مع انتهاء مؤتمر أستانا، وتذكيرنا بجنيف وبملفات المعتقلين التي لا ينسى الذاهبون لكل مؤتمر أن يكرروا على مسامعنا وجودها على طاولة الحوار (دون أن يتم الحديث عنها أو حتى فتحها وإنما يتم الإشارة اليها فقط لمنح شرعية للمؤتمر وليزعموا بأنهم ذاهبون للمطالبة بالمعتقلين)، أصبح من حقنا أن نسال أنفسنا: أهناك حقاً جدوى من هذه اللقاءات؟ وإلى أين ستقود هذه المؤتمرات؟
من وجهة نظر الثورة السورية فإن مؤتمر جنيف قد أخذ مكانا وتشكلت فيه هذه اللجان لتقوم بالتفاوض على المرحلة الانتقالية الواردة بقرار مجلس الامن 2254، حيث ينص القرار على أن الحل في سوريا يجب أن يكون حلا سياسيا من خلال انتقال سياسي تقوده حكومة انتقالية ومن ثم تقوم الحكومة الانتقالية بتشكيل لجنة دستورية لتكتب الدستور الجديد ومن ثم يتم إجراء انتخابات وفق الدستور الجديد، ولكن ما تم فعليا هو تغييرات في أشكال وأجسام التشكيلات السياسية والتي أنتجت الهيئة التفاوضية وتم إنشاء جسم جديد أيضاً من قبل الفصائل العسكرية ليقوم بمفاوضات في أستانا بشكل مباشر مع الروس والإيرانيين مما جعل هناك نوعاً من التنافس ما بين الهيئة التفاوضية ووفد أستانا (والهيئة التفاوضية بدورها قامت بضم هيئات وأحزاب أخرى كمنصة القاهرة وموسكو وسلمتهم مراكز قيادية ليصبح صوت الهيئة أقرب لما تريده روسيا، ويتضح ذلك من خلال تصريحات نائب رئيس الهيئة التفاوضية، وأيضا تم إضعاف الصوت الثوري المعارض ضمن الهيئة).
على ماذا يتم التفاوض حالياً؟
قبل كل دورة تفاوضية يتذرع الذاهبون للمفاوضات برفع سقف المفاوضات وانهم ذاهبون لإسقاط النظام وإخراج المعتقلين وإيقاف القصف والجدير بالذكر ان الحديث عن هذه النقاط يتم فقط قبل الاجتماعات، ولا يتم الاعلان عن أي بند يخص ما تم الترويج له، وإنما دائما تكون المخرجات هي عبارة عن اتفاقيات دولية بين الضامنين والراعين لهذه الاجتماعات حول نقاط مراقبة أو ترسيم خطوط الحدود بين الأطراف المتنازعة أو انسحاب من بعض المناطق لصالح النظام وحلفائه.
أثبتت الأجسام المفاوضة ما بين أستانا وجنيف ابتعادهما عن صوت الشارع السوري الذي يتحدثون باسمه، وقام الشارع برفض تمثيلهم بعد أن كان قد خرج سابقا في مظاهرات حاشدة تأييدا لهم ودعماً لعمليتهم السياسية، ولكن تغير الخطاب السياسي، والتوجه التفاوضي المنحدر أداءً ونتائجاً، جعل الشارع ينقلب عليهم ويقف ضدهم، وبات الرأي حولهم حاليا أن وجودهم هو فقط بسبب الدعم الدولي لهم وبسبب تلبيتهم لمصالح بعض الدول، وليس لانهم منتخبون أو يمثلون السوريين.
هل سيفضي التفاوض لإسقاط النظام؟
منذ أن بدأت المفاوضات وفي أيامها الأولى في 2012 وما بعدها لم يظهر النظام جدية في التفاوض، ففي حين كان النظام السوري تحت مرمى المعارضة السورية في العاصمة دمشق ويسيطر فقط على ما يقارب 25٪ من الأراضي السورية، وقبل دخول الروس إلى أرض المعركة وإقامة القواعد الروسية، دأب النظام على إضاعة الوقت والرفض والانسحاب من المفاوضات أو العمل على تعطيلها، ولم يبدِ أي استعداد لأي تنازل بسيط للقيام باي انخراط بالعملية التفاوضية أو قبول للمعارضة أو إجراء أي تغيير في جسم النظام حتى لو كان على مستويات إدارية وليست رئاسية، فماذا تنتظر المعارضة وعلى ماذا تفاوض؟ خاصة بعد انحسار وتراجع الدعم السياسي والعسكري للمعارضة السورية، فمنذ 2017 قامت الولايات المتحدة الامريكية بإيقاف الدعم العسكري المقدم لفصائل الجيش الحر في الشمال والجنوب، وكذلك تراجع الدعم السياسي حيث باتت أغلب الدول تحث المعارضة على التفاوض لكن دون قيام هذه الدول بإجراء أي ضغط على النظام السوري وروسيا.
بمراجعة سريعة لما قدمته المفاوضات ومن هو المستفيد منها نستطيع استنتاج أن النظام هو وحده من يحقق المكاسب، حيث استطاع أن يفرض سيطرته على العديد من المدن من خلال اتفاقيات هدن محلية محدودة بمناطق معينة ريثما يفرض سيطرته على مناطق أخرى وهكذا حتى سيطر على أغلب المدن الثائرة، وبات يشرعن استمراريته من خلال أنه المسيطر الأكبر على الأرض.
ما البديل عن التفاوض؟
في كل مرة ننتقد المفاوضات والعملية السياسية بشكلها الراهن، يكون الرد من الفاعلين بضرورة التعامل مع الحالة بواقعية سياسية وأن الابقاء على المسار التفاوضي هو أفضل من الوصول الى حالة فراغ سياسي وأيضا لعدم اتاحة المجال للنظام لخلق معارضة خلبية لتجلس امامه وتفاوضه، لكن يا ترى هل تستطيع هذه المعارضة الخلبية التحدث باسم أهالي ادلب؟ او المعارضين الحقيقيين؟ بالتأكيد لا، فلن يكون لهم أي قوة حتى وإن أتى بهم النظام إلى المفاوضات.
أصبحت المفاوضات السياسية والعسكرية تثقل كاهل الثورة ولا بد من إيجاد بديل لها، والبديل هو ليس بالعمل السياسي بشكله الحالي والذي بات يثقل كاهل الثورة ويستنزف سوريا شعبا و مواردا، ويعطي حجة للمجتمع الدولي بالتذرع بأنه يؤدي دوره تجاه السوريين من خلال رعاية هذه المؤتمرات.
لا بد للمعارضة السورية من تغيير طريقة تفكيرها وعملها بعيداً عن العمل السياسي والذي أثبت أنه لا قرار للسوريين فيه، والتوجه الى المناداة للعمل باتجاه المحاسبة والعدالة، خصوصا بعدما أبدى المجتمع الدولي في اجتماعات بروكسل وجنيف حول سوريا استعدادا كبيرا لتفعيل آليات المحاسبة والعدالة والتي لا يمكن لأي دولة أن تقوم بتعطيلها، حتى الدول التي لا تدعم المعارضة السورية، وتجسد ذلك من الدعم الكبير الذي تتلقاه لجنة الآلية الدولية المستقلة الحيادية لسوريا وكذلك الاهتمام بتحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي تثبت تورط النظام السوري وروسيا بقيامهما بجرائم حرب واستخدام صريح ومباشر للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين.
التحرك السريع والموحد باتجاه تشكيل محكمة دولية حول سوريا سيكون بمثابة إعلان انتهاء هذا النظام الذي لم يوقع يوما على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية ليبقي نفسه بعيداً عن المحاسبة، كما أن الجهود الدولية تتحرك ببطء بهذا الاتجاه (تشكيل محكمة دولية لجرائم الحرب في سوريا)، ربما لن ترى النور في القريب العاجل أو خلال السنوات القريبة القادمة، لكنها ستفعل يوما ما، وسنرى محاكمات لرؤوس النظام حتى لو كانت من دون حضورهم، وستجرّم هذا النظام وتضعه في عزلة دولية أكبر من التي يعاني منها الآن.
عذراً التعليقات مغلقة