شرق الفرات.. نموذج سوريا المصغر

فراس علاوي27 ديسمبر 2019آخر تحديث :
شرق الفرات.. نموذج سوريا المصغر

يمثل شرق الفرات بكل ما مر به منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة نموذجاً حياً لجميع ممارسات السلطة الحاكمة ومحاولاتها فرض أنموذجها السلطوي على سوريا، ويمثل في ما بعد العام 2011 تحولات الثورة وتداخلات الدول المعنية بالشأن السوري فيها ، لذلك يمكن اعتباره نموذجاً مصغراً عن الوضع السوري.

فبالرغم من غنى المنطقة زراعياً من حيث زراعات القمح والقطن وغيرها من المحاصيل الاستراتيجية وغناها بالثروة الحيوانية ومن ثم اكتشاف النفط فيها والذي تحول إلى لعنة أصابتها، إلا أنها بقيت بعيدة عن اهتمامات نظام الأسد بل تعرضت لتهميش متعمد اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وكأن نظام الأسد يعاقبها بسبب مواقفها السياسية السابقة إذ كانت جزءاً من الصراع على السلطة.

حيث لم يزر حافظ الأسد محافظة ديرالزور مثلاً طيلة فترة حكمه التي استمرت لثلاثين عاماً، كما لم تشهد المنطقة أي نوع من تطوير البنى التحتية ولم تستفد من النفط والغاز الموجود في رحمها بل على العكس تحولت تلك المناطق لمناطق اقتصادية مهمشة تقدم للنظام مخزوناً استراتيجياً يدعم بقاءه دون أن يعود عليها بالفائدة لا تنموياً ولا سياسيا ولا اقتصادياً وبقيت المنطقة حتى استلام بشار الأسد للحكم وراثة عن أبيه دون جامعات ودون تمثيل سياسي حقيقي.

لذلك فقد كان للمنطقة دور مبكر بالانخراط بالثورة حيث خرجت المظاهرات بزخم كبير خاصة في مدن وقرى محافظة ديرالزور واستمر الحراك الشعبي فيها مع ظهور الجيش الحر حيث تم تحرير ما يقارب 95% من مناطق شرق الفرات على يد الجيش الحر حتى منتصف العام 2013 ، كما ظهرت فيها تنظيمات جبهة النصرة وأحرار الشام لتخضع بشكل كامل فيما بعد لسيطرة تنظيم داعش.

ستمر التنظيم بممارساته القمعية ضد أهالي تلك المناطق ومطاردة قادة الجيش الحر ومقاتليه والناشطين في تلك المناطق مما أدى لارتفاع وتيرة التهجير والنزوح منها لتصل إلى نسب عالية جداً في بعض المناطق.

العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش أدت لتقسيم المنطقة إلى عدة أقسام كلها منها يخضع لسيطرة دولية وإقليمية مختلفة وبوجود وسيط محلي.

انطلقت العمليات العسكرية ضد التنظيم نهاية العام 2017 وعلى التوازي بين محورين، الأول: تقوده روسيا جواً والمليشيات الايرانية ونظام الأسد على الأرض ويتجه من تدمر باتجاه السخنة وبادية ديرالزور ومدينة ديرالزور بما يسمى (الشامية) حيث سيطرت عليها وصولاً إلى مدينة البوكمال على الحدود العراقية السورية وهو ما يحقق المشروع الايراني بوصل العواصم التي تسيطر عليها بطريق بري يبدأ من طهران مروراً ببغداد فدمشق عبر البوكمال والبادية السورية ومن ثم بيروت، وهو ماحدث فعلاً فقد سيطرت إيران على مدينة البوكمال بشكل كامل وجهزت معبرا حدوديا مع العراق وأقامت قاعدة عسكرية لها هناك تسمى الإمام علي فيما استحوذت القوات الروسية على مركز المدينة ومطارها العسكري.

بالمقابل وفي شمال المحافظة على يسار نهر الفرات منطقة (الجزيرة) فقد انطلقت قوات “قسد” بمساندة من طيران التحالف باتجاه الشرق عبر محورين الأول من ريف الرقة الشرقي والثاني من ريف الحسكة الجنوبي لتسيطر بعد عام ونصف تقريباً على كامل المنطقة وذلك بالسيطرة على آخر معاقل التنظيم في الباغوز ومن ثم سيطرة “قسد” المطلقة على مفاصل المنطقة وسيطرة القوات الامريكية على منابع النفط فيها.

الصراع على شرق الفرات بلغ أوجه بالعمليات التركية على مناطق سيطرة “قسد” وبالاتفاقات التركية الروسية والتركية الأمريكية حول ماسمي المنطقة الآمنة.

وبذلك تتعقد مسألة السيطرة على شرق الفرات وشرق سوريا وتتداخل فيه مصالح الدول السياسية والعسكرية والجيوسياسية فجميع القوى المتداخلة في الشأن السوري تحكمها قواعد اشتباك شرق سوريا وبالتالي فهي تمثل نموذجا مصغرا للوضع السوري ومآلاته وحلوله السياسية والعسكرية وإن أي تغير في قواعد اللعبة سيظهر بشكل مباشر وينعكس على هذه المنطقة قبل غيرها.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل