لا زلت أذكر عندما جاء تاجر الزيت إلى والدي (رحمه الله) وقال له والدي: زيت كفرزيتا زيت مميز جداً وهو الأطيب في الدنيا، ضحك التاجر وقال: يا حاج (ما حدا بيقول عن زيته عكر).
ثم قال التاجر: أنا لا أتعامل إلا مع زيت عفرين منذ سنوات عديدة، وأهل عفرين يقولون عن زيتهم مثلكم بأنه الأفضل، وأنا أيضا أقول ذلك دائماً بحكم تجربتي الطويلة معه.
ثم قال: أنا كتاجر الطعم لوحده ليس معياراً وحيداً لدي، لكي أحدد مدى جودة الزيت، أنا أؤمن بنتائج المختبر أكثر من الطعم، سآخذ عينة وإذا نجحت سأعود وأشتري الزيت.
غاب التاجر عدة أيام ثم عاد واشترى الزيت.
ومنذ ذلك التاريخ، وكل سنة كان يأتي ويطلب من والدي تأمين أكبر كمية ممكنة من زيت زيتون كفرزيتا، وبعد أن توطدت علاقته مع الوالد أفشى له بسر غريب، قال: (الحقيقة أن زيت كفرزيتا مميز جداً طعماً ومختبراً، نحن نشتري زيت عفرين لكي نحسن به الزيت السيء، وكل تنكة تخلط بثلاث تنكات، أما زيت كفرزيتا فالتنكة الواحدة تخلط بخمس تنكات وتحسنها..).
من المصادفات الجغرافية التاريخية العجيبة، أن كفرزيتا قديماً هي آخر بلد كان يزرع الزيتون جنوباً من بعد حلب وإدلب، قبل أن يغزو الزيتون الزراعي المهجن باقي أجزاء سوريا، ولا أدري كيف استطاعت البلدة سرقة اسمها المميز من إدلب العامرة بالزيتون بطولها وعرضها.
إلا أن الزيتون اليوم في سوريا يعيش أتعس سنين عمره، وهو ما بين زيتون تقصفه البراميل، وزيتون يحتطب للنار، وما بين زيتون أصبح بيتاً يأوي السوريين المشردين، يعيش معهم الجوع والفقر والبؤس، وعلى كل شجرة زيتون يتصارع خمسة أو ستة جنود من جنسيات مختلفة يطلقون النار على شجرة الزيتون بسبب ومن دون سبب.
رغم أن الأمريكان لا يكترثون كثيراً لا بزيت كفرزيتا ولا بزيت إدلب ولا بزيت عفرين، هم يريدون زيت ما تحت الارض، أما المجرمون الروس يريدون أن يعصروا دماء السوريين ليشربوا نخبها حقداً وسادية، أما نظام الأسد والذي لا يفهم إلا بلغة التعفيش فإنه سيقتطع الأشجار ويبيعها حطباً، ليحقق شعاره الخالد (نحرق البلد من أجل أن يبقى على الكرسي الأسد).
وأما الجيران الأتراك والذين ربما أدركوا ما أدركه تاجر الزيت من قبل أن تنكة زيت من عفرين تحسن ثلاث تنكات فاسدة، ربما لم يدركوا أن زيت كفرزيتا يخلط بخمس تنكات فاسدة، وأن زيت إدلب ربما يخلط بأكثر وأكثر…
وصدق من قال: (إذا إتفق السياسيون أكلوا المحصول، وإذا إختلفوا أهلكوا الزرع).
رغم أننا كسوريين اليوم غير مكترثين لا بالزرع ولا بالمحصول، ونحن مسامحون بالشجر وبالثمر وبالحجر، وبكروم التين والفستق والزيتون، وكل ما نتمناه سلامة الإنسان من أحقادهم وبارودهم .
موسم الزيت والزيتون ليس ببعيد، لكن أي تأخير يهدد حياة الزيتون في كفرزيتا بالموت، فجيش “التعفيش” سيقتلع أشجار الزيتون ويبيعها كما أسلفت حطباً.
لكن إذا كانت لديك رغبة كرغبة الشوق الجامحة في داخلنا، أقول: لا يزال لدينا قليلاً من مونة زيت الموسم الماضي…
عذراً التعليقات مغلقة