ليس كبيراً الاختلاف في اللغة بين المبعوثَين الأمميين الحالي والسابق الى سورية، فكلاهما ملزم بحكم ما يمثّل اعتبار “الحكومة السورية”، أي النظام بالمصطلح الأدقّ والأكثر واقعية، ركيزة المهمّة التي انتدب لها والعملية السياسية “الجادة” التي يُفترض أن تؤكّد جدوى الأمم المتحدة ونجاحها في وظيفتها الدولية. لطالما وُصفت لغة ستافان دي ميستورا بأنها “جوفاء” أو “سطحية” و”خشبية”، ولطالما عبّر وبعضٌ من فريقه عن مجاملة مكشوفة للنظام على رغم الأهوال التي ارتكبها بعلمهم وكانوا يتجاهلونها خشية أن لا يتعاون معهم. ومع أنه لم يكن متعاوناً حقّاً بل مضللاً ومتحايلاً في الجانب السياسي الذي يعنيهم، ولا متعاوناً في الجانب الإنساني والحقوق-انساني الذي يعني الهيئات التابعة للمنظمة الدولية، فإن تقاريرهم دأبت على تجهيله كـ “طرف” أو كـ “فاعل” تنبغي ادانته أو لومه على أقل تقدير، تحديداً لأنه “الدولة المعترف بشرعيتها دولياً”، ما كرّس مفهوم أن الدولة والحكومة والشرعية يمكن أن تُقدِم على جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وأن تُعاملها الأمم المتحدة باعتبارها غير مسؤولة ومؤهّلة للإفلات من المحاسبة والعقاب.
في قراءة للإحاطة الأخيرة للمبعوث غير بيدرسون، وهو يقارب إنهاء عام على تولّيه مهمته، كان واضحاً أن هناك إصراراً وتوسّعاً في التجهيل وإغراقاً للمعلومات في العموميات، حتى أنه يكاد يبدو محتقراً ذكاء مَن يصغي إليه، ولا سيما السوريين، مع أن الرجل مشهود له بالحصافة والرزانة أكثر من سلفه. فعلى سبيل المثال، استهلّ تقريره بعرضٍ سريع ومقتضب للوضع في شمال غربي سورية، والحملة العسكرية التي تشنّها “القوات الموالية للحكومة” في إدلب. وحين يشير الى استهداف المدنيين والمنشآت الطبية والبنى التحتية كالأسواق والمدارس ومخيمات النازحين ومحطات المياه، كذلك إفراغ شبه كامل للقرى وفرار سكانها العراء من دون مأوى أو غذاء أو ماء، فإنه لا يثير المسؤوليات بوضوح… فلا وجود ولا دور لروسيا إلا عندما يقفز فوراً الى اجتماع الرئيسين الروسي والتركي و”تفاهمهما” على “كيفية تثبيت الوضع في إدلب”، ثم يحيي “هذه الديبلوماسية رفيعة المستوى”. لا شيء عن العنف الأقصى للقصف الروسي وسياسة الأرض المحروقة التي تحبذها موسكو. لا شيء عن مشاركة قوات روسية وأخرى لـ “حزب الله” وميليشيات إيرانية. ولا شيء في العمق عمّا في اتفاق سوتشي من نفاق وتكاذب وتعهّدات لا تستطيع تركيا الإيفاء بها.
كانت محنة إدلب ولا تزال تستحق من المبعوث الأممي أن يدعو المجتمع الدولي الى العمل لتفادي تكرار نموذجَي الموصل أو الرقّة اللتين كان وجود “داعش” فيهما سبباً لتدميرهما واستحالة عودة السكان إليهما بعد “تحريرهما”. قال بيدرسون أن محاربة الإرهاب ينبغي ألّا تعرّض ملايين المدنيين للخطر، معتبراً أن الوضع في إدلب “يتطلّب حلاً سياسياً في المقام الأول”. كانت أطراف دولية عدة توصّلت الى هذا الاستنتاج غير أن روسيا بديبلوماسيتها “رفيعة المستوى” ترى غير ذلك، وتريد إعادة إدلب الى كنف النظام، علماً بأن سيطرة النظام مثل سيطرة “داعش” أو “هيئة تحرير الشام” تؤدّي في نهاية المطاف الى التدمير والتهجير. وكانت “الهيئة” قدّمت نفسها على أنها مختلفة عن “داعش” لكنها لم تتمكن من إثبات ذلك بأي شكل، فهي ساهمت بفاعلية في تصفية فصائل المعارضة العسكرية وكوادر المعارضة المدنية للنظام وتدافع الآن عن سلطتها أو بالأحرى تسلّطها، ولا مشروع آخر لديها. ومن أجل بقائها، ولن تبقى، تقيم علاقة مصالح مع تركيا وتمرّر إحداثيات ميدانية للأميركيين ليقصفوا “حراس الدين” و”أنصار التوحيد” وفصائل أخرى، علّها تعزّز وجودها، لكن وظيفتها ستنتهي يوماً.
لم يبدُ بيدرسون معنيّاً بـ “المنطقة الآمنة” بل بالتوتر في شمال شرقي سورية وكيف أن تفاهمات أميركية – تركية “ساهمت في تفادي انفجار الموقف”. ومع أنه يعرف جيداً أن ثمة ترابطاً بين إدلب والشمال الشرقي بسبب استياء روسيا من عدم اشراكها بمشروع “المنطقة الآمنة”، إلا أن المبعوث الدولي يتحاشى أي إشارة الى ذلك ويفضّل الهرب الى صيغة “الحاجة الى تسوية سياسية حقيقية تضمن احترام سيادة سورية” مع أنها صارت مفرغة من أي معنى. وفي عرضه لما يسمّيه “التوتر بين ايران وإسرائيل” يعود الى حثّ الأطراف على “احترام سيادة سورية”، ولا رأي له بطبيعة الحال في أن النظام هو مَن وزّع تلك السيادة قطعاً لضمان بقائه.
أورد بيدرسون عشرة مخاطر قال ان العائلات السورية تواجهها في الداخل، وأضاف اشارة إلى ملايين اللاجئين الذين يواجهون عقبات أمام عودة آمنة وطوعية “بشكل يحفظ كرامتهم”… وعلى قاعدة أن لا أحد مسؤول في سورية، تبدو هذه المخاطر أو المآسي كأنها جاءت من المجهول وتمضي الى المجهول، بلا محاسبة. وعلى بعد أيام من اليوم العالمي للمخفيين تطرّق بيدرسون الى المفقودين السوريين، وهم يقدّرون بنحو 90 ألفاً بينهم أطفال ونساء أمكن توثيق حالاتهم، من دون أن يفصح عن المسؤولية المباشرة للنظام في اخفائهم، وهو الجهة التي ترفض إعطاء أي معلومات عنهم أو تمكين هيئة الصليب الأحمر الدولي من زيارة السجون والمعتقلين.
كان الرئيس الروسي وصف “مسار استانا” أخيراً بأنه الأكثر فاعلية ونجاحاً، إلا أنه تجاهل كيف أن هذا المسار سجّل فشلاً فادحاً في معالجة ملف المسجونين والمفقودين. أما الأمم المتحدة التي راقبت هذا المسار عن كثب فلم تستطع أن تحرّك هذا الملف الذي يُفترض أنها تحتاج إليه في ما تسمّيه “إجراءات بناء الثقة”. لكن المبعوث الأممي متفائل بحصول تقدّم من خلال اللجنة الرباعية (روسيا وايران وتركيا والأمم المتحدة) وإشراك الصليب الأحمر، إلا أن المعتقلين الذي أفرج عنهم بعمليات تبادل يبقى عددهم رمزياً بالمقارنة مع العدد الحقيقي، وسط إغفال للذين تمت تصفيتهم بالتعذيب ولا يمكن الوصول الى ما يوثّق مصيرهم. أما بالنسبة الى المفقودين فلم يسبق للنظام أن تعاون جديّاً في ملف كهذا، فالمخفي عنده نادراً ما يظهر أو لا يظهر أبداً.
كالعادة، لا بدّ أن تتكرّر لازمة أنه “لا يوجد حل عسكري في سورية”، وهذا ما فعله بيدرسون على رغم يقينه بأن ما يحصل منذ منتصف 2011، وتحديداً منذ خريف 2015 مع التدخّل الروسي حتى الآن، هو بالتأكيد حلٌّ عسكري يُستخدم لرسم معالم الحل السياسي. لا شك أن بيدرسون اطلع على الملفات وأدرك أن المبعوثين الثلاثة السابقين واجهوا عمليات تضليل من جانب النظام دائماً ثم الإيرانيين الروس، سواء للتلاعب بالقرارات الدولية أو لتوجيه المفاوضات بقصد إفراغ الحل السياسي من أي مضمون تغيير أو انتقالي. لم يغادر هؤلاء اللاعبون “مربع الحل السياسي” الذي رسمه النظام منذ البداية وتبنّاه الروس من دون أي تعديل، وهو “الحلّ داخل النظام” أو “الحكومة”، الذي لا يزالون يتحايلون لتمريره بمشاركة تركيا في “مسار استانا” واختزاله بـ “اللجنة الدستورية” والانتخابات. وليس خافياً أن التوصل الى “إطار الحلّ” هذا، بما فيه التلاعب بتركيبة اللجنة الدستورية”، تمّ بالضغط العسكري الروسي الأقصى وليس بالعمل السياسي.
في النهاية يعترف المبعوث الأممي بأنه لا يستطيع شيئاً إذا لم تتحمل الأطراف الدولية مسؤوليتها، لكن أي “مسؤولية” يمكن توقّعها فيما يتنافس اللاعبون على الخريطة السورية. فالروس يكرّرون في كل مناسبة تمسّكهم بـ “وحدة أراضي سورية”، وإذا تمكنوا من ذلك فإنهم يصرّون في المقابل على بقاء النظام الذي يديرون سيطرتهم من خلاله، علماً بأن “مسار استانا” ولد واستمرّ كإطار لتقاسم النفوذ أكثر مما هو للحفاظ على وحدة البلد، فأي وحدة ممكنة مع عمليات التفريس والتشييع، كذلك التتريك والأخونة، في العمق السوري. أما الاميركيون فهم أكثر اهتماماً بالوضع المستقبلي لشمال شرقي سورية، مصرّين على “تزويج” مستحيل للأكراد والأتراك، ومتصرّفين بعرب دير الزور والرقة بإخضاعهم لسلطة الأكراد… كل ذلك يختصره بيدرسون بـ “تشجيع” الولايات المتحدة وروسيا على “تعميق الحوار الثنائي” بينهما، وهو ما جُرّب ولم يفلح.
Sorry Comments are closed