خائن المدينة

عماد المصري30 يوليو 2019آخر تحديث :
عماد المصري

من منا لا يعلم وقع الخيانة في نفوس من تعرضوا إليها؟ ومن منا لا يعلم معنى الخيانة وآثارها السلبية التي يصاب بها المجتمع؟ فهي صفة ذميمة يوصف أصحابها بالفجور وقلة الاحترام. وكما اعتاد الناس على تعريف الخيانة أو الخائن، فهم غالباً ما يحصرونها في أطر يعلمها الجميع، كخيانة عظمى للبلد حسب ما تصفها المحاكم، أو خيانة المبادئ، كخيانة الزوج(ة) أو الصديق.

ولكن ما لدينا اليوم هو نوع جديد ومنتشر بكثرة، ولا يعده بعض الناس سوى كونه سلوكاً سيئاً أو طبعاً مرفوضاً أو يمكن أن يصفوه بالوصولية المنفعية، مع أن أثره لا يقل، بل يزيد عن الخيانات السابقة جميعها؛ لما يسببه من كوارث ومصائب يصاب بها المجتمع ويتحمل جريرتها، ويدفع ضرائبها على جميع الأصعدة.

خائن اليوم قد تراه في أعلى المراتب والمناصب، وقد تراه من يمثل المجتمع في المواقع التي يحتاج فيها المجتمع إلى من يمثله ليتكلم بصوته، ويعبر من خلاله عن مشاكله. ومن أعظم أنواع الخيانات التي لا يذكرها المجتمع هي الخيانة الأخلاقية. ولربما نستشهد بكلامنا عن الخيانة بعبارة باتت تنطقها الألسن من دون التفكير بعمق دلالاتها المؤذية، وهي “أن الخيانة باتت وجهة نظر!”

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ في إحدى المجتمعات المنفتحة يطلق الرجل على المرأة التي يخون معها زوجته حبيبة، ويطلق على الشخص الذي يخون الشركة التي يعمل بها لمصلحة شركة أخرى منافسة عميلاً، ويطلق على الرجل الذي يجمع أخبار الناس سراً ليزود الحكومة بمعلوماتهم مخبراً، كما يطلق على الشخص الذي يخون بلده لمصلحة دولة أخرى جاسوساً.

ومع أن عملية تجميل صفة “الخيانة” نجحت في كثير من المواقع ليصبح وقعها ألطف على السامع، إلا أنه ما زال يسمى خائناً من دون مواربة، أو هكذا أعتقد. كما أن الفاعل (الخائن) يعمل سراً وخلسة ويتوارى عن أعين الرائين حتى لا ينكشف أمره.

ولكن خائن اليوم الذي نتحدث عنه هو رجل ذو قيمة اجتماعية ومكانة رفيعة في محيطه، ويظهر على العلن، ويعتلي كرسياً منصوباً في الساحات الإعلامية والسياسية والاجتماعية وغيرها، ويتحدث ملء شدقيه عن الأمانة والأصالة والولاء والإخلاص والكرامة من دون تردد، ولا يخشى في حديثه أو ظهوره لومة لائم؛ فهو متمكن ومسنود ومستند إلى دعم عامة الناس المساكين الذين أوكلوه، أو ربما هو من أوكل نفسه للحديث باسمهم وعنهم.

فمن هو هذا الخائن البارع في قلب الموازين الأخلاقية والاجتماعية ليجعل من خيانته مبعثاً للتهليل والترحيب في الأوساط عامة؟ من هو هذا الذي يمارس الخيانة ولا يخشى حتى المسائلة أو الشبهات؟

ببساطة هو شخصية قديمة ومتجددة، وكان وما يزال يتواجد في كل زمان ومكان! ولكننا في مدينتنا على سبيل الحصر، التي تكتظ بنا عن سوانا بشكل ملحوظ، استطعنا رؤية وجهه الحقيقي أول مرة من دون أي تأثيرات جانبية تشوش على أنظارنا أو مسامعنا. إنه الرسول المبعوث من الناس إلى أولي الأمر والسلطة والقضاء في الدولة التي لجأنا إليها.

حمّلته الناس همومها ومشاكلها وآلامها وآمالها وطلباتها، وبعدما أودعوا حملوتهم على ظهره، وبعدما أدار ظهره للرعية متجهاً إلى قبلته حيث يسكن الراعي الذي ينتظر رسول الرعية، تذكر المسكين همومه ومشاكله وآلامه وآماله الشخصية، فأتعبه الحملان معاً، وكان أمام خيارين لا ثالث لهما: (إما أنا أو أنا)، فرمى حمل الناس والبسطاء من على ظهره وبقي حاملاً نفسه وحالماً بنفسه.

ولما وصل إلى بستان الراعي، ركض مسرعاً إلى حظيرته ليعينه على تنظيفها وتمكين أسوارها حتى لا يتمكن الرعية البسطاء من الولوج إلى حوشها فيعيثون فيها الفوضى والخراب، لأنه خشي أن يزيد من أعباء الراعي، وحتى لا يستكثر الراعي مطالب الرعية، فيحول ذلك بينه وبين أحلامه التي يسعى إلى تحقيقها.

لم ينسَ ذلك المبعوث رسم البشاشة على وجهه كنوع من التودد والتقرب إلى الراعي، حتى يفهم الراعي أن كل شيء على ما يرام، وأنه لا ينقصنا شيء سوى الرضا والقبول، ولم ينسَ أن يخبر الراعي أنه ليس لديه مطالب كثيرة سوى بعض الميزات والمكرمات التي كان يحلم بها طيلة حياته، وأن هذا اللقاء بحد ذاته هو جزء من حلم كان يراوده منذ مدة طويلة.

وهناك على الطاولة داخل حوش بستان الراعي، إستأذن الرسول المبعوث السيد صاحب البستان لكي يلتقط بجانبه ومعه بعض الصور التذكارية، حتى إذا رجع إلى الرعية المساكين عرض عليهم ما دار بينه وبين الراعي، وأن الصور تشهد على ذلك.

لنعد إلى خائن المدينة: ما أسخف أن نصل إلى مستوى متدنٍ من التخاطب فيما بيننا لكي نشرح لمن يتصدر مشاهدنا أن مشكلتنا الأساسية (في ظل ظروف القهر والخسائر) ليست في الشخص ذاته، فهو قد يكون من ألطف الناس وأكثرهم دماثة، ولكن المشكلة في سلوكه وإخراجه وطباعه، إنها مشكلة بالمقاييس والاختلاف فيما بيننا، فما تراه أنت قمة الإنجاز وأنت تمثل بضعفك تصوراتك وأوهامك، يراها صاحب المقاييس العالية انبطاحاً وتفريطاً ولا يبالغ إذا قال لك إنها خيانة!

أيها العير إنكم لكاذبون!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل