في صخب احتفالات عيد الميلاد وبداية العام الجديد 2020، أوّل عام في العشرية الثالثة في الألفية الثالثة، كانت إدلب صاخبةً كذلك، ولكن صخبها كان ولا يزال هو القصف والقتل والتشريد والنواح. يحاول بعضُ من يستطيعون الوصول إلى أخبار مناطق إدلب تحت القصف أن يكتبوا ويغردّوا، ليُعلِمُوا العالم أنّ “إدلب تحت النار”، فيما يحتفل العالم بأعياد الميلاد مع سانتا كلوز. ولكن العالَم لم يلتفت إلى إدلب، بل لم يلوِ عنقه تجاهها، فالتغريدات عن إدلب منفردة سابحة في الفضاء الإلكتروني، لا تُعاد ولا تكرّر ولا تنتشر، فلا تأثير لها ولا مردود، ولا تتصدّر إدلب أهمّ الأخبار ولا عاجلها.
ولماذا يلتفت العالم إلى إدلب، في حين لم يلتفت من قبل إلى حمص وحلب والغوطة وداريا وسائر مناطق سورية حين قُصفت هي الأخرى، وقُتِل أهلها وهُجّر الباقون! يقف العالم متفرّجًا على إدلب وهي تحت النّار، في حين تحاول القلّة القليلة فعل مسؤولية “الشهادة” على مجازر إدلب، وأداء واجب “الإبلاغ”. ولهذا الغرض أكتبُ عن إدلب.
أَلَمُ إدلب ليس نابعًا فقط من أنّها تُقصف، وأهلها بين قتيل ومهجّر، بل لأنّ محاولاتٍ دولية كانت قد تمّت لمنع مجزرة إدلب الحادثة الآن، فقد وقّعت تركيا وروسيا اتفاق سوتشي القاضي بتجنيب إدلب ويلات الحرب والقصف في 18 سبتمبر/ أيلول 2018، وربما تصورت أنقرة، في ذلك الوقت، أنّ إدلب تجنبت الكارثة، ولكن هذا الاتفاق، في الحقيقة، لم يفلح سوى في تأخير بدء “معركة إدلب الكبرى” التي أطلقها النظام الأسدي وحليفه الروسي في 19 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) عاما وبضعة أشهر؛ إذ كانت قوات الأسد تستعد لمعركة إدلب في أغسطس/ آب لعام 2018 بعد أشهرٍ قليلة من معركة الغوطة الشرقية التي كسبتها لصالحها، بعد أن أحدثت المجازر، وهجّرت الأهالي في مارس/ آذار من عام 2018. ولكن اتفاق سوتشي أجهض هذه المحاولة، ولكن لتؤجّل هذه المعركة لا لتُمنَع.
أفلح اتفاق سوتشي، إذن، في تأخير بدء معركة إدلب البرّية أكثر من عام. وفي الواقع، إدلب تُقصف طوال عام 2019، وتحديدًا منذ 2 فبراير/ شباط أي منذ بداية الحملة العسكرية الشديدة عليها، فسقط ما يزيد عن 1500 شهيد، منهم ما يزيد عن 400 طفل، في حين نزح آلاف من أهالي إدلب البسطاء، فمنذ نوفمبر/ تشرين الثاني نزح ما يزيد عن 20 ألف سوري من ريفي إدلب، الجنوبي والشرقي، إلى مناطق تشهد هدوءًا نسبيًا؛ وذلك بحسب فريق استجابة سورية المنحصر نشاطُه في التوثيق والإغاثة الإنسانية.
تقترب الآن تلك المعركة “الكبرى” الصامتة من معرّة النعمان، المدينة ذات الأهمية المحورية في جنوب إدلب وشرقها، ولن يهدأ القصف الروسي الممهد للاقتحام البرّي سوى بعد سقوط المدينة المحورية. لا يزال الثوار يحاربون ويذودون ما استطاعوا عن أرضهم وأرواحهم وأهاليهم، إذ أطلقوا في بداية ديسمبر/ كانون الأول معركة “ولا تهنوا” في مقابل مليشيا “أسد” البرية. يبذلون أقصى ما في وسعهم، ولكن ميزان القوة المادية الغاشمة يميل نحو الجانب الأسدي الروسي؛ إذ يقاتل الثوار بأيديهم وسلاحهم وعتادهم وروحهم، ولكن أنّى لهم بسلاح جوي غاشم مجنون يقصف بعدد ضربات تقارب الأربعمائة ضربة في الساعة.
يقف العالم صامتًا غير عابئٍ مثلما لم يعبأ من قبل. ولكن تركيا تكلمت، واعترضت على القصف، صرّح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأنّ بلاده معنيّة وقلقة بما يترتب على القصف الهمجي من نزوح أعداد كبيرة باتجاه الشمال، إذ أعلن أنّ قرابة مائة ألف سوري نزحوا باتجاه الحدود مع تركيا. وتنحصر تركيا في مصلحتها المباشرة فقط، وهي مشكلة المهجّرين اللاجئين الذين تلوّح بورقتهم مشيرة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وعلى أثر ذلك، غرّد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مؤيدًا لجهود تركيا في محاولة إيقاف المجزرة المستمرة والنزوح الكبير، ولكن يبدو أنّ أكبر قوةٍ ماديةٍ في العالم الآن لا يمكنها المساعدة سوى بتغريدةٍ عابرةٍ لم يقرأها بوتين ولا الأسد على الأرجح، وإن قرأها كلاهما فليس لسببٍ سوى لأجل التندّر.
تفيد هذه المعطيات بأنّ معركة إدلب التي يسميها النظام الأسدي “الكبرى” لن تتوقف، وأنّ روسيا لن تقنع سوى بمحو اللون الأخضر، لون الثورة، وإحلال الأحمر محلّه، لون الأسد. وإلى أن يحدث ذلك، سيستمر قتل المئات ونزوح الآلاف، حتّى تُفرّغ إدلب من سكّانها، وينضمّوا إلى إخوانهم المهجّرين من قبل في منطقة الشريط الحدودي. سيستمر القصف والتصعيد الروسي حتى ينتهي من إدلب إذن، ولسان حاله يقول إنّه هو “الأعلى” على هذه الأرض، وما من أحدٍ يجرؤ على إيقافه.
Sorry Comments are closed