأنه يتيح للأسديين إطلاق أيديهم في ما يحكمون من سورية. ولو لم يوجد هذا العدو المشتهى لكان واجباً تخليقه، وللدولة الأسدية بعض فضل في تخليقه فعلاً، إن في المرحلة العراقية بعد الاحتلال الأميركي، أو في صور متعددة في المرحلة السورية (إطلاق سراح سجناء جهاديين في 2011، تجنب مواجهة داعش إلا لماماً حتى التدخل الأميركي في أيلول/ سبتمبر 2014). والأكيد، أن الدولة الأسدية تفضل فوز داعش في أية مواجهة مع الثائرين عليها، وبشار الأسد يتكلم دوماً على إرهابيين، قاصداً بهم جميع الثائرين عليه، من دون أن يشير إلى داعش بالاسم.
وداعش نافع جداً لروسيا، يتيح لها أن تستأنف معركة الأسديين من أجل تحطيم الثائرين عليهم بذريعة هذا «العدو العالمي»، وخلق قضية مشتركة تجمعها بالأميركيين، وضم الدولة الأسدية التي تُحامي عنها كشريك في القضية المشتركة مع الأميركيين والغربيين. وبعد أن تجندت الميديا ومراكز الأبحاث الغربية منذ الصفقة الكيماوية الروسية – الأميركية قبل نحو ثلاثة أعوام في تغذية الهوس العالمي بداعش، وفي مضاءلة الفوارق بينه وبين عموم الثائرين على الدولة الأسدية، لم يبقَ لأي كان مسوغ للاعتراض على الغزو الروسي لسورية وحماية الأسديين. وخلال ما يقرب من عام من تدخّلها، كرست روسيا معظم جهودها لمواجهة مقاومي النظام في مناطق حلب وإدلب، وإن كانت ضربت في الرقة أحياناً، ونجحت في قتل مدنيين كدأبها منذ البداية.
وداعش عظيم النفع لإيران، يطبّع إطلاق يدها في العراق، ويضفي على وجودها العسكري العلني في سورية ووجود أتباع لها، لبنانيين وعراقيين، قبولاً من الخصوم المفترضين لها ولأتباعها، ليس الأميركيين وحدهم وإنما الإسرائيليين كذلك. والإجماع العالمي على رفض داعش يساعد إيران، مثل غيرها، على تسويغ أية جرائم ومخططات خطرة، ومنها توسيع السيطرة الشيعية عبر مجال يمتد من المركز الإيراني عبر العراق إلى سورية ولبنان. وأخيراً، فإن ما سهل لإيران توقيع الصفقة النووية هو ما أتاحه وجود داعش من تقبل أميركي وغربي لحربها في سورية والعراق.
وفي حاشية إيران، داعش عدو مرغوب لنظام العبادي في العراق، ولحسن نصر الله وحزبه في لبنان. داعش مرغوب للعبادي وحشده الشعبي الذي يشابه داعش في وحشيته وطائفيته، لا يفترق عنه إلا في تعميده السياسي والإعلامي كعدو للعالم. وداعش عدو مرغوب لحزب الله لأنه مثله ميليشيا طائفية مسلحة، لكنه خلافاً للتنظيم ليس قوة خارجة عن السيطرة: له عنوان معلوم، ويأتمر بأمر دولة معلومة، وأظهر ما يلزم من «عقلانية» حيال المسيطرين عند الاقتضاء. داعش هو الفزاعة المناسبة التي تجعل أي جرائم ترتكب، وأي أدوار سياسية إجرامية تمارس، شيئاً يتواطأ على تسهيله الخصوم بالذات، الأميركيون والغربيون، والإسرائيليون.
وداعش مفيد جداً لقوميين كرد، يُحبِّبون أنفسهم عبر التجند لمواجهته لتحالف محاربي الإرهاب الدوليين الأقوياء الذين يريدون مواجهة داعش حصراً (وليس الدولة الأسدية، وهو ما لا يناسب أحداً من السوريين الثائرين). ويخلق وجود داعش الالتباس المفيد بين «التحرير»، منبج أخيراً وتل أبيض قبلها، والاحتلال والتوسع، وكسب الوقت لفرض وقائع على الأرض، إن لم تكن ثابتة، فربما تكون ورقة سياسية نافعة يوماً ما. كما يغطي وجود داعش على شكاوى من يقع عليهم غُرم سلطة الأمر الواقع القومية الكردية، فتجعلهم غير مرئيين وغير مسموعين. وغير المكاسب المادية، يوفر وجود داعش للقوميين الكرد فرصة لتمايز في النمط الاجتماعي والفكري، على نحو مماثل لما وفره لبشار الأسد ومجتمع «السوريين البيض».
وداعش مفيد جداً لأمثال نظام السيسي في مصر، إذ يضفي عليه قبولاً دولياً أكبر، ويتيح له وصم الإخوان الذين انقلب على حكمهم بالداعشية والإرهاب.
وداعش إن لم يكن نافعاً للأميركيين فهو غير ضارة. معلوم أن تدخل الأميركيين ضد داعش أعقب استيلاء الأخير على الموصل، واقتصر بقدر كبير على العراق، وظل شديد الفتور في سورية. ويناسب الأميركيين في سورية أن يُنهَك خصومهم كالروس والإيرانيين وأتباعهم أنفسهم في صراع سوري لا يتضررون هم (الأميركيون) منه. وهو ما يضعهم في موقع يُمكّنهم من هندسة الأوضاع السورية على نحو يتيح التحكم بالمحصلة العامة من دون خسائر تذكر من طرفهم. وإذا استلزم الأمر ضحّى الأميركيون بهذا الطرف أو ذاك، ويسّروا دعم هذا أو ذاك ضد خصم منفلت من السيطرة، فيكسبون على حساب غيرهم.
ثم إن وجود داعش أتاح للأميركيين هيمنة أوسع على العمليات الأمنية في الإقليم، وعلى العمليات المصرفية أيضاً. وهو بعد هذا كله نافع جداً للغالية إسرائيل على أنحاء متنوعة. خلق فراغ قوة مكتمل حولها، والمزيد من تطبيعها كدولة يهودية لعقود مقبلة، وتطبيع نموذجها الأمني القائم على القوة والإبادة السياسية للخصوم، وما قد تقتضيه أحياناً من إبادة فيزيائية، فضلاً عن تسهيل ما يناسبها من ضربات عسكرية في سورية من دون أن يستثير ذلك حتى تلك التعليقات الطقسية من الأمم المتحدة أو القوى الدولية النافذة عن تعارض تلك الضربات مع «عملية السلام» أو مع «الاستقرار في المنطقة».
أتاح داعش لإسرائيل أيضاً إشغال الموقع الذي يتقرب منه الروس ملتمسين رضاه، بينما هم يُحامون عن الدولة الأسدية.
ويعود داعش بنفع عظيم على تيار اجتماعي سياسي في منطقتنا، يعرف نفسه بالحداثة والعلمانية والحضارة، يناسبه مثلما يناسب بشار الأسد تصوير خصومهم كدواعش. وكانت معنوياته تدهورت بعدما تفجرت الثورات العربية وما بدا من انتزاع جمهور واسع للسياسة والفضاء العام، لتعود إلى الانتعاش مع تعثر الثورات وصعود داعش. أتكلم على تيار عنصري نخبوي، أسمي المكون السوري له مجتمع السوريين البيض، وله حضور مهم في الثقافة في إقليمنا وفي العالم، ويجد قضية مشتركة مع أمثال بشار الأسد والسيسي، وبوتين، ويرحب بـ «صراع الحضارات»، ويعرض جمهوره كموناً فاشياً قوياً.
ولجميع القوى المذكورة، ليس داعش تلك القوة الاحتلالية الفاشية المعلومة حصراً، بقدر ما هو كناية عن طيف منتشر يمكن أن يتّسع ليشمل كل معارضي الدولة الأسدية تقريباً (روسيا والأسديين)، أو كل العرب في شمال سورية تقريباً (القوميين الكرد)، أو كل الإسلاميين تقريباً (كل القوى المذكورة)، أو كل المسلمين السنيين تقريباً (تيارات اليمين الفاشي في الغرب وعندنا). وهو ما ينفع كثيراً في جعل آلام هذا الطيف الداعشي العريض ومحنه شيئاً غير ذي بال.
ولأن داعش نافع لقوى متنوعة، كانت قبل سنوات قليلة متخاصمة، إن لم تكن متعادية، ويجمعها التوحش والولوغ في الدم، فإن في ذلك ما يشرح فتور الهمة الجامع في مواجهته. وإذ توسع الأمداء الممكنة للعنف لهذه القوى العنيفة، ييسِّر لها أن تفعل مثله (مثل داعش)، مع إنكار صفتها الداعشية.
داعش منفر ومكروه، لكن وجوده أعظم نفعاً من زواله السريع، وهو لذلك مرغوب، وعنصر ترسيخ للتقاربات والشراكات وعلاقات الحب الناشئة، أو لتبادل المنافع بين قوى لا تملك ما تعطيه لغيرها، ولا تستطيع إدماج أحد في نموذج إيجابي. بتأكيدها الآخرية المطلقة لداعش كلما اشتد تماثلها العملي معه، إنما تكبت تلك القوى رغبتها الشديدة في هذا العدو المِخبري النادر المثال. ولعل انحصار المعالجة العالمية لمشكلة داعش، والسلفية الجهادية عموماً، بالإبادة المحضة، وإخراجها من السياسة ومن العدالة، مؤشر الى قياس شدة الكبت، والهرب من لقاء النفس للتعرف إلى الداعشية الذاتية.
في المحصلة، داعش اسم للرغبة المحرمة المكبوتة، التي لا تعترف بها هذه القوى لغيرها، ولا تصارح بها نفسها. تحب كرهها لداعش، فلا تكف عن تأكيده وتكراره، فتساعد نفسها على عدم مساءلة هذا الكره عن صدقه، وتضلل غيرها في شأنه.

* نقلاً عن: “الحياة”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل