عن “الانتقال الديمقراطي إشكاليات نظرية وتجارب عربية” قدم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة محاضرة أمس الأربعاء، في افتتاح نشاطات سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مقره في العاصمة القطرية الدوحة.
المحاضرة جاءت ملخصا لبحث موسع يقوم به الدكتور بشارة حول دراسات الانتقال الديمقراطي، وسوف ينشر خلال العام القادم، ويأتي استكمالًا لمشروع بشارة الفكري البحثي في الدولة والمجتمع في كتابيه المجتمع المدني والمسألة العربية، ثم في التأريخ والتحليل والتوثيق للثورات العربية التي اندلعت في عام 2011، وقد نشره في ثلاثة كتب هي: الثورة التونسية المجيدة 2012؛ وسورية درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن 2013؛ وثورة مصر (في مجلدين) 2016. وتناولت هذه المؤلفات أسباب الثورة ومراحلها في تلك البلدان، وتعد مادةً مرجعيةً ضمن ما يُعرف بالتاريخ الراهن لما احتوته من توثيق وسرد للتفاصيل اليومية لهذه الثورات مع بعدٍ تحليلي يربط السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل ثورة فيما بينها.
أرّخ بشارة في بداية المحاضرة للدراسات المتعلقة بالانتقال إلى الديمقراطية التي أضحت بمنزلة تخصص ضمن علم السياسة المقارن؛ وذلك عبر استعراضه تاريخ الجهد النظري في الموضوع بدءًا من نظريات التحديث في الخمسينيات، ونموذج دنكوارت روستو في بداية السبعينيات، ومشروع الانتقال الديمقراطي في بروكنجز وجونز هوبكنز بداية من عام 1986؛ وصولًا إلى الجهود النظرية التّي عرفها الحقل طوال التسعينيات. وفي سياق تحليله للأدبيات طوال هذه الفترة، بيّن أنّه منذ ظهور نظريات التحديث، تتميّز نظريات الانتقال الديمقراطي في مجملها بطبيعتها الغائية؛ أي السعي للوصول إلى الديمقراطية من دون أن يلغي صفة العلمية عن ذلك، حيث إنّ العلوم الاجتماعية بحسبه، لديها، كما العلوم الطبيعية، غاياتها وأهدافها. وامتحان العمل العلمي يكون في المنهج وليس في غايات الباحث.
وقد أشار بشارة إلى أن الدراسات التي تعنى بالانتقال الديمقراطي حالها حال جميع الدراسات في العلوم الاجتماعية؛ دراسات إقليمية باستنتاجات كونية، في تحليل الانتقال إلى الديمقراطية في بلدان وأقاليم أخرى، وذلك شرط عدم مقاربة استنتاجاتها كأنها برادايم أو قوانين جاهزة للتطبيق على بلدان أخرى. وأكد أن ذلك لا يحول دون استفادة باحثين ديمقراطيين في الوطن العربي من تحليل باحثين ديمقراطيين في مناطق وبلدان أخرى في خدمة الانتقال إلى الديمقراطية، وفي الوقت ذاته لا يعني نقد نظرية التحديث في مقاربة الانتقال إلى الديمقراطية عدم الاستفادة منها في مرحلة ترسيخ الديمقراطية.
عربيًا، رأى بشارة أنه بالإمكان التعميم على جميع الثورات العربية من عام 2011 أنها انطلقت بصورة انتفاضات شعبية واسعة بعضها احتجاجي غاضب، وبعضها الآخر يطالب بإصلاحات، وانتقلت إلى المطالبة بإسقاط النظام. ولا شك في أنه حصل بينها تأثير متبادل في إطار المشترك اللغوي والقومي والقرب الإقليمي. وانطبق عليها مصطلح الثورات، لأنها حركات شعبية واسعة ومتواصلة طالبت بتغيير نظام الحكم أو رأس هذا النظام من خارجه. والحقيقة أن الثورات تسقط النظام ولا تطالب بإسقاطه. لكن الثورات العربية طالبت النظام بتغيير نفسه، أي بإصلاح نفسه؛ إذ لم تعرض بدائل جاهزة منه، بحيث تستولي على الحكم فور تنحّي الرئيس أو سقوط النظام. وفيما عدا الحالة الليبية التي سقط فيها النظام بالقوة العسكرية، تسلمت الحكم في الدول التي نجحت فيها الثورة في إطاحة رأس النظام، قوى أو شخصيات أو مؤسسات من داخل النظام نفسه. وأضاف بشارة، من بين دول الثورات العربية، لم تمر بتجربة الانتقال الديمقراطي سوى تونس ومصر (وتجربة قصيرة وهشّة في ليبيا)؛ إذ فشل الانتقال في مصر قبل أن تبدأ عملية الترسيخ Consolidation، ونجح الانتقال في تونس بمرحلتيه: إسقاط النظام والتوافق على القواعد الإجرائية والمؤسسات الديمقراطية. وتشهد الديمقراطية فيها، بمصطلحات هذه الدراسات، عملية ترسيخ لم تتضح نتائجها بعد. ويمكن هذه الدراسات الاستفادة نظريًّا من هاتين التجربتين. أمّا اليمن وليبيا وسورية، وكذلك البحرين إذا اعتبرنا ما جرى فيها ثورة وليس احتجاجًا واسعًا فحسب، فلا تنطبق عليها دراسات الانتقال.
وفي الختام، قدّم بشارة استنتاجات نظرية مهمة حول الانتفاضات الشعبية العربية عام 2011 واعتمادًا على بحثه في الحالات العربية، أهمها؛ أنه إذا كانت أجهزة القمع والجيش متماسكة وجاهزة لاستخدام أقصى القوة في خدمة النظام، ولم توضع دوليًا أو محليًا قيود أو حدود لقدرته على استخدام القوة سيكون من الصعب التخلص من النظام السلطوي. وأكد أن الطموح السياسي للجيش قاتل لعملية التحول، ولا يمكن مواجهته من دون وحدة وطنية للقوى المعارضة للحكم العسكري و/ أو التوصل إلى تسويات مؤقتة معه ريثما يتنازل تدريجيًا عن امتيازاته.
وفي السياق ذاته، رأى بشارة أنه من الأفضل أن يجري التحول في ظروف الشروخ الاجتماعية والسياسية العميقة مثل الطائفية والقبلية بالإصلاح التدريجي وليس بالثورة، فقد تؤدي الثورة إلى إحياء الشروخ العميقة، كما تتحول مخاوف الجماعات إلى أداة في يد النظام السلطوي في التصدي للثورة. لا سيما أن بعض الأنظمة السلطوية تعتبر، بحسب بشارة، أي نوع من الإصلاح خطرًا على وجودها، كالحالة السورية، فلا تترك مجالًا آخر سوى الثورة.
وعلى مستوى الثقافة الديمقراطية للنخب السياسية، أو على الأقل قابليتها للمساومة والتوصل إلى حلول وسط، توصل بشارة الى أنها عوامل حاسمة في الانتقال، فلا يمكن حكم دولة في مرحلة الانتقال بأقلية ضئيلة إذا كان جهاز الدولة مناهضًا للتحول الديمقراطي وثمة قطاعات اجتماعية وازنة معادية لهذه الأغلبية العددية الحاكمة. هنا تصبح الوحدة والشراكة في الحكم ضروريتين لإنجاح الانتقال. وفي السياق ذاته، يعتبر بشارة حلول استقطاب بين قوى سياسية وأيديولوجية، كما بين معسكر ديني وآخر علماني، محل الاستقطاب بين القوى المؤيدة للديمقراطية من جهة والمعارضة لها من جهة أخرى، هو تطور معرقل للانتقال الديمقراطي، لا سيما أن خذلان توقعات الناس المرتفعة وحالة الفوضى والتنافس غير المنضبط في ظروف عدم تعوّد الجمهور على قواعد الديمقراطية وعدم تجذر الثقافة السياسية الديمقراطية تقود إلى نفور الناس من حالة الانتقال والتوق إلى الاستقرار الذي يناقض التعددية بموجب هذا المزاج. أما على المستوى الدولي، أشار بشارة إلى أنه في ظروف الاقتصاد الريعي والمشتركات الثقافية الإقليمية يكون العامل الإقليمي مهمًّا للغاية في عرقلة العملية الديمقراطية أو مساندتها، وكلما قلّت أهمية الدولة الجيوستراتيجية، تقل أهمية العامل الخارجي في عرقلة التحول الديمقراطي.
وقد شهدت المحاضرة حضورًا كبيرًا غصت به قاعة المبنى الثقافي في المركز العربي من باحثين وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلابه. كما تابع المحاضرة عشرات الآلاف عبر البث المباشر في وسائل التواصل الاجتماعي. وتلا المحاضرة نقاش عام، شارك فيه الحضور.
عذراً التعليقات مغلقة