هل تكفي جلسة واحدة لشفاء آلام الصحفيين السوريين؟

في السنوات التسع الماضية، كم الأخبار الذي كان يُلقى فوق رؤوسنا هائل بكل المقاييس

فريق التحرير29 يناير 2020آخر تحديث :
أسماء العمر
يعاني الناشط الإعلامي من صعوبات كثيرة أعاقته عن تأدية عمله – عدسة: حسن الأسمر – حرية برس©

أسماء العمر – حرية برس:

يتعرض الصحفيون السوريون على مدى السنوات الثماني الماضية، لضغوط هائلة وخصوصاً عند التعامل مع الأخبار اليومية المليئة بالنكبات، والأرقام المفجعة لضحايا الحرب الأبرياء وبالأخص عند تغطيتهم لأخبار مدنهم وأقاربهم وبلداتهم، ليكون الشيء الأصعب في التعامل مع هذه الأخبار هو التحدث عنها.
الكثير من العاملين في المنظمات التي تُعنى بالدعم النفسي يتحدثون عن الاضطرابات النفسية التي يتعرض لها النازحون واللاجئون، ولكن القليل يتحدث عن الوضع النفسي لأولئك الصحفيين الذين ينقلون هذا الكم الهائل من الأخبار، ويتعرضون بشكل مستمر لضغط نفسي كبير من جراء عملهم.

الصحفيون السوريون لا يحظون بحياة أفضل، فلقد كانت الصحافة وسيلة للنضال في السنوات التسع الماضية، وظهرت العديد من المؤسسات الإعلامية السورية سواء مكتوبة أو مرئية أو مسموعة غالبيتها في تركيا، لكن الكثير من الصحفيين والناشطين العاملين في مجال الإعلام لا زالوا يترددون في الإفصاح عن هويتهم الحقيقية، وهذا يجعل من الصعب عليهم أن ينتموا أو يحاولوا الانتماء إلى مجتمع واحد.

ما أهمية الانتماء إلى مجتمع وصنع علاقات؟ نستطيع تغيير الكثير إذا بدأنا بالتحدث مع بعضنا البعض

شاركتُ في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي في المؤتمر العالمي للصحافة الاستقصائية الذي جمع أكثر من 1700 صحفي من 30 دولة مختلفة، وعقد أكثر من 250 جلسة وفعالية هدفها التعريف بمختلف التقنيات والوسائل الجديدة في البحث الاستقصائي التي توصل إليها الصحفيين الاستقصائيين في مختلف أماكن العالم، لكن الجلسة التي تركت أثرًا كبيرًا في نفسي كانت تلك التي تحدثت فيها اثنتا عشر صحفية عن تجربتهنّ في الصحافة، وأسهبْنَ بذكر تفاصيل حياتهن الخاصة. في الواقع، كان ذلك أمراً غير مألوف بالنسبة لي، ولكن هذه الجلسة وعلى بساطتها، جعلتني أشعر أنني أقوى وأنني لست وحدي في خضم التحديات التي أواجهها، وهذا بالضبط الشعور الذي يجب على المجتمع توفيره للفرد والذي افتقدته لفترة طويلة أثناء اقامتي في مدينة إسطنبول التركية.

لم تسنح الفرصة فعلياً للصحفيين السوريين بأن يشكلوا مجتمعهم الخاص بسبب انخراطهم طوال الوقت في تغطية ونقل الأخبار التي تحدث في الداخل السوري التي تتوارد على مدار الساعة، منذ أن بدأت الحملات الفاشية من قبل نظام الأسد على المدن والمدنيين المقيمين فيها، اضافة لعدم قدرة الكثير منهم على الاستقرار في مكان واحد من بلدان اللجوء المجاورة كلبنان وتركيا.

منطق حرية التجمع وتكوين جمعيات مدنيّة بشكل منظّم، هو منطقٌ حاربه نظام الأسد على مدى السنوات الأربعين الماضية، لذلك ليس من المفاجئ ألا يكون التنظيم ودعم تكوين تجمعات محلية، هو أول خطوة تقوم بها مختلف مؤسسات المجتمع المدني السورية في دول اللجوء.

في بيروت وإسطنبول نجد مجتمعات صحفية حيوية ومجتمعات مدنية سورية ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه المجتمعات صحفية – سورية، خصوصاً أن الصحفيين السوريين لم يتمكنوا قبل الثورة من تكوين تجمعاتهم الخاصة، وهذا الأمر تكرر في تركيا ولم يكن هناك تجمّع للصحفيين يحتضن زملاءهم من القادمين الجدد إلى تركيا. وبالرغم من وجود أرقام كبيرة من السوريين في بعض الولايات التركية إلّا أن الصحفي السوري معرض للشعور بالعزلة لعدة أسباب منها اختلاف اللغة وصعوبة تجمّع السوريين، فهم مشتتون بسبب نوعية فرص العمل المتاحة واختلاف الداعمين، وهذا ينعكس على مدى قدرتهم على التواجد في مكان واحد.

العزلة بشكل طبيعي ستؤدي إلى انخفاض في مستوى جودة العمل على المدى الطويل، لذا فإن وجود مجتمع مساعد وداعم يصنع الفرق، حيث يعمل الجميع سوياً ويستفيدون، فمثلاً على الصعيد النفسي يساعد المجتمع الداعم على استيعاب الضغوطات التي قد يسببها العمل على مشروع استغرق وقتًا كبيرًا لإنجازه، وعلى الصعيد المهني يقوم بتأمين الموارد للأبحاث الطويلة.

قد لا يمر صحفي أمريكي يغطي أخبار دونالد ترامب والبيت الأبيض في الولايات المتحدة طوال مسيرة عمله، بربع الضغط النفسي الذي يمر به الصحفي السوري كل يوم، فهو لا يعاني من ضغوطات سببها ممارسات النظام السوري فقط، وإنما قد يتعرض لضغط من بعض الفصائل في المناطق المحررة، وبعض الأحزاب الكردية، وأحيانا ضغوطات من الحكومة التركية نفسها.

في الواقع، بدأ السوريون بتنظيم أنفسهم مؤخرًا ، خاصة بعد أن فشل الإعلام التركي بتغطية أخبار السوريين بشكل واقعي وقام بإعطاء صورة مغلوطة عنهم، وبرز ذلك بشكل واضح خلال أزمة ترحيل اللاجئين السوريين من مدينة إسطنبول العام الماضي، حيث قام الكثير من الصحفيين السوريين من مختلف المؤسسات الاعلامية بعقد جلسات جماعية لنقاش هذه المشكلة ومخاطبة السلطات التركية كجهة واحدة منظمة وليس كأفراد أو مؤسسات منفصلة.

كانت مارسيلا توراتي واحدة من الصحفيات الحاضرات على تلك المنصة، مارسيلا صحفية استقصائية غطت حرب المكسيك ضد المخدرات وحائزة على جائزة لويس م. ليونس للنزاهة في الصحافة.
تحدثت مارسيلا عن تجربتها الشخصية والحقيقة التي لم تظهرها للعلن بعد نجاحها ألا وهي حقيقة الإجهاد الذي أصابها، أو ما يدعى حديثاً بال”برن-آوت”. في حديثها لجريدة كونتر بنش قالت مارسيلا: “نتحدث أحيانا عن أهمية الصلاة، قد لا يكون هذا نهجاً صحفياً، لكن عندما تذهب إلى المقابر الجماعية كل أسبوع ، فأنت تتعامل مع أبعاد أخرى قد لا تكون صحفية. نعم، لدي كل أعراض الإرهاق، لأنني كنت أمارس الصحافة منذ سنوات عديدة، لكن الصحافة جزء من حياتي، لا أستطيع أن أتخيل نفسي أفعل أي شيء آخر”.

الصحفيون ملزمون بعدم إعادة الصدمة النفسية للضحايا الذين يجرون مقابلات معهم، وهذا يتطلب اعتناءهم براحتهم النفسية عند تغطية القصص المؤلمة. في حالة سوريا، العديد من الصحفيين هم نفسهم ضحايا للحرب إما مادياً أو معنوياً بسبب ارتباطهم النفسي ببلدهم”. تتابع مارسيلا: “يجب أن لا نشعر بالذنب إذا لم نتفحص الأخبار وحسابات السوشال ميديا كل ثانية”.

استطاعت مارسيلا إنشاء ورشات عمل للصحفيين عن كيفية تغطية القصص الإنسانية التي تسببت بأزمات لأصحابها، تقوم خلالها بالتحدث مع الصحفيين عن الخوف والذنب الذي يشعرون به، ثم يقومون بالعناق والبكاء كنوع من تخفيف الضغط النفسي.

واحدة من الطرق الصحية لمعالجة الإرهاق هو التحدث عن التجارب الشخصية ومشاركتها مع المجتمع الصحفي، عن طريق إعداد جلسات للنقاش. أذكر أنه في نهاية الحديث، قام الجميع والدموع تملأ عيونهم وقاموا بعناق بعضهم، لقد كان الأمر كأنه جلسة علاج نفسي لامست الجميع وخففت عنهم الصعوبات التي تمليها عليهم مهنتهم.

محاطةً بكل الصحفيين الرائعين من مختلف المحطات والبلدان، أدركتُ مدى ابتعادي لفترة طويلة عن مجتمع مماثل للذي وجدته في هامبورغ، واستطعت أن أرى بمخيلتي العديد من الصحفيين السوريين بعد عدة سنوات على تلك المنصة، يشاركون تجاربهم الفريدة التي عاشوها خلال أحداث تغطية سوريا، ويتحدثون عن تجارب زملائهم الذين ضحوا بحياتهم من أجل إيصال الأخبار للعالم.

لا يمكن الاختلاف على أهمية الصحفيين السوريين والدور الذي يقومون به منذ اندلاع الثورة، فمن دون وجود صحفيين محليين مواطنين في الدول المجاورة لسوريا، لن ترى أي أخبار وقصص من سوريا الضوء، ولن تصل للإعلام الأجنبي الذي نادراً ما يُسمح له بدخول سوريا. السوريون في الواقع هم جسر لعبور المعلومات من سوريا إلى العالم وكل وسائل الإعلام ووكالات الأخبار العالمية.

إن عملنا كصحفيين ضمن ظروف عادية وطبيعية صعب جدًا، فكيف إذا كنا نعمل في هذه الظروف الإستثنائية؟ أتمنى من كل من كان باستطاعته أن يشارك بهذه المؤتمرات الفعالة، وإحاطة نفسه بمجتمع صحي والعمل على إنشاء مجتمع مشابه يحتوي مشكالنا والصعاب التي نتشاركها جميعا.

يعمل معظم الصحفيون السوريون ضمن ظروف معيشية واجتماعية صعبة (من دون التأمين الصحي وتأمين العمل…إلخ)، لكنها من الممكن أن تصبح أفضل عندما يبدأون بالاتصال مع جهات مختلفة محلية أو دولية لتوطيد العلاقات والتواصل مع صحفيين آخرين وربما تأمين فرص عمل أفضل.

الصحفية السورية أسماء العمر

أسماء العمر:

صحفية سورية خريجة إعلام جامعة اسطنبول.

تكتب حاليا للفايناشل تايمز من اسطنبول.

عملت سابقاً على تغطية مواضيع حقوق الإنسان، اللاجئين والسياسات المتعلقة بها، مع جريدة الجارديان، لو فيغارو، ودويتشه فيليه.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل