إسلام برنارد لويس: مئة عام من العزلة!

فريق التحرير12 أغسطس 2016آخر تحديث :
إسلام برنارد لويس: مئة عام من العزلة!

صبحي حديدي* صبحي حديدي
في عيد ميلاده المئة، الذي مرّ قبل أسابيع، هذه السنة 2016؛ شاء أنصار المستشرق البريطاني ـ الأمريكي برنارد لويس، أسوة بتلامذته، اغتنام المناسبة لتكريم منجزه وإطراء أعماله، وهذا سلوك مألوف بالطبع. لكنّ بعض هؤلاء ـ خاصة أولئك الذين يمتزج إعجابهم بشخص لويس، بتصديق على آرائه الإيديولوجية ومواقفه السياسية ـ تقصدوا انتهاز الفرصة لممارسة ثلاث هوايات مزمنة: التعريض بالإسلام، تحت ذريعة «الإسلام السياسي» تحديداً؛ وامتداح نجاح لويس في الجمع بين «النزاهة» للتاريخ الإسلامي، والولاء للفكر الصهيوني؛ وثالثاً: الهجوم على المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، من زاوية نقده للاستشراق عموماً، وسقطات لويس بصفة خاصة.
نقرأ، أولاً، مارتن كريمر، رئيس كلية شاليم في القدس، والذي وقّع مؤخراً كتاباً بعنوان «الحرب على الخطأ: إسرائيل، الإسلام، والشرق الأوسط»؛ حيث يستذكر مقالة لويس «عودة الإسلام»، التي نُشرت في مجلة «كومنتري» الأمريكية سنة 1976، ويعتبرها أوّل نبوءة حول صعود «الإسلام السياسي»، حين كان هذا التعبير غير دارج، وغير وارد أيضاً في يقين كريمر. ثمة ما يُقال بصدد صفة التنبؤ، أو حتى الريادة، في تلك المقالة؛ خاصة لجهة تركيزها على جماعة الإخوان المسلمين ومراعاة الأنظمة العربية «التقدمية»، في مصر وسوريا والعراق، للدين الإسلامي والتدين الشعبي. الثابت، من جانب آخر، وعلى نقيض ما يذهب إليه كريمر، أنّ أبحاث لويس المبكرة شددت على الصراع بين الإسلام والمسيحية، في بُعدَين: الإسلام، بوصفه ديانة، «هو منافس المسيحية على قلوب البشر»؛ والإسلام، بوصفه حضارة، «هو الجار الأقرب، والغريم الأخطر، أمام الكون المسيحي». وأمّا مسوّغ الهجوم على سعيد، عند كريمر، فهو نقد الأخير لخلاصات لويس السياسية؛ من طراز قوله مثلاً إنّ إدانة إسرائيل، أو اعتبارها مخفراً للإمبريالية، أو رفض الاستيطان… بمثابة أفكار في خانة «عودة الإسلام»، دون سواها.
ثمّ نقرأ روبرت إروين، المؤرخ البريطاني، صاحب العمل الشهير «معرفة خطرة: الاستشراق ومظانّه»، 1966؛ والذي يجري مقارنة بين صواب بصيرة لويس، في المقال المشار إليه أعلاه، حول صعود الإسلام السياسي؛ وخطل، أو قصر نظر، مؤرّخ آخر، يساري، هو فرد هاليداي، الذي تنبأ بالعكس ـ في كتابه «جزيرة العرب بلا سلاطين»، 1974 ـ وأنّ العلمانية والديمقراطية سوف تكون لهما الغلبة في تلك المنطقة. ورغم انعدام النزاهة في تحميل هاليداي هذه الخلاصة، فإنّ إروين لا يستطيع تجنّب الإقرار بأنّ لويس نفسه لم يكن ذلك المتنبئ الحصيف؛ إذْ فاته، تماماً في الواقع، أي صيغة تكهنية حول الثورة الإسلامية في إيران مثلاً، مثلما سوف تفوته العواقب الوخيمة للغزو الأمريكي للعراق سنة 2003. وأمّا دور سعيد، عند إروين ـ الذي لا يعدم تاريخاً طويلاً من البغضاء ضدّ نقد الاستشراق ـ فإنه يُختصر هكذا: «عجز سعيد عن التمييز بين لائحة رغباته، والنبوءة»!
ثالث الأنصار، والتلامذة، هو إيتمار رابينوفتش، رئيس «معهد إسرائيل»، وسفيرها لدى أمريكا خلال سنوات 1993ـ1996، وصاحب مؤلفات عديدة حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي. مساهمته في إطراء لويس حملت هذا العنوان/ التساؤل: «هل يمكن للمرء أن يكون، في آن معاً، صهيونياً ومؤرخاً كبيراً للإسلام؟»؛ وجواب رابينوفتش هو الـ«نعم»، بالطبع، عالية وصاخبة: «لا أحد، عادة، يسأل ما إذا كان في وسع باحث أمريكي بروتستانتي، يعيش في أمريكا خلال زمن الحرب الباردة، أن يكون مؤرخاً كبيراً لروسيا وخبيراً بالسياسة الخارجية السوفييتية»! هكذا ببساطة، إذن: الصهيونية نظيرة البروتستانتية، والإسلام نظير القضية الفلسطينية، وبالتالي في وسع لويس أن يؤرّخ للملفّين معاً وبلا حرج أو طعن في المصداقية. «إنه أولاً وأساساً باحث، ومؤرّخ قدّس المعايير المهنية. وهو شديد الاهتمام بالسياسة، وقد أسهم كمثقف عمومي في كثير من النقاشات حول الشرق الأوسط. كما أنه يهودي فخور، وداعم ملتزم للدولة اليهودية»، يتابع رابينوفتش. ومن الذي يمكن أن يساجل ضدّ هذا الافتراض التبسيطي؟ لا أحد، في يقين الأكاديمي/ السفير السابق، أشرس من إدوارد سعيد!
فلنتذكر، بادىء ذي بدء، أنّ لويس، «بطريرك الاستشراق» في أنسب ألقابه، حمل في سنة 1971 رسالة من الرئيس المصري القتيل أنور السادات، إلى رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مئير، عبر الدبلوماسي المصري تحسين بشير؛ وأنه لم يعمل بالمبدأ الشهير، ما على الرسول إلا البلاغ، أغلب الظنّ، لأنّ جملة آرائه ـ يومذاك، كحالها هذه الأيام أيضاً ـ كانت تذهب عكس السعي إلى السلام، مع شعوب يتملكها الإسلام! هذه أمم لا تُرجى فائدة من محاولات إصلاحها أو مصالحتها مع قِيَم الغرب، ونبوءته الرهيبة للأقدار التي ستواجه العرب تسير هكذا: «إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط السير على طريقها الراهن، فإنّ صورة الانتحاري يمكن أن تصبح استعارة تمثّل المنطقة بأسرها، ولن يكون هنالك مفرّ من الانحدار نحو الكراهية والحقد، والغضب وكره الذات، والفقر والقمع».
وذات يوم، حين توقّف لويس عند بيان أسامة بن لادن الداعي إلى إعلان الجهاد ضد القوّات الأمريكية المتواجدة في الجزيرة العربية، فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يلقي على أبناء الولايات المتحدة، وعلى أبناء الثقافة اليهودية ـ المسيحية أجمعين في الواقع، درساً في كيفية ردّ دوافع الإرهاب الإسلامي إلى أصولها التاريخية والفقهية. لقد انتظر سنة كاملة لكي يربط بين هذا البيان، وبين لجوء الخليفة عمر بن الخطاب إلى طرد يهود خيبر ومسيحيي نجران من جزيرة العرب، تنفيذاً لوصيّة النبيّ محمد كما كتب! ولقد رأى، طيلة ستة عقود على الأقلّ، أنّ الشرق الأوسط سرمدي جامد ثابت، ولن يتغيّر إلا على نحو أسوأ، على يد الأصوليات والأصوليين.
وذات يوم، غير بعيد أبداً، كان لويس يسخر من «المستشرقين الهواة» الذين يعقدون مقارنات زائفة بين التراث الإسلامي والتراث اليهودي ـ المسيحي، فيقولون مثلاً إن القرآن الكريم هو «توراة المسلمين». الأخطر من هذا، يتابع لويس، أن نقرن كلمات من نوع «ثورة» بالإسلام ونحن نعرف أن هذه المفردة لا تستدعي في ذهن القارئ الغربي سوى الثورة الأمريكية أو الفرنسية أو الروسية. ولسوف ينتظر المستشرق الهمام سبع سنوات فقط لكي يتحدث، في العام 1993، عن «الثورة الإسلامية»، ويقارنها بالثورتين الفرنسية والروسية، بل ويكشف النقاب عن وجود «يعاقبة» و»بلاشفة» مسلمين، وأطوار نابليونية وستالينة!
وذات يوم آخر، أيضاً وأيضاً، صرّح لصحيفة «دي فيلت» الألمانية بأنّ «أوروبا ستكون جزءاً من المغرب العربي»، وليس العكس.
لماذا؟ لأنّ «التوجهات الحالية تظهر أنّ أوروبا ستشهد أغلبية مسلمة في نهاية القرن الواحد والعشرين على أقصى تقدير»، إذْ فضلاً عن الأعداد المتزايدة من المهاجرين العرب والمسلمين، فإنّ الأوروبيين يتأخرون في سنّ الزواج ولا ينجبون سوى عدد قليل من الأطفال، بعكس مسلمي أوروبا الذين يتزوجون في سنّ مبكرة وينجبون عدداً أكبر من الأطفال. وخلال واحدة من زياراته المتكررة إلى إسرائيل،، أعرب عن أسفه لأنه آمن ذات يوم بإمكانية أن تسفر اتفاقيات أوسلو عن سلام فلسطيني ـ إسرائيلي؛ واعتبر أنّ السماح لياسر عرفات بالمجيء من تونس إلى فلسطين المحتلة، كان خطأ قاتلاً.
أمثال كريمر وإروين ورابينوفتش لا يتوقفون عند هذه الحيثيات، بالطبع، وكفى بهم سعادة بأنّ آراء «المعلّم» وتعاليمه على كل شفة ولسان، هنا وهناك في أمريكا والغرب عموماً. إنه البطريرك، حتى في ذروة مئة عام من عزلة عزل الإسلام عن التاريخ!

* نقلاً عن: “القدس العربي”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل