لمْ يكن مشهداً عابراً، ولا مقطعاً متداولاً فحسب، إنّه نتاج ما رُسم، وما اتُفق عليه، إنّها النتائج غير المعلنة والهدف الأهم الذي لم يكن ليحصل لولا الأرضية الخصبة التي يعيشها السّوريون منذ عقودٍ خلت!
هل نحنُ طائفيون بالفِطرة؟ أم جملةٌ من الممارسات في عقولنا وفي مكتسباتنا المعرفية والمجتمعية، على مدى عقود من حكم الاستبداد والتسلط، جعلتْ منّا وحوشاً على هيئةِ بشر!
الأرضُ التي أنتجتِ الحضارات للعالم أجمع، غير قادرةٍ على احتواء الجميع! فالأخطر من تدمير المدن والبلدات، هو تمزيق التعايش السلمي في بنية المجتمع، وتعزيز نهج الانتقام، وعدم تقبّل الآخر.
إنّ الممارسات التي نراها اليوم، على السّاحة السورية، هي ممارسات مدروسةٌ، وغيرُ عبثية، إنّها نتاج مخططاتٍ وضعت منذ أول صيحةٍ وأول حراك، فهذا النظام المتجذر في الاستبداد والقمع يعرف جيداً استثمار النسيج السّوري وارهاب الاقليات وتجنيدها لصالح مشروعه في البقاء والقضاء على آمال الشعب السّوري في نيلِ حريته.
لم تكنِ السنوات التسع من الكارثة السّورية وحدها من أرسى هذه النتائج، بل مورس بحقّ الشعب ما يشبه تدمير المدن، وهو تدمير الإنسان، وخلق بنية مجتمعية مسحوقة ترضى بأيِّ شيء على أنه مَكرُمة في حين تسلب منه حريته وحقّه في الحياةِ والانطلاق.
حرب السنوات التسع هذه، تعيدنا بالذّاكرة إلى حرب الثلاثين عاماً في أوروبا الوسطى، بيد أن حرب الثلاثين عاماً بدأت كصراع ديني، وانتهت كصراعٍ سياسي، أما في سوريا بدأت بثورة شعبٍ يطالب بحقّه، وبتغيرٍ سياسيٍّ لتنقلب إلى فوضى ممنهجة، ومحرقة مدبرة، وسيطرة الأقليات المدعومة دولياً على قرار الشعب السوري، لنرى النتائج كارثية في تدمير المدن والبلدات وتسويتها على الأرض في مشهدٍ ربما لم يحصل في تاريخ الحروب على مدى عقود كثيرة من الزّمن.
هذه المحرقة السّورية فاقت بنتائجها حرب الثلاثين عاماً، مدنٌ مُسحت، وما بقي من الشعب هشاً ممزقاً، نازحون على قيد البقاء، وهاربون من الموت، بل من بشاعةِ الموت، ومجاعات لا يذكرها الإعلام، ولا يجرؤ أحدٌ على كشف المستور في دولة الأسد.
الأسد الذي قال: سوريا أكثر تجانساً بعد هذه السّنوات من “المؤامرة”، يبدو بالفعل هذا التجانس جلياً فوق مستنقعٍ من الدماء، وفوق أشلاء أُخرجت من قبورها ليرقصَ جنوده “رقصة النصر” فوق قبورٍ نُبشت! أكثر تجانساً بعد وعيدٍ وتهديدٍ من قيادات الصفّ الأول للهاربين بألا يعودوا إلى سوريا، أكثر تجانساً بعد مئات الآلاف من المعتقلين، والمغيبين، الذين يتعرضون لصنوف التعذيب في المعتقلات السّرية، محاولين طمس هويتهم، وسحقهم والتخلص من آثارهم في المدافن الجماعية في الصحراء السورية.
عطفاً على الثورة:
في منتصف العام 2014 بعد امتداد المساحات المحررة في سوريا، وسيطرة المعارضة على ما نسبته 70% من كامل الجغرفيا السورية، خرج قائدُ فصيلٍ في جنوب البلاد وقد قطع رأسَ جنديٍ تابعٍ للواء /60/ أحد الألوية المسؤولة عن حماية الحدود مع الجولان المحتل، كان هذا المشهد غريباً وقتذاك، وفظاً، ومشبوهاً بنفس الوقت، فهذا التصرف هجيناً على ثائرين خارجين على السلطة يطالبون بحقوقهم، أُجبروا على حمل السّلاح دفاعاً عن أنفسهم، وردعاً للمجازر التي أُرتكبت بحق أبنائهم، أمام أعينهم! كما حصل في مجزرة جديدة الفضل 16 – 21 أبريل 2013.
هذا الفعل الشنيع لقطع الرأس لم يدم طويلاً ليُفتضح أمر صاحبه، فهو منشق عن مخابرات النظام برتبة مساعد، جندته المخابرات السّورية ليندس بين الثوار وينخرط في صفوفهم!
لم تكن هذه الممارسات عبثيةً، اشتغل النظام وأجهزة مخابراته بكل عناية على الاثخان في النسيج السّوري، فأطلق يد شبيحته من الأقليات للامعان في القتل أكثر، كما حصل في مطلع العام 2014، واستقدم أقليات درزيّة من قرية حضر في ريف القنيطرة الشّمالي جنوب البلاد، لتقتل عائلة بأكمها من الريف الجنوبي “قرية الدواية الصغيرة” وسرقة ممتلكاتهم.
هدد النظام مع بداية انطلاق الحراك السلمي قريتي بريقة وبئر عجم في القنيطرة، ذات الأغلبية الشركسيّة مغبة الانخراط بهذا الحراك، وإلا سيقوم باعتقال ذويهم في أرياف دمشق وحمص وحلب، ومع سيطرة المعارضة على مساحات كبيرة من المحافظة ترك أغلب العوائل بيوتهم وممتكاتهم وفرّوا بأرواحهم لدمشق! الأمر الذي جعل بيوتهم وممتلكاتهم بيد الثوار في ظل غياب إدارة مدنية نتج عنها فوضى عارمة وسرقة وتدمير البيوت الأمر الذي ترك صدعاً مجتمعياً كبيراً بين العائلات هناك، وهذا ما يسعى له النظام حينها.
هذه الممارسات ليست عبثيّة! فحادثة الهجوم على صيدنايا وتدمير الكنائس واتهام الثوار بهذا الفعل ليس عبثياً، إنها الممارسات ذاتها التي دأب النظامُ عليها، طيلة التسع سنوات من المحرقة السّوريّة!
المكوّن العشائري لـ75% من النسيج السوري كان له أثراً كبيراً في مراحل الثورة وانتقالها من سلميتها إلى عسكرتها، فلم تكن الفصائلية ” فصائل المعارضة، والمليسشيات الأقلوية” التابعة للأسد بحلٍّ من تحكم العشيرة وتأثيرها، الأمر الذي نتجَ عنه صراعاً مخيفاً حتى على مستوى العائلات الموالية والمعارضة، فظهر الثأر من جديد! واستحكمت حلقاته، وغُرست أنيابُه في جسدٍ هشٍ يُعاني أصلاً تبعات القهر والحكم الاستبدادي، وتسلط القوي على الضعيف، هذا المشهد عملت عليه أجهزة المخابرات بعناية شديدة، ففعّلت فرق الاغتيال، وجندت عملاء لها بين مكونات الشعب، وانتهجت سياسة التخويف من الآخَر، ومبدأ ” إن لم تقتله سيقتلك” فكيف لمجتمع مفكك بعد هذه السنوات النهوض من هذا المرض العضال الذي تفشّى، وكرّسه الحزب الواحد، والقائد الأوحد، وأفرع المخابرات التي سيطرت على مفاصل المجتمع.
قد يحتمل السّوري اليوم نزاعاً سياسياً فيما لو تحققت له الأرضية الملائمة لذلك، لكن الكارثة الحقيقة ما اشتغل عليه النظام ليُدخل الشعب في أتون نزاعٍ عرقي، وقومي ، وديني وعقدي، وطائفي، وقد تستطيع الدول ذات التأثير على إيجاد مخرج لهذا النزاع السياسي، لكنّ السؤال؛ من سيُخرج السوريين من محنتهم الطائفية هذه؟
ظاهرة نبش القبور التي تكررت غير مرة، والتي انتهجتها داعش ومليشيات الأسد ليست وليدة الصّدفة!، وليست حماقة فرديةً، من فئةٍ أو مجموعةٍ حاقدة!، إنها نهجٌ مدروس، وتعليماتٌ تُنفذ! تعلمياتُ لا تستغربوا إن قلت إنها من رأس الهرم، بشار الأسد، بصفته العسكرية كقائدٍ للجيش والقوات المسلحة، وبصفته كونه المُخلص والربّ لطائفته، والذي عُرف عنه طائفيته المقيتة قبل تسليمه مقاليد الحكم في البلاد.
هذه الممارسات وغيرها الكثير هي من يرسم معالم خارطة الدّم في المكوّن السّوري، وهذا الأمر وحده من يراهن عليه نظام عائلة الأسد، ليستمر!، فهل نحن طائفيون في الفطرة، سؤال بات يشغل بال السوريين رغم مساحة الجرح الذي كَبرُ ليصبح بحجم وطن!
Sorry Comments are closed