مقابرنا الافتراضية

عماد المصري20 يوليو 2019آخر تحديث :
مقابرنا الافتراضية

بعدما تفرقت بنا السبل وتناثرت أوصالنا الإجتماعية والأسرية في الداخل السوري وفي بقية البلاد شرقاً وغرباً، وتناثرت معها أواصر الود، وتباعدت مع تلك المسافات خيوط المحبة وعرى الخير والمعروف اللذان كانا السمة العامة لشعبنا، تختزل اليوم معظم علاقاتنا الإنسانية وعاداتنا المجتمعية ضمن عالم افتراضي نقترض منه الحزن والفرح والغضب بكبسة زر صغيرة تحتكرها السمالينغ فايس (الوجوه الضاحكة) على مواقع التواصل الإجتماعي، وتذوب تلك الحالة التشاركية بلحظتها بعد الإنتقال من منشور التعزية بفقيد لأحد الأصدقاء، إلى منشور المباركة بفرح لصديق آخر، دون أن تترك ولو أثراً صغير في النفس لأي من الحالتين.

كل هذا ونحن نمارس بكل حيوية عملية التواصل الإجتماعي الذي نريد أن نعبر من خلاله عن تواصلنا الواقعي والحقيقي مع مجتمعنا القاطن ضمن هذا العالم الذي يلمنا بداخله كما لو أننا كنا نحن تلك الوجوه التي نستعين بها للتعبير
(مجرد أزرار إلكترونية).

ولكن فاجعتنا الإجتماعية لا تنتهي هنا، لأن هناك ما هو أعظم من ذلك! فنحن أيضاً في حياتنا الواقعية كنا نتخاصم ونهجر ونعادي البعض من الذين لا يتوافقون أو يختلفون معنا في الرأي أو في المصالح، وهنا لا يوجد آلية واضحة للتعبير عن ذلك إلكترونياً إلا من خلال إلغاء الصداقة الافتراضية حتى لو كان الملغي هو أحد أفراد العائلة الواحدة، وهذا يتم مع من نختلف معه على الفروع الصغيرة.

أما من يخالفنا في أكبر من ذلك فله مصير أشنع، حيث كنا في حياتنا الواقعية نكتفي بقطع العلاقة معه إذا كنا من الصنف المسالم الطبيعي الذي يبحث عن حياة هادئة خالية من المشاكل بالقدر المستطاع، ولكن في الحالة الافتراضية فهذا لا يكفي، إذ نتحول جميعنا إلى الصنف الآخر المتوحش الذي لديه الإستعداد لإرتكاب جريمة القتل، ومحو المخالف عن وجوده تماماً حتى ينطفئ خبره على الإطلاق.

بل يصل الأمر إلى أبعد من ذلك، بحيث صار بإمكاننا إرتكاب جريمة جماعية بحقه وبحق كل من يمت له بصلة وبكل من يتعاطف معه أو يؤيده ويجامله وكل من يضع له الإعجاب على كلامه.

ولا يكلفنا الأمر الكثير من التفكير ولا التخطيط، فأدوات الجريمة كلها متاحة لنا على أكمل وجه.

ببساطة تجد عند معظم الناس ولا أبالغ إن قلت الجميع، تجد أنهم قد خصصوا مكاناً في خلفية منزلهم الافتراضي لدفن أولئك المخالفين، وبحيث لو اطّلعت على قائمة المحظورين في صفحاتهم ستكتشف بأن الجميع قد امتهنوا الجريمة، والكل تلوثت يداه بدماء زرقاء ما زال أثرها باقياً ما دامت صفحاتهم تدب فيها الحياة.

كل ذلك يحدث دون مراجعة للنفس ولا يترك فيها أي أثر سلبي، ودون حرج ولا تأني في العملية، فبسهولة عالية يمكنك اليوم فتح صفحة الآخر والذهاب إلى خاصية الحظر ووضع إصبع واحدة على الزناد، فتلغيه من وجودك إلى الأبد.

ولو عدنا إلى الواقع الحقيقي لحياتنا وسألت الفاعل ماذا يمكنك أن تفعل حيال الشخص المختلف، ستجده في قمة اللباقة الإنسانية يعبر عن تقبله للمخالف ورغبته في التواصل معه لتبادل الأفكار، سيقول ذلك دون أن يشعر بأي حرج أو تردد أيضاً.

ولكن إن قلت له بأنك قد أفنيت ذات الشخص من حياتك الافتراضية ونسفته من الوجود الذي تعيشه، ستجده يتهرب أو يبرر بأمور تتناقض مع واقعه الحقيقي الذي يدعيه.

ولو أجرينا دراسة عملية على هذا الأمر لنكتشف من يمكنه بالفعل إرتكاب جريمة حقيقية أو عملية إعتقال أو نفي للمخالف، ولو أسقطنا جرائمه الخفية التي اقترفها سراً على الواقع الذي نفترضه؛ سنجد بأن الغالبية العظمى مستعدة لإقتراف ذات الذنب، ولكن ما يمنعها هو الخوف من أن يتم إكتشاف أمرهم فيتعرضون للقانون والمسائلة والمحاكمة.

وبما أن لون الدم الأحمر هو الذي اعتدنا على الخوف من رؤيته، فذلك لأنه مرتبط بالجسد الذي ينزفه فيثير في عين الجاني الذعر والرعب، ولأنه مرتبط أيضاً بالجريمة والعقاب، فكيف سيكون الحال لو علم نفس الجاني بأن اللون الأزرق قد يصبح دماً للأرواح التي قام بسحقها من حياته، وأن هذه الفعلة قد تعرضه للمسائلة!

ولو علم بأنه سيكون هناك قانون يحاسب على ذلك فهل سيكرر نفس الجريمة ويقتص لنفسه بنفسه؟

وهل سيدفن الآخرين بمقابره الجماعية كما فعل سابقاَ؟!

خلاصة القول:  إن عملية تقبل الآخر ليست بالأمر السهل الذي يتغنى به الجميع، فهي أكبر وأعمق من ذلك بكثير،
فتقبل الآخر تعني بالدرجة الأولى تقبل المخالف بكل ما يخالفنا به ومهما كان نوع ذلك الإختلاف، وهي لا تعني أيضاً قبول أو تبني ما يخالفنا به، بل السماح له بالعيش بيننا كما هو، دون الضغط عليه أو تهجينه ليصبح مثلنا، لأننا لو فعلنا ذلك فهذا يدل على أننا نرفضه، ولكننا لا نستطيع الإعلان عن ذلك.

وفي النهاية يبقى السؤال موجهاً لك، ويبقى جوابه منوطاً بك وبحقيقتك الداخلية التي لا يعرفها سواك: هل أنت بالفعل تتقبل الآخر كما تتمنى أن يتقبلك الآخرون؟ … أم أن لديك مقبرة جماعية ترسلهم إليها لتعيش الحياة التي ترغب بها؟!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل