إلى أين؟ .. إلى الإعدام؟ .. أم إلى المحكمة الميدانية؟ … أم هل سيتم الإفراج عني؟ .. لا أعتقد ذلك!
أسئلة وهواجس كثيرة دارت في ذهني عندما ذكر اسمي مع عشرة أشخاص معتقلين آخرين في فرع المخابرات الجوية.
عيون تروي المواجع وقلوب أدماها التعب والتعذيب.. الجميع ينتظر عند بوابات المهاجع، وتسمع الهمس هنا وهناك.. “أخبر أهلي إن خرجت قل لهم أين أنا”.. “أخبر أمي بأني لم يعد لي حلم سوى قبلات أغرق بها يديها وضمة أخيرة أموت بعدها”.
كنا نبادلهم نفس المشاعر بكلمات مطمئنة: “سنخبرهم إن خرجنا”.
هي أمانات نحملها بعضنا البعض على أمل أن تخفف من ألم الانتظار لدى من نحبهم.
فتح السجان الباب وخرجنا إلى الساحة، وقد أغلقوا أعيننا وقيدونا بسلاسل متصلة ببعضها، الجميع بدون استثناء يتلون الشهادتين ظناً منا أننا سوف نعدم.
في هذا الموقف تسيطر عليك ذكريات العائلة وأصدقائك وأجمل اللقطات التي عشتها في حياتك.
ولكن حتى هذه اللقطات العابرة في الذاكرة لم يمنحنا السجان فرصة الاستمتاع بها، صاح بنا بصوته المزعج، ليخبرنا أننا سوف نستلم الأشياء التي تتعلق بنا من هوية شخصية ومبالغ مادية.
طبعاً لم يكن هناك أي مبلغ مادي تستطيع أن تستلمه لأنهم سرقوه، وسنرحّل إلى فرع أمني آخر.. أي أنها رحلة شقاء جديدة، سنحاول فيها التشبث بالحياة بكل ما أوتينا من قوة.
هنا .. حيث فرع المخابرات الجوية في حمص، فرع الإعدامات والقتل تحت التعذيب بلا حسيب ولا رقيب، وسنرحل إلى المجهول.
بعد تسليمنا أوراقنا الثبوتية صعدنا بالدفع والضرب والركل إلى حافلة صغيرة، منزوعٌ منها كل المقاعد، وصعد معنا ثلاثة عناصر، عرفنا العدد من نبرات أصواتهم المختلفة.
أصبح كل المعتقلين يريدون الوصول إلى وجهة الترحيل بسرعة بسبب موجات الشتائم والضرب التي نتعرض لها عند كل حاجز أمني نقف عنده.
بعد وصولنا إلى الفرع المنشود، عرفنا أنه فرع الأمن العسكري في حمص، استقبلنا العناصر هناك بالشتائم والضرب والإهانات.
في ذاك الوقت لم نكن نتألم كثيراً، لأننا فقدنا هذه الحاسة من شدة التعذيب الذي تعرضنا له ونحن فقط على طريق من حي القصور إلى حي طريق الشام.
أُدخلنا مستودعاً كبيراً “هنغار” مخصصاً للعساكر المنشقين أو المتهربين من الخدمة في جيش الأسد، لم يكن متاحاً للشخص من المكان أكثر من 20 سم فقط، عليه أن يعيش فيها ويأكل وينام.
كان الصيف لاهباً.. والحرارة تكاد تخنقنا، ولم يكن في كل المكان سوى مروحتين تشفطان الهواء خارج المكان، و “طاقة” صغيرة لكي يخرج ويدخل منها الأوكسجين، لأكثر من ثلاثمئة معتقل.
وما كاد يأتي المساء حتى جرى ترحيلنا إلى قسم المعتقلين المدنيين في فرع الأمن العسكري، هناك أحسسنا أننا في نعمة كبيرة، فالفارق بالنسبة لنا شاسع وكبير، حيث لا يتواجد في هذا المهجع الجديد إلا 200 معتقل فقط، أي يملك كل معتقل حوالي 35 سم كاملة ليعيش فيها، وهناك مروحتان وثلاثة مداخل للهواء!
في زنازين الأسد.. جمعتنا ظروف مأساوية واحدة، وألم واحد، ما ساهم في تقريب المسافات بيننا وتبديد الكثير من الاختلافات، وبدأنا رحلة التعارف مع المعتقلين الآخرين، ولكن بحذر شديد خوفاً من بعضنا البعض، ورغم أن الكثير منا كان معتقلاً في مظاهرات تنادي بالحرية، لكن نظام الأسد زرع في عمق وعينا الخوف من بعضنا البعض.. لأن “للحيطان أدان” و “دود الخل منو وفيه”.
وفي كل مكان اعتقال جديد تبدأ قصة جديدة من العذاب والتحقيق..
كل شخص يخرج إلى التحقيق يعود مهشماً دامياً، ليس له القدرة على الكلام، يعترف بأي شيء يريده المحقق، فطرق التعذيب المبتكرة كانت لا تنضب عند هؤلاء المجرمين.
أول حادثة أشاهدها بأم عيني كانت لشاب خرج أكثر من ثلاثة مرات في اليوم الواحد إلى التحقيق دون أن يعترف بالشيء الذي يريده المحقق، وفي كل مرة يعود لنا كان يقول “أنا ماني عامل شي… أنا ما بعترف على شي ما عملته” وفي أخر مرة عاد من التحقيق قال لنا السجان “خذوه ونضفوه عملها تحته.. شي نص ساعة وراجع آخده”.
لا زال صوته المرتجف وكلماته المتقطعة.. أنا ماني عامل شي.. ترن في أذني دون سابق إنذار.. تزورني في الليل والنهار.. تلك آخر كلماته مع صعود الروح إلى السماء.. عندها صرخنا لننادي السجان وقلنا له أنه فقد الوعي ومن الممكن أن يكون قد مات ونحتاج إلى الطبيب.
قال السجان لنا بدون أن يفحصه “وهي خلصناكم من واحد.. خدوا راحتكم .. خلي ثلاثة منكم ياخدوه ويزتوه جنب الحمامات”.
هكذا واجهت الموت تحت التعذيب لأول مرة في سجون الأسد، ولم تفارقني منذ ذاك الوقت صعقة الرعب والشعور بالعدم.
Sorry Comments are closed