المعلومات المؤكّدة – وليس التمنيات – شحيحة حتى الآن، لكن عوامل عدة باتت تحدّد السنة الـ 10 للمحنة السورية كسنة حاسمة. إذ تضع رحيل الأسد أو ترحيله في إطار تقاطع مصالح دولية، مع تصوّرٍ لـ “بديل” ينتظر توافقاً أميركياً – روسياً.
هل يُنظَر الى أي شيء هذه الأيام إلا من زاوية “كورونا”. يقول محللون إسرائيليون إن الفيروس يساعد بنيامين نتانياهو في تمييع أزمته، إذ نال تأجيلاً لموعد محاكمته. ويعتبر محللون اميركيون أن الخسائر التريليونية جرّاء الفيروس بدأت تعصف بحظوظ دونالد ترامب في إعادة انتخابه. وبدا حكام الصين وإيران أخيراً كأنهم على خطّ واحد، بمنطلقَين ايديولوجيَين متناقضَين لكن بعقليتيَن متشابهتَين، بأن حلول “كورونا” في ربوعهم قد يكون “حرباً بيولوجية” صمّمتها الولايات المتحدة ضدّهم، لكن صادف أنها أخذت بدربها مناطق أميركية وحلفاء ككوريا الجنوبية وإيطاليا وغيرهما. وساهم التركيز على الفيروس في حجب الأضواء عن أحداث أخرى مهمّة، منها مثلاً تمرير تعديلات دستورية تسمح لفلاديمير بوتين بالبقاء في سدّة الحكم حتى سنة 2036 وكأنها مستوحاة من تعديلات سبقه اليها بشار الأسد. لكن الفيروس تسبّب بتأجيل انتخابات ما يسمّى “مجلس الشعب” السوري من نيسان (ابريل) الى أيار (مايو)، وهي مهزلة يريدها الأسد إرهاصاً لمسرحية إعادة انتخابه السنة المقبلة لولاية “أبدية” أخرى.
ربما يساعده “كورونا” في ذلك، وربما يعمل ضدّه، لكن تجربة الأعوام التسعة قد تكون ملأته اقتناعاً بأنه “الحظ” الى جانبه. كيف لا وقد تضافرت أحداث وأزمات كثيرة لتشغل المجتمع الدولي عن المأساة السورية، من ايران الى كوريا الشمالية، ومن اليمن الى ليبيا، الى خلافات دونالد ترامب مع الصين وروسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، كلّها مسائل ربما أشعرت الأسد بأن قدَراً ما هندسها لتخفيف الضغوط عنه. لا شك أن ضربة الحظ الكبرى كانت تلك التي جمّعت أهدافاً استراتيجية عدة وألهمت بوتين بأن تدخّله في سورية سيمكّنه من تحقيقها، لكنه أهمها لم يتحقق بعد، فبمقدار ما أن النار العمياء جعلت “المهمة” في سورية سهلة بمقدار ما أن استثمارها يبدو صعباً وعسيراً، تحديداً بسبب الأسد.
ها هي السنة العاشرة تحلّ على سورية في محنتها الكبرى. ومنذ تظاهرة الحريقة في دمشق أو مجزرة الجامع العمري في درعا وما تلاهما عام 2011، صار كل يوم في الأعوام التسعة يوماً زائداً في عمر نظام فقد كل شرعية كان يعتقدها ممنوحة، ولو مخاتلةً، من الشعب السوري. أثبتت الأيام والتجارب، في كل مكان وزمان، أن ما يُفرض بالبطش والدموية ثم يُقاس بالخوف والصمت والاستكانة هو حال إكراه وقهر، ولا يمكن أن يكون “شرعية”. الذين ثاروا على النظام قالوا كلمتهم ولم يبدّلوها، بمن فيهم الذين يعيشون اليوم قسراً “تحت سيطرته”. والذين كانوا وظلّوا يوالونه لم يعد يعني لهم ولا هم يعنون له – شيئاً، فلا هم سندٌ يعينه في محنته الحالية، ولا هو ركيزة “الاستقرار” التي يحلمون بها بعدما بشّرهم بأنه يحقق انتصاراً تلو انتصار.
تكمن محنته في أنه لم ولن يُمكّن من التمتع بـ “الانتصارات” التي انتظرها وسجّلها باسمه، ثم رآها تُحسَب إما محسوبة للإيرانيين أو للروس، بدليل أنهم ينتزعون منه ثمنها بأشكال شتّى. الى حدٍّ ما كان يمكن للأسد اعتبار أوضاعه المعنوية أفضل في الأعوام التي كان عانى خلالها هزائم وتراجعات كادت أن تطيحه. قال الإيرانيون أولاً أن لولاهم لكان سقط، ثم جاء الروس وقالوا إنهم أنقذوه. كان يعتقد أن الدول تهادنه أو تسايره أو تتنافس عليه لأنه يملك مفاتيح الموقع الاستراتيجي الأهم في الشرق الأوسط، لكن ما فات الأسد في اللحظة الأولى لثورة الشعب هو ما يفوته الآن. فاته أن مشكلته داخلية في الأساس، وأنها لا تحلّ بالتفريط بالشعب واستسهال القتل والتفنن بكل أنواع الإجرام. ويفوته الآن أن صلاحيته توشك على الانتهاء مع انتهاء دورة التخريب الشامل، فقد أنجز كلّ ما يُتوقّع منه واللعبة تغيّرت كليّاً. لم يعد هو محورها بل سورية، ولم يعد الحلفاء متمسّكين به لذاته ولما يمثّل بل تنصبّ حساباتهم حالياً على تقدير مستقبل مصالحهم.
لدى النظر الى المناورات والتجاذبات الحاصلة في شمال سورية، يتبيّن أن دول “ثلاثي استانا” غارقة في مسارات تكاذب بلا سقوف، فهي تدّعي الحفاظ على “سورية موحّدة” لغايات متنافرة، روسيا لأنها تريدها كلّها تحت احتلالها، وإيران لأنها تريد تحصين مستوطنات نفوذها، وتركيا لأنها نريد الاحتفاظ بالمناطق التي انتزعتها. لكن يتبيّن ايضاً أن الولايات المتحدة باقية رمزياً لحثّ روسيا على ضبط شريكيها الإيراني والتركي ليكون ممكناً البحث معها عن صيغة لسورية ما بعد الحرب، وفي كل السيناريوات المحتملة لتفاهم الدولتين الكبريين لا يمكن تصوّر دور للأسد، خصوصاً أنهما تسترشدان القرار 2254 كوثيقة صاغتاها معاً وتتضمّن كل عناصر حلٍّ نهائي.
عشر سنين من التدمير المنهجي لسورية وشعبها، بالاعتماد على الأسد، ستكون كافية. خمسة أعوام كافية أيضاً للدور الروسي بحاله الراهنة إذ غدا مكلفاً بأكثر مما يتوقّعه بوتين ويتحمّله، بل لم يعد يجديه الانتظار فالمواقف الأميركية والأوروبية لن تتغيّر حتى لو ضغط عليها بقوافل اللاجئين عبر تركيا. تلك المواقف لا تمانع بقاء الأسد ولا تطالب بوتين ببتّ مصيره، لكنها أبلغته أن يتدبّر أمره في هذه الحال وألّا يتوقع منها سوى اسهامات إنسانية، لا إعمارية ولا سياسية.
بطبيعة الحال هناك الكثير المتداول ولا يمكن الركون اليه، فكثيراً ما راجت توقعات في شأن رحيل الأسد وكانت مبنية على محادثات لم تنضج أو على تمنيات. بمعزل عن هذه الاعتبارات أصبح رحيله الآن ترجمة لتقاطع مصالح دولية أهمها روسية، فقد انتهى دوره من جهة، ومن جهة أخرى باتت هناك ملامح لبديله في انتظار توافق دولي نهائي عليه.
Sorry Comments are closed