الحسكة، تلك المدينة المنسية أبداً، المدينة التي اتخذ منها الفقر والإهمال مسكناً لهما.
على مدى سنوات حارب أحرار الحسكة الواقع السياسي الذي فرض عليهم من قبل سلطة مستبدة، واقع بائس لمدينة زاخرة بالرقي الثقافي الملون بأطياف المجتمع وطوائفه وأديانه، والوعي السياسي.
لم يجد نظام الأسد الأب وسيلة لتحييد المدينة عن مناهضته أجدى من وأد بذور الوعي الاجتماعي والسياسية والثقافي، من خلال إبعاد المجتمع عن أحرارها بالتغييب والاعتقالات وإطلاق يد الأجهزة الأمنية للتنكيل بالمجتمع، فأطلق العنان لضباط وعناصر أجهزته القمعية لتستولي على خيرات البلد من ينابيع المياه والآبار حتى جفت، وعطشت الأراضي الزراعية، وعاش أهلها سنوات الجفاف والفقر، ورغم ذلك كله واصل مثقفوها وسياسيوها نضالهم لامتلاك ونشر الوعي رغم التضييق الأمني عليهم وحملات الاعتقال.
وفي ظل هذا الواقع القمعي، وما عاشته محافظة الحسكة كان الجميع يتوقع أن الثورة ستبدأ منها.، إلا أن النظام القمعي شدد قبضته واستغل فقر شعبها، وبدأ بتسييس الجاهلين من أهاليها وحشدهم ضد بعضهم، وليس هذا فحسب، بل عمل على تجنيد ابناء العائلات في أجهزته الأمنية ليصبحوا حراساً له من أبناء عائلاتهم الأحرار، فضلاً عن غسيل الأدمغة في المدارس والجامعات، لا بل منذ المرحلة ماقبل الابتدائية، وحتى الحياة الثقافية لم تجد له فرصة للنجاة من ثقافة التمجيد الأعمى للبعث، الحزب الواحد، والقائد الواحد.
وعندما اندلعت الثورة التونسية، وتبعتها المصرية، كنا نراقب من خلال شاشات التلفاز، ونتساءل فيما إذا كانت موجة الحرية ستصل شاطيء الخابور، وسوريا، إلى أن هرب الرئيس التونسي وتنحى الرئيس المصري، ويهتف بعض الأحرار في مظاهرة 17 شباط من العام 2011 في سوق الحريقة في دمشق، عندها امتلأنا يقيناً أن وقت ولادة الثورة السورية قد اقترب، ورغم ذلك بقي الخوف يعترينا من خطورة أي تحرك شعبي معارض في سوريا.
ومع انطلاق هتافات الأحرار في مظاهرات الثورة في درعا وحمص وبانياس ودمشق، وقبل أن يكون هناك أي تنسيقية في المدينة، أصبح الشباب يرتادون إلى الجوامع ينتظرون بلهفة انطلاق هتاف من أحدهم ليكسروا حاجز الخوف.
ولم يمض سوى أسبوع، من بداية الثورة، حتى بدأت جهود تنسيق المظاهرات في الحسكة من قبل ناشطين على الفيسبوك، فكانت بدايات الحراك في مدينة الحسكة محاولات خائفة صغيرة من الجوامع، كانت تقمع على الفور لكثرة العناصر الأمنية الذين اندسوا بين المدنيين بلباس مدني داخل الجوامع، وعند بداية أي هتاف كان الشبان يتعرضون للضرب المبرح.
وفي الأول من نيسان من العام 2011، خرجت مظاهرات خجولة في مدينة الحسكة، كانت المشاركة الشعبية فيها قليلة، حيث لم يزل الخوف يتملك الناس، خاصة عقب استخدام قوات الأسد للرصاص الحي في قمع المظاهرات في المناطق السورية الأخرى.
وكان ملفتاً أن عدداً من المتظاهرين بينهم سياسيين ونشطاء كانوا يذهبون في سيارات خاصة للمشاركة في مظاهرات مدينة ديرالزور التي كانت تشتعل تدريجياً آنذاك، ويزداد زخمها، وآخرون كانوا يتجهون إلى عامودا او القامشلي لمشاركة الأحرار تظاهراتهم هناك.
مدينتا عامودا والقامشلي سبقتا مدينة الحسكة في تخطي حاجز الخوف وأصبحت المظاهرات هناك أكثر تنظيماً وزخماً جماهيرياً، وكان للمعارضين السياسيين المتمرسين في أنشطة المعارضة دور كبير في حراك هاتين المدينتين، ولم يستخدم النظام الرصاص الحي في عامودا كونها ذات أغلبية كردية خوفاً من حراك كردي يشعل المحافظة بأكملها.
كان الهتاف الغالب على المظاهرات هو حرية.. واحد واحد الشعب السوري واحد” الهتاف الذي كان مشجعاً لمثل هكذا مدن ذات مكونات متنوعة.
ظلت مشاركة الناس قليلة في مدينة الحسكة، نظراً لأن النظام قطع خطوط الانترنت “DSL” والكهرباء لساعات طويلة بعد أسبوع واحد من بداية الثورة، واستمر الحال هكذا حتى يوم مجزرة ساحة الساعة في حمص، في 18 نيسان 2011، آنذاك أشعل غضب الشارع السوري، وليبدأ منذ ذاك اليوم زخم المشاركات في الازدياد من مختلف الفئات العمرية والمكونات.
في بدايات مظاهرات الحسكة لم يكن هناك أي مشاركة نسائية، إلى أن انضم طلاب الكليات الجامعيون إلى المشاركة بوتيرة أكبر، وخاصة في مظاهرات الغضب عقب مجزرة الساعة في مدينة حمص، لتنطلق يومها شعلة المظاهرات.
هذه المظاهرة جرى الإعداد لها بترتيب وتنسيق جيد، حيث جرى الاتفاق أن يقوم مجموعة من الطلاب بالهتاف خارج سور الكلية ليبدأ الطلاب بداخلها بالخروج، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح نوعا ما، حيث أن القوى الأمنية كانت تتواجد بكثافة داخل وخارج الكلية، التي كانت تغلق سور الكلية بإحكام خوفا من تزايد المظاهرات، وتقوم باعتقالات للطلاب.
كانت أول الهتافات في كلية الآداب في الحسكة بالحرية و”يا درعا ويا حمص نحن معاكي للموت”، في ال21 من نيسان، والتي كان فيها مشاركة نسائية واحدة، كان من المقرر أن يخرج الطلاب من الكلية للانضمام للمظاهرة وفقاً لما تم تنسيقه، إلا أن حراس الكلية من قوات الأسد أغلقوا أبواب الكلية، وعناصر من قوات الأمن بالزي المدني قاموا باعتقال المتظاهرين من الطلاب خارج الكلية، مع تواجد عناصر من أمن الدولة في الداخل.
في اليوم التالي حضر عناصر من الأمن السياسي ومعهم ورقة موجهة إلى عمادة الكلية بأسماء طلاب يجب مراقبتهم وطلاب آخرين لحرمانهم من الدوام لمدة محددة.
كان هذا الحراك الأول المنظم للطلاب الجامعيين في المدينة، حيث شاركوا بوجوه مكشوفة متحدين عناصر الأمن، ومدركين للعواقب، تلاها عقب يوم واحد مظاهرة في الجامع الكبير في وسط المدينة، حيث خرج المتظاهرون من الجامع عند أول صرخة “الله أكبر” وهتف المتظاهرون بالحرية والنصرة لأهالي حمص ودرعا، ليسارع عناصر قوى الأمن والشبيحة إلى رفع صور بشار الأسد وهتافات مؤيدة، تم خلالها التعدي بالضرب على متظاهرين واعتقال عدد من الشبان.
هكذا بدأت الحسكة رحلتها مع الثورة، لتعيش أجمل أيامها، قبل أن ينقض عليها طغاة جدد، أكملوا سيرة نظام الاستبداد في وأد أحلام أبناء الحسكة بالحرية والكرامة، ولكن إلى حين، فمسيرة الحرية بدأت ولن تنتهي حتى تحقيق أحلام الأحرار.
عذراً التعليقات مغلقة