من المقرر أن تبدأ هذا الشهر الجولة القادمة من مفاوضات السلام السورية في جنيف، ولكنّ قبضة الرئيس السوري بشّار الأسد المشددة مؤخراً على دمشق قد وضعت بالفعل المعارضة السورية في موقف صعب.
وفي الواقع، إنّ التركيز على المعركة في حلب حيث تقدّمت أيضاً قوّات النظام مؤخراً، قد صرف الإنتباه عن إستعادة الجيش السوري بشكل بطيء بل مؤكّد، لضواحي العاصمة السورية التي كانت تحت سيطرة الثوار.
“اليقين الذاتي للأسد” حيث يقول الباحث “فابريس بالونش“ هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن “بالمقارنةً بـ [مناطق] غرب حلب الواقعة تحت سيطرة الحكومة، والّتي يقصفها الثوار بالصواريخ، تُعتبر العاصمة السورية هادئة نسبيّاً”.
ويشير الباحث الى أن الخدمات العامة تعمل بشكلٍ طبيعيّ وتبدو الحرب بعيدة باستثناء صوت المدفعيّة من “جبل قاسيون” وهي تقصف مناطق الثوار. وفضلاً عن ذلك، يعمل المطار الدولي من جديد، كما أن الطرق الرئيسية التي تؤدي إلى حمص ودرعا وبيروت آمنة. ولا يمكن لهذه التطورات إلاّ طمأنة الأسد.
ويضيف “الرغم من عدم سيطرته حتى الآن على معظم أنحاء البلاد، وبالكاد يحافظ جيشه على المكاسب الأخيرة على الأرض التّي سهّل تحقيقها تدخل سلاح الجو الروسي، يشعر الأسد أقل تهديداً لأنّه يسيطر على دمشق”.
ويرى “بما أنّه لم يعد يحتاج إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكي يدافع عن مجال دمشق الجوّي، يقلّ احتمال رضوخه للضغوط الروسية، ناهيك عن الضغوط الدولية الأخرى، للتخلّي عن السلطة.
وفي دمشق، ما زال الأسد بحاجة إلى استمرار الدعم العسكري الدفاعي القويّ من إيران ووكيلها «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية”.
ويخلص “فابريس بالونش” الى أن كما هو الوضع الآن، فمن دون وجود تهديدٍ عسكري حقيقي على دمشق، فلن يوافق الأسد أو إيران على حصول انتقالٍ سياسيّ في سوريا حتّى لو قبلت روسيا بذلك.
منذ السبعينيات، كان هناك حضوراً قوياً للجيش السوري في منطقة دمشق، يشمل قواعد عسكرية كبيرة متمركزة في جنوب وغرب العاصمة. ورسمياً، كان هذا الموقف العسكري يهدف إلى حماية دمشق ضدّ اسرائيل، نظراً لأنّ جبهة الجولان تقع على بعد حوالي خمسين كيلومتر.
غير أنّ الهدف “غير الرسميّ” من هذا الإعداد الّذي صمّمه الرئيس السابق حافظ الأسد كان السيطرة على دمشق بشكل أفضل. لقد آمن والد بشّار أنّ كل من يسيطر على دمشق يسيطر على سوريا.
وكان جزء من هدف جهود الأسد الأب للسيطرة على دمشق بعد إستيلائه على السلطة في انقلاب عسكري في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970 هو تمركز عشرات الآلاف من القوّات، بالإضافة إلى مسؤولين علويين وعائلاتهم، في المدينة.
وفي حين كان هناك 300 علوي فقط يعيشون في دمشق (من أصل حوالي 500,000 نسمة في منطقة العاصمة) في عام 1947، ارتفع هذا العدد ليصل إلى أكثر من 500,000 (من بين حوالي 5 ملايين نسمة في منطقة العاصمة) بحلول عام 2010، أو بعبارة أخرى ربع المجتمع العلوي في سوريا. وبالتالي، فاق عدد العلويين في دمشق عددهم في أي مدينة سورية أخرى.
وإبتداءً من السبعينيات، سعى النظام أيضاً إلى توزيع العلويين استراتيجياً في جميع أنحاء المدينة. ولا يزال مسؤولون في النظام يعيشون وفقاً لهذا الترتيب في حي “المالكي”، حول منزل الأسد الخاص، في حين أنّ موظفين مدنيين من رتب أدنى يعيشون في “مزة 86″، وهي منطقة واسعة تطلّ على الأحياء الغنية من مزة. فضواحي المدن الدرزية- المسيحية أساساً تجذب العلويين أيضاً (على سبيل المثال، “جديدة عرطوز” و”جرمانا” و”صحنايا”)، التي تقدّم أنماط حياة أكثر استدامة من المناطق السنيّة المحافظة في الغوطة (على سبيل المثال، دوما وداريا وزملكا) – التي أصبحت معاقل التمرد.
ومنذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، سمح النظام السوري أيضاً للأحياء العلوية والدرزية والمسيحية بالتوسع والإقتراب من المحاور الاستراتيجية التي تربط دمشق ببقية أنحاء البلاد ولبنان، في حين تعيق أيضاً “الهلال السنّي” في المدينة.
وهذه هي الحالة في ضاحية جرمانا الواسعة التّي تمّ إنشائها إبتداءً من الثمانينيات، فضلاً عن الطريق المؤدي إلى مطار دمشق الدولي، الأمر الذي ناسب خطة النظام الاستراتيجية للفصل بين الضواحي السنية في المدينة، أي بين شرق الغوطة وغربها.
- التخطيط للأمن في المدينة:
في شمال شرق المدينة، يعيش في الغالب مسؤولون وموظّفون في القطاع العام للأعمال الصناعية من غير السنة، وذلك في وحدات سكنية عامة في “ضاحية الأسد” و”معرة محمود” و”عدرا”، وهي أحياء موالية تساعد في دعم الدفاع عن مدخل المدينة الشمالي الشرقي.
وبالتالي، فنظراً لأنّ الطريق المباشر من دمشق إلى حمص يتعرض لنيران الثوار منذ نيسان 2012، فقد تمّ تغيير مسار حركة المرور إلى الطريق الدائري الشمالي، الّذي يصل إلى الطريق السريع ما بين دمشق وحمص. وفي جنوب غرب المدينة، تسهّل الثكنات العسكرية والمجتمعات الدرزية-المسيحية المكتظة فيها، حماية الطرق المؤدية إلى بيروت والقنيطرة ودرعا.
أما المناطق السنيّة مثل معضمية وداريا ومخيم اليرموك للاجئيين الفلسطنيين الّذي يعتبر رسميّاً ضاحية في دمشق، بالإضافة إلى منطقة بابيلا، فيحدّها من الجنوب الحزام الدرزي-المسيحي المعزّز منذ السبعينيات بأعداد كبيرة من العلويين، فضلاً عن الطريق الدائري الجنوبي الّذي أصبح خطّ دفاعٍ مهمّ لدمشق ضدّ الضواحي التي يسيطر عليها الثوار.
وبالنسبة إلى المدينة ككلّ، فيحيطها طريق دائري كبير وتقطعها طرق واسعة تخلق فواصل في المناطق الحضرية. ولم تُصمّم هذه الشوارع في السبعينيات من أجل تسهيل تدفق حركة المرور، وهذه مسألة واضحة وخاصّة عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار أنّ عدداً قليلاً من السوريين امتلكوا سيارات خاصّة في ذلك الوقت ولم يتوقّع المصمّمون أن تزداد ملكية السيارات الخاصّة إلى درجة كبيرة.
وبالأحرى، كان ذلك مثالاً كلاسيكياً على التخطيط الأمني، فالهدف من مخطط هذا الطريق كان انتشار المركبات المسلّحة من أجل ردع أي حدثٍ كبيرٍ.
وفي أواخر السبعينيات، وقعت “مدينة دمشق القديمة” ضحيّة لهذه الاستراتيجية عندما تمّ هدم جزء من أسواقها لإفساح الطريق لإقامة منطقةَ للتسوّقٍ مع شوارع عريضة تتقاطع في زوايا قائمة. ولم يُنشئ النظام طرقاً واسعة في كلّ مكانٍ، بل سمح بإنتشار ضواحي غير رسمية خارج المدينة، تتميز بشوارع ضيّقة وأشبه بمتاهةٍ. وفي النهاية، أصبحت هذه الضواحي معاقل الإنتفاضة.
- تطويق الضواحي التي يسيطر عليها الثوار:
يمكن أن يعزى سبب فشل الثوار في دمشق بشكل رئيسي إلى عدم قدرتهم على توحيد الغوطة الغربية والشرقية وقطع الطريق المؤدّي إلى المطار الدولي. لقد دافع الجيش السوري ولاسيّما أعضاء محليون دروز من “قوات الدفاع الوطني” الموالي للنظام عن جرمانا بكلّ قوّة.
كما قاوم السكان هجمات الثوار، التّي شملت سيارات مفخخّة وهجمات صاروخية. وبذلك، وسّع الجيش السوري نطاق سيطرته من جرمانا إلى جهتي طريق المطار، مطوّقاً الجزئين السنيّين لمنطقة الغوطة.
ويرافق الحصار العسكري على مناطق الثوار حول دمشق حظراً على المواد الغذائية وغارات جوية تهدف إلى تخويف المدنيين. فالمبدأ الأساسي لمكافحة التمرّد، الّذي يهدف إلى فصل المدنيين عن الثوار، يطبّق هنا بشكل بدائي، كما كان عليه الحال في حلب.
ووفقاً للأمم المتّحدة، بقي في داريا 4000 شخص فقط من أصل 80,000 مقيم في عام 2010. ويهدف هذا الحصار أيضاً إلى تشجيع مناطق الثوار الأخرى بقبول تسوية مؤقتة مع النظام. ولذلك أبرمت مناطق “بابيلا” و”معضميّة” و”قدسيا” و”القابون” و”برزة” اتفاقات وقف إطلاق النار مع الجيش السوري لمنع تدميرها وتجويع سكانها.
ومنذ ربيع عام 2016، استعاد الجيش السوري ثلث “شرق الغوطة” وتستمرّ قوّاته في التقدّم من الشرق. وقد أدت الصراعات بين كتائب الثوار «فيلق الشام» و«جيش الفسطاط» (بقيادة «جبهة النصرة») و«جيش الإسلام» إلى مساعدة النظام على القيام بهذا الهجوم.
ومنذ عام 2012، كان «جيش الإسلام» يمارس سيطرة كاملة تقريباً على “شرق الغوطة”، ولكن مقتل مؤسسه زهران علوش في 25 كانون الأوّل/ديسمبر 2015 قد أضعف الميليشيا. كما مثّل مقتل علوش نكسةً كبيرة للمملكة العربية السعودية نظراً لأنّه كان قد رقّي إلى منسّق المعارضة السورية في محادثات جنيف.
وكانت هذه المرة الأولى التي توحّدت فيها المعارضة السياسية والعسكرية. ولم يكن خليفة علوش، شقيقه الأصغر محمّد علوش، قادراً على القيام بهذه المهمة، سواء محليّاً أو دوليّاً، فتمّ تهميشه بسرعة في جنيف لصالح رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب.
- انعكاس عسكري، منذ عام 2012:
في أعقاب الهجوم الّذي وقع في 18 تموز/يوليو 2012 وأودى بحياة الكثير من مسؤولي النظام، من بينهم زوج شقيقة بشّار الأسد آصف شوكت الطموح، بدا الثوار على وشك الإستيلاء على دمشق. وبعد أربع سنواتٍ، أصبح وضع دمشق العسكري مغايراً كليّاً.
فالجيش السوري والميليشيات الشيعية المتحالفة معه يطوّقون الآن مناطق الثوار حول دمشق. بالإضافة إلى ذلك، فقد الثوار الأمل في أن ينقذهم تدخّلٌ خارجي لأنّ “مركز العمليات العسكرية” في عمان، الّذي يساعد في تنسيق أعمال الثوار لم يعد يعطي أولوّيته إلى دعم هجوم ضدّ النظام السوري بل ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية».
كما أن إمكانية إبرام الولايات المتّحدة وروسيا إتفاق تعاونٍ ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة» قد تزيد من حدة الشعور بالتخلّي بين الثوار، وبالتالي تُشجّع العديد من الجماعات على التفاوض مع النظام أو الإنضمام إلى الجهاديين.
وفي دمشق، يتم دعم النظام بقوة من قبل «حزب الله» وإيران. ويعود سبب هذا الدعم إلى أنّ العاصمة السورية وخصوصاً مطاراتها هي البوابة الرئيسية لوصول الأسلحة الإيرانية إلى «حزب الله». كما يعتبر تدفّق المقاتلين الشيعة إلى دمشق جزءاً من جهدٍ للدفاع عن ضريح “السيدة زينب” وهو موقع حج شيعيّ أساسيّ كان يستقبل، قبل عام 2011 ، مئات الآلاف من الزّوار كلّ عام. وفي كلّ مرّة يقع فيها صاروخٌ في منطقة “السيّدة زينب” أو تنفجر سيارةٌ مفخخة في تلك المنطقة، تتردد أصداء الخبر في جميع أنحاء العالم الشيعي، مما يساعد في جذب مقاتلين جدد إلى الجبهة.
أمّا بالنسبة لإيران، فلا يمكن السماح لضريح “السيّدة زينب” بمواجهة نفس مصير “ضريح العسكريين” [ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء] الّذي دُمّر في هجومٍ من قبل تنظيم «القاعدة» في شباط/فبراير 2006.
*المصدر: المركز الديمقراطي العربي نقلاً عن “معهد واشنطن”
عذراً التعليقات مغلقة