رسالة من الجمهور إلى الفنّان

فراس السقّال27 يونيو 2019آخر تحديث :
فراس السقّال

لا شك أنّ الفنّ الهادف والدراما الموجهة توجيهاً صحيحاً لها أثر كبير في تنمية المجتمعات ورفدها في مجالات عدة، فالفنّ (التمثيل) وسيلة لمعالجة القضايا الاجتماعية، وإيقاظ الأحداث التاريخية، ونقد الحالات السلبية المنتشرة، إضافة إلى مجالات أخرى يُسهم الفنّ في نهوضها وإظهارها.

والفنّ السوري تاريخه عريق بأعماله وشخصياته وموضوعاته، وقد تصدر منذ عقود ماضية، ثمّ تدنى خلال هذا العقد، حيث كان يعالج المشاكل الاجتماعية الحديثة ببعض الأعمال الجيدة، ويدعو من تلك الأعمال (ولو كانت ضئيلة) إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة، وينبذ آفات الأخلاق وبواعثها، ويهدف إلى تماسك المجتمع والوقوف صفاً واحداً ضد أعداء الوطن، إلى غير ذلك من الموضوعات الجيدة التي تحتفظ بها ذاكرة المتابع العربي المسلم (أرجو أن أكون محقاً بعيداً عن المبالغة).

وعقب صرخة الحرية التي صرخ بها الشعب السوري في ثورته المباركة، والتي أدّت إلى تصدعات مؤلمة في المجتمع السوري، انقسم الشعب إلى معارض للظالم ومؤيد له ولجرائمه، وإلى خائف من سوط النظام مؤيداً له مجبراً إن بقي في بلده، وبالع لسانه لا يتكلم ولا يحدد موقفه مما يجري.

وقد تأثر الفنّ السوري بهذا الانقسام، فهناك الكثير من الممثلين الأحرار رفضوا الظلم والذل فنطقوا بكلمة الحق التي كلفتهم الكثير، فمنهم من سُجن وعُذّب، ومنهم هُجّر وشُرّد، ومنهم من فُصل من نقابة الفنانين بعد طرده من عمله، ومنهم من صُودرت أمواله وممتلكاته. بينما آثر الطرف الآخر حياة الذلّ والظلم، فبقي قابعاً تحت حكم رئيسه الذي قتل وهجّر شعبه، واعتقل المعارضين له وصادر حرياتهم، ودمر أرضه وباع وطنه لكل محتل ومرتزق، ومع كل ذلك بقي يحلف باسمه.

والآن أقول لهؤلاء الذين شخّصوا الشرفاء والشجعان، ولعبوا أدوار العظماء والفاتحين والأحرار، وتكلموا عن الكرامة والحرية والعدالة، ومثّلوا شخصية الثائر في وجه الطغيان، حتى دخلوا قلوب مشاهديهم فأحبّهم جمهورهم، بل غدت محبة الممثلين الأبطال منافسة بين الكبار والصغار، فأضحتْ أسمائهم ومواقفهم على كل لسان، فكنّا نردد ما يقوله الممثل البطل في المسلسل، وكم كنّا نحفظ أدوارهم وحركاتهم ولفتاتهم وكل تفاصيل تمثيلهم، وكنّا نتسمّر أمام ذلك الصندوق العجيب (التلفاز) ننتظر بفارغ الصبر تلك السلسلة من حكايات الخالدين، أو روايات الأبطال، أو آثار الفاتحين، فأدتْ هذه البطولات التي أدّوها إلى ظهور فكر طيب يتلألأ صداه في بلادنا، ما لبث أن تحول إلى منهج حياة لكل محب ومتابع (لعلي بالغت! أو أنّها نظرتي فيما يجب أن يكون التمثيل). وهذا الشغف بالمسلسلات والمتابعات لما يجده المتابع السوري من الأعمال الطيبة الهادفة، التي ترشده إلى السبيل المستقيم والهدف القويم، لا بتلك الأعمال الهابطة الرديئة التي أظنّ أنّها تفعل فعلها في الـمُشاهد أيضاً من تخريب فكره، وانحطاط أخلاقه وانحدارها.

وكلامنا عن الممثلين الذين أصرّوا على البقاء في صف القاتل، يقولون ما يقول دون أي تفكير وعقلانية بما يقترف الظالم. إن تلك الثلّة إما حمقى ومغفلون، أو أنّهم مُجبرون ولا طاقة لهم، أو أنّهم مؤيدون للظلم الذي يمارسه سيدهم فيعتقدون أنّه على حق.

فأما الحماقة لا أظنهم أصحابها، فنحن في زمن لا تخفى فيه خافية، وكل شيء مرئي وملموس، والجميع يعلم الظالم من المظلوم، فحماقتهم لا تأتي من عدم علمهم بل من مجاراة الأحمق وموافقته.
وهم ليسوا مُكرهيّن على أشياء لا يريدونها، فجلّ ممن عرفوا الحق من زملائهم تركوا البلاد وهاجروا، حتى لا يبوحوا بكلمة الباطل التي تمحو تاريخهم وتحقر أسمائهم، وليقينهم أن ما يفعله رئيسهم إجرام بكل معنى الكلمة.
وبقيت الفئة الثالثة وهي التي أُرجّحها، بأنّهم مؤيدون لطغيان رئيسهم وداعمين له، بل ويحرضونه على فعلِ أكثر مما فعله، وقتلِ ضعف ما قتل، والتنكيلِ بكل مخالف لأمره، وقد رأينا وسمعنا ذلك من عدة ممثلين.
وهنا أقول لهؤلاء: الممثل الصادق صاحب الرسالة يجب أن يعيش الشخصية ويدخل في تفاصيلها ويحاكي واقعها حتى ينجح في تحقيقها، إنّ ما كنتم تُجسّدونه بتلك الأعمال التمثيلية، ما أردتم به إيصال رسالة إنسانية لجمهوركم ومحبيكم، بل أردتم به المال والشهرة فقط، فأنتم لم تتأثروا بما تكلمتم وتفاعلتم به بأدائكم، ولا بما عالجتموه من خلال أدواركم، أما إتقانكم لتلك الأدوار فكان كإتقان إبليس دور الناصح لأبينا آدم وأمّنا حواء، لا عن قناعة بما ينتجه تمثيلكم من ثمار مفيدة للمشاهد، وها أنتم اليوم خسرتم أسماءكم التي تعبتم كثيراً في تلميعها، وجمهوركم الذي أوصلكم إلى النجومية، وكل ذلك ببعدكم عن كلمة الحق وإنسانيتكم.

أما صيحات الحرية والعدالة والكرامة التي حرضتّم الإنسان الحر على انتهاجها والدفاع عنها، من خلال شخصيات رائعة لعبتم دورها، ما هي إلا تمثيلية أخرى من سلاسل، كتبتها فروع الأمن لتكون مُتنفساً للشعب المقهور، وكأنّها تخدير مؤقت لمسائل اجتماعية سائدة، أراد النظام علاجها بأسلوب تشبيحي مبطن، فخدعتم شعبكم بالتسلل إلى مشاعره وعواطفه.

وتلك الشخصيات الكريمة التي انغرست آثارها في سويداء قلوب المشاهدين ما هي إلا دليل على الانفصام التام بين إنسانية الدور التمثيلي وإنسانية الممثل، فأولئك يتبرؤون بتلك الأدوار من الإنسانية، فيقولون لجمهورهم: نحن مُجسّمات خشبية صماء بكماء لا قلب لها ولا حسّ ولا عاطفة، يقوم المخرج بإلباسنا أقنعة مناسبة لذلك السيناريو، فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً لا يفقه بما يحمل، فيؤدون دور الرحيم وقلوبهم مع الظالم، ويلعبون شخصية الحر الثائر وهم عبيد مملوكين لسيدهم، ويتكلمون عن العدالة والإنصاف وهم ظالمون لإنسانيتهم ثم لأبناء بلدهم.

والآن وبعد أن كشفت الثورة السورية اللثام عن تلك الأصنام، التي كانت تلبس قناعاً وتخلع آخر، فعتبنا عليهم وعدمه سواء، فإنسانيتهم إنْ وُجدت فهي الحاكم على أعمالهم، وعقولهم إن فَقُهتْ فهي القاضية عليهم، وضمائرهم إنْ كان لها أثر يُرجى فنرجو أن تنبض من جديد، لابسة ثوب الندم على ما فات، لاحقة بدرب الأحرار، وإلا فلا عتب على الجمادات.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل