مع تباشير الربيع، وبعد تسع سنوات على بداية الثورة السورية، سادت حالة من الشعور بعودة الزخم لروح الثورة. هذه الحالة التي خلقتها عملية “درع الربيع” التركية التي انطلقت ضد النظام وداعميه في الشمال الغربي من سورية، أثلجت صدور قوم مؤمنين بحتمية انتصار الحق على الباطل ولو بعد حين. فمشاهد سقوط الطائرات التي قصفت السوريين، وتهاوي مروحياته التي تناوبت على إلقاء البراميل المتفجرة فوق رؤوس الأبرياء، وسحق دباباته، وهلاك جنوده، كلها كانت مدعاة لإنعاش روح الثورة من جديد، وتخفيف شعور القهر الذي ما فتئ يمضغ نفوس المظلومين والمهجرين.
وبات من المؤكد أن هذه الهجمة التركية التي أعقبت مقتل العشرات من الجنود الأتراك بقصف من قبل النظام، وتزامنها مع انتهاء المهلة التي حددتها تركيا لانسحاب قوات النظام وميليشياته إلى حدود مناطق خفض التصعيد المتفق عليها في تفاهمات آستانا، أعادت إلى الوجدان شعور النصر الذي افتقدنا طعمه ردحاً من الزمن، وجربنا خلالها حس التشفي بوجع الظالمين وقد رأيناهم كيف يألمون ويلطمون، بعد أن أخذتهم العزة بقوتهم وجبروتهم على الأبرياء العزل. فليس أجمل من منظر طائرة تستعجل الوصول إلى الأرض بعد أن عانقها صاروخ، ومروحية تجرب السقوط الحر؛ وليس أفخم من شعور مهجر ونازح يراقب منظراً كهذا.
لم تلبث هذه الحالة التي سادت شمال غرب سورية حتى انتقلت إلى جنوب غربها حيث مهد الثورة الأول. فقد شهدت درعا عودة هجمات للثوار هنا وهناك على حواجز ومقرات النظام والقوى المساندة له. وذلك رغم ما جرى من مصالحات وتسويات لم تكن – في الحقيقة – عن قناعة في معظمها، ولكن صعوبة الموقف وخذلان القريب والبعيد أحوجهم لذلك. فهيهات هيهات أن تعود الأمور لسابق عهدها بعد أن انتفض الشعب بوجه الطغاة، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء رغم تواضع الإنجازات. وفي شرق البلاد يتململ الناس بين الحين والآخر على الرغم من عودة قبضة النظام لتلك المناطق، فتخرج مظاهرات وتقام وقفات احتجاجية يتجدد من خلالها رفض السلطة القائمة وتجديد العهد على متابعة الكفاح مع تواضع الإمكانات.
وبالنظر إلى حقيقة استمرار الثورة طوال هذه السنوات التسع وإصرار الشعب على النضال حتى النفس الأخير ضد البغاة من جيش خائن لمبادئه، وميليشيات طائفية، ومرتزقة جرت لملمتهم من أصقاع الأرض، لهو خير دليل على اتقاد جذوة الثورة والإيمان بحتمية انتصارها. ولنا أن نعزز القناعة بالنصر، والأمل بتحقيق ما نصبو إليه من حرية وعزة وكرامة، من سير الثورات التي سبقتنا والتي حققت مرادها في نهاية المطاف، فلا يأس ولا قنوط ونحن نبذل الغالي والنفيس في سبيل التغيير للأفضل.
لقد ذاق السوريون صنوف العذاب في غياهب سجون النظام ومعتقلاته ومسالخه البشرية، فكم شاهدنا صوراً وفيديوهات تقشعر لها الأبدان، وروى الكثير منهم قصص الاعتقال والتعذيب، حتى صار الموت أمنية المعتقل. ودمرت مدن وأحياء بكاملها، وغدت ركاماً يبعث على الأسى. مشاهد هدم المباني على رؤوس ساكنيها صارت جزءاً من الحياة اليومية، وإخراج الضحايا من تحت الأنقاض، منهم من قضى نحبه ومنهم من كتب له البقاء. ناهيك عن ملايين اللاجئين والنازحين الذين فروا بأرواحهم وأعراضهم من بطش الجيش والمرتزقة، وما كابدوه من المشقة وقسوة الظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية، شكلت بذاتها سِفراً وتغريبة لا سابق ولا مثيل لها عبر التاريخ. ومع كل هذه التراجيديا الممتدة على طول هذه السنين لم تنته الثورة ولم تتوقف، ولم تزل روحها تسري في قلوب وعقول الملايين إيماناً وتصديقاً بحقيقة أن لا عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل ربيع 2011، ذلك أن كلفة الاستسلام ستكون أفظع من ثمن إكمال المشوار مهما بلغت التضحيات. والحقيقة أن تماسك النظام على هشاشته هو بفضل القوى الخارجية الداعمة له، ومهما طال الزمن فلا بد لها من الجلاء عن أرضنا الحبيبة، ولن يصمد حينها بوجه إرادة الشعب لأنه أوهى من بيت العنكبوت.
إن قدر الشام أن تكون أرض المحشر والمنشر، ومصداق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة لها، يجعلنا نؤمن بأن الثمرة المرجوة من هذا الصبر والكفاح تستأهل كل هذا البذل والتضحيات، أملاً فيما هو آتٍ، وأن طول أمد هذا الجهاد ما هو إلا زيادة في التمكين ونفي الخبث عن هذه الأرض المباركة، وتمحيص النفوس، وامتحان معدن الصادقين.
Sorry Comments are closed