الهجوم الذي شقّ دمشق وغوطتها إلى هوائين (مشاهدة شخصية)

طارق العلي22 أغسطس 2019آخر تحديث :
طارق العلي

لم يكنْ صباح يوم اختناق الغاز عام 2013 غير عاديٍ، في سياق حياة غير عاديّة على نحو متطرّف.

نهارٌ من أوّله مهروس بجنازير الدبابات وكتلة البراميل، كان هذا هو يومنا العاديّ في دمشق، منذ انطلاقة الثورة.

تحت مستوى صوت الموت مرتفع الصدى، ثمّة صمتٌ في دمشق، صمت نتن، موبوء بمزيج من مشاعر شبه بشريّة، تشكل كما كنت أحسّها، وما زلت اختبرها في مرض الذاكرة، ركامًا ينذر بأفول بقايا المدينة السوريّة.

كراهية وقحة متوترة تسيل من عيونِ أفئدة تبحث عن الطمأنينة في مجزرة إضافيّة. وفي المقابل خجلُ غير صادق تمامًا، يكتنفه جبن الحكمة، يختبره بعضنا لعدم الانضمام، ولعدم القدرة على الانضمام، للمجزرة التي تقع في بعض الأحيان على بعد شارع أو شارعين.

لم يكن -فيما أذكر من طبيعة الجوّ السائد- ثمّة من شكّ في مصدر غاز الأعصاب، المجرم، كما كان دومًا، في بلد الصمت والخوف، محلّ إجماع غير معلن. وأكثر منه، كان ثمّة سعادة على وجوه آخرين لم يمنع من تظاهرها حياء مدعى، ولا خوفان اثنان، خوف قويّ من عقوبة “الربّ الأميركي”، وخوف خفيّ من شبح الضحيّة.

الهجوم شقّ دمشق وغوطتها إلى هوائين، هواء أخضر حامض منعش تطفو فيه جثامين أطفال ملطخة بالزرقة واللعاب، يبدده صراخ وعويل غير منتظم، تنقله كاميرا مرتجفة وغير محترفة، ترجو “العالم الحرّ”. وهواء محايدٌ عدوٌ عفن خانق يتنفسه ناس ظالمون ومظلومون، ويتسللون خلاله لمتابعة حياة كالحياة، والمرور ليوم آخر، لا صفة جديدة له، إلّا أنّه يوم بلا هؤلاء الضحايا.

في دمشق بين عام 2011 و2014، لا يمكنك علاوة على ذلك إلّا أن تسمع صراخ الأعصاب المنهكة تعذيبًا وشوقًا لموت فعليّ في أقبية المربعات الأمنيّة. لا يمكنك إلّا ذلك طالما أنك مزوّد بجاهز حسيّ وعصبيّ.

هذا حال دمشق قبل ذلك، لكنّ هذا الصوت كان أقل خفوتًا وتواترًا، وكان يمكن تحاشي إدراكه بجرعة أقل من عدم الخجل.

صدقًا، لم يكن الجوّ في دمشق يوم المجزرة يترك لك مجال للشك عن منبع الوحش. وكنا خجلين وخائفين وصامتين، وحذرين من وضع تشخيص التسمم بالغاز الحربيّ لمن أظهروا علامات مماثلة، حيث اكتفينا باتهام المبيد الحشريّ وأتروبا بيلادونا التي يتسمم بها أطفال الغوطة أحيانا.

ولا تشكل المجزرة تاريخًا جمعيًا ولا تاريخًا شخصيًّا إلّا على نحو مضطرب. تاريخ المجزرة ليس إيجابيًّا بالضرورة فيما يخص الضحيّة، أعني، ليس تاريخ المجزرة، كما نفهم اليوم، وهي مستمرة؛ تاريخًا ضامنًا لتماسك الضحيّة، ولا لتوفر مستقبل لها أقل لا عدالة وأقل لا رحمة. هذا ليس مضمونًا بالمرّة، مع أنّنا عولّنا تمامًا على دم الشهيد الأوّل، لا كدافع للكفاح الملحميّ فقط، والذي لا ينتهي إلّا بهزيمة مشرفة كما أحسب لمن كافحوا؛ وإنّما على أمل أن يخجل التاريخ من نفسه وضحاياه شيئًا قليلًا فقط، أو يكف عن كلبيّته غير المبررة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل